الحسين .. سفر الخلود

الحلقة الثانية وقفتُ كثيراً قبل أن يختط القلم هذه الأسطر وأنا أنظر إلى سيرة الإمام الحسين المعطاء التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، لأقارن بينها وبين واقعنا المتخاذل والمنحرف عن مبادئ الإسلام المحمدي الأصيل, الإسلام الحقيقي الذي تجسّد بأروع صوره في منهج أهل البيت (عليهم السلام) في تحقيق القيمة العليا للإنسان وحفظ إنسانيته وكرامته وحقوقه. وقفتُ طويلاً وأنا أقرأ هذا السفر العظيم من التضحية والفداء والبطولة والإيثار، لأقارن بينه وبين ما نعيشه الآن جراء ابتعادنا عن هذه القيم ورضوخنا للتسلّط والتجبّر والظلم وخنق الحريات والإستغلال والإستعباد، وميلنا إلى الشعارات الجوفاء والمبادئ المنحرفة المستوردة، وخنوعنا للفاسدين والمتسلطين, فتساءلت: هل يكفي لنا أن نردد قولنا للحسين: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) ونحن أبعد ما نكون عنه وعن قيمه ؟  هل يكفي أن نستذكر موقفه العظيم في كربلاء بالشعائر والشعارات دون أن نحيي موقفه في أنفسنا وفي مجتمعنا ؟ ثم تساءلت: ماذا لو كان الحسين حياً فهل سيرضى بما رضينا به من الظلم والعدوان وتحكم السرّاق والفاسدين في مقدرات الشعب وأمواله وغصبهم حقوقه ؟ وهل سيرضى بما وصلنا إليه من التراجع والتخاذل ؟ عظمة الحسين لقد ترك الحسين إرثاً عظيماً لم يتركه عظيماً غيره في أمته، يقول الراهب المسيحي انطوان بارا  (لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبراً، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين)، ويقول جبران خليل جبران: (لم أجد انساناً كالحسين سجّل مجد البشرية بدمائه)، ويقول الزعيم الهندي غاندي: (تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً حتى انتصر). وهؤلاء الثلاثة ليسوا بمسلمين، فما أعظم الحسين ؟  لقد أدرك هؤلاء وغيرهم الكثير من العظماء الذين وقفوا على سر عظمة الحسين وقالوا فيه معنى هذه العظمة، ووعوا الأهداف الإنسانية السامية النبيلة التي سار عليها الحسين، وضحى من أجلها واستهان بحياته في سبيل تحقيقها، وهي أهداف تشترك في سبيل تحقيقها الإنسانية جمعاء فالإنسانية ليست وقفاً على دين من الأديان ، أو قومية من القوميات.    ويتجلّى الهدف السامي من ثورة الحسين واستشهاده في قوله: (أيها الناس: إن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرّموا حلاله) لقد كان هذا هدف الحسين الرئيسي من ثورته لقد ثار من أجل محاربة الفساد, الفساد بكل أنواعه الإداري والخلقي والاجتماعي والسياسي فحينما يستشري الفساد تموت القيم, وتموت المبادئ العليا, ويموت الدين, وتموت الأمة!! إن محاربة الفساد هذه الآفة التي تنخر في جسد الشعب وتخلف الأعداد الهائلة من الجياع هو هدف الأنبياء والمصلحين جميعا وقد أخذ الحسين على عاتقه تحقيق هذا الهدف, فأي هدف أسمى وأرقى وأعظم من هذا الهدف ؟ ولقد صرح الحسين (عليه السلام) بعزمه هذا مراراً وتكراراً من أجل إيقاظ الأمة وتحريرها من العبودية فأرسل كلمته يوم خرج من المدينة فقال : (إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله). الحسين يعلمنا كيف يكون الإنسان شجاعاً في الحق ولا ترهبه صولة الباطل ولا تخدعه زهرة الحياة عن أداء رسالة الحق والخير والإيمان ولا يداهن على حساب دينه وكرامته، حتى إذا عاش عاش عزيزاً، وإذا مات مات مع الأبرار كريماً (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).  الحسين تلميذ أبيه القائل: (الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين) علّمنا أن اليد الطاهرة النقية لا تخضع لليد الآثمة الملوّثة وإلّا صارت مثلها، وقد قال: (وعلى الإسلام السلام اذا ابتليت الأمة براع مثل يزيد)، وقال: (والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)، وتتجلى روعة موقفه في يوم عاشوراء على ما هو عليه ماضٍ بقوله: (أمضي على دين النبي). الحسين وريث جده النبي محمد، ووريث دعوته المباركة التي قضت على الجاهلية وأنقذت الإنسان من العبودية، فكان الحسين امتداداً لتلك الدعوة بثورته ضد الفساد والظلم الأموي، فقام بدوره التاريخي الرسالي من أجل إنقاذ الرسالة من أعدائها الألدّاء في الجاهلية والإسلام، فكان المثل الأعلى لكل ثائر على الظلم في كل الأزمان، يقول الكاتب المصري إبراهيم عبد القادر المازني :(لا يزال مصرع الحسين بعد أربعة عشر قرناً يهز العالم الاسلامي هزاً عنيفاً، ولست أعرف في تاريخ الأمم قاطبة حادثة مفردة كان لها هذا الأثر العميق على الزمن في مصائر دول عظيمة وشعوب شتى، ولقد بلغت من الذيوع والشهرة، أن أصبح يرويها الكبير والصغير والمسلم وغير المسلم).   محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار