الأميني .. بوصلة الغدير

أعتقد أن من يريد أن يغترف من (الغدير) الماء العذب الصافي دون أن يتكبّد عناء البحث والتنقيب في المنابع الأخرى فإنه سيجد ما يروي ظمأه الفكري والعلمي والعقائدي عند حوض الشيخ عبد الحسين الأميني الذي ربما تتخيّله وأنتَ تجوبُ عوالم موسوعته الساحرة (الغدير) إنه كان واقفاً مع ذلك الجمع الغفير من الصحابة وهو يستمع في تلك الظهيرة الغديرية إلى خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) التي علّق فيها وصيته في عنق كل مسلم بقوله: (من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، فيقومُ الأميني مع جملة من بايع من الصحابة ليبايع أمير المؤمنين (عليه السلام) بيده وقلبه، ولكن بيعة الأميني تختلف عن بقية من بايعه ليس في مضمون وصية النبي ولكن في امتدادها الزماني والمكاني عبر أربعة عشر قرناً، فقد بايعه بهذه الصيغة: (يا أمير المؤمنين: إني أعاهد الله أن أنذر عمري لهذا العيد، وسأكون شاهداً مع الشمس والغدير، وسأنثر من عبق هذه الكلمات نسائم البشرى في أرباض البلاد، وأيقظ من نداها السنابل في صلاة الفجر، وأناجي الغدير بما ترقرق من كوثره على فم الشعراء، وسأجعل منه واحة غنّاء يُستنشق منها رياحين الولاء).

نهلَ الأميني من الغدير، وآثر أن يجعل تلك الصحراء اللاهبة خصبة بماء الولاء وأن يفعمها بأجوائه، وكان أميناً وحريصاً على لمِّ كل ما تناثر من أصدائه، فاكتنفه وتآلف معه وتماهى فيه فانطق به التاريخ والزمان والمكان والأبعاد رغم صعوبة الوسائل ..

فالمخزون التراثي الهائل الذي استقاه من الغدير يدل على مدى انصهاره في تجسيد ذلك اليوم، وتفاعله في لمِّ حيثيات أحداثه، ورسم شخوصه حتى كأنَّ الحياة قد دبَّت فيه، واختلجت أمامنا تلك الظهيرة الساطعة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.

لقد ألهمه الغدير منابع الحب فحملها رسالة تعبِّر عن أن الغدير باقٍ ما بقي الليل والنهار، وهذا الشرف لا يتأتى لكل أحد، فكان يتنقّلُ بين القرون انتقال النحلة من زهرة الى أخرى، يجمع منها رحيق الغدير ليصبَّه عسلاً مصفّى في خليته (موسوعة الغدير) فدخل بتأليفه هذا عالم الخلود من أوسع أبوابه لأنه أبقى بعده شعلة وقّادة تنير للأجيال طريق الحق المتمثل بقوله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فهذا علي مولاه).

أمة في رجل

ربما يكون هذا الوصف أقل مما يوصف به هذا الرجل الفذ، فالجهود الجبارة التي بذلها في تتبع المصادر وجمع الكتب والمادة التاريخية الضخمة والمتنوّعة حتى أخرج كتابه كنزاً من كنوز المكتبة الإسلامية والعربية جعلت ممثل اليونسكو في الشرق الأوسط يقف مذهولا أمام هذه المكتبة الضخمة الذي بذل عقداً كاملاً للحصول عليها وازدادت دهشته عندما علم إن هذه المكتبة جمعها شخص واحد هو العلامة الأميني فقال: (إن شعباً يؤسّس مثل هذه المكتبة بجهود فردية هو شعب حي ولا يمكن أن يموت)

يقول كمال السيد في كتابه: (دراسة في موسوعة الغدير) (ص11): (إن الأميني سوف يمسك بأثره الخالد متحدياً مدوّنات التأريخ الكبرى التي أهملت عن عمد الإشارة إلى حادثة الغدير لأنها سوف ترسم علامة استفهام كبرى على التأريخ الذي انطلق من سقيفة بني ساعدة.

وسيبقى الضمير المسلم غارقاً في الظلمات ما لم يرن ببصره ليتأمل مرة أخرى بقعة على مفترق طرق قوافل الحج القادمة من مكة لينصت إلى جبريل وهو يوحي عن رب العالمين إلى قلب رسول البشرية محمد الأمين: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).

جوانب من رحلته

أفنى الشيخ الأميني نصف قرن من عمره جهداً وجهاداً في تأليف (الغدير)، وعن سعيه الحثيث في البحث والتدقيق العلمي ومعاناته في الحصول على المصادر نذكر بعضاً من المواقف التي اعترضت طريقه في رحلته الغديرية، ولكنه كافح وجاهد في تذليل عقباتها ورغم هذا الكفاح المُضني إلا أن القارئ ليشعر من خلال تلك المواقف أن هناك تسديداً إلهياً كان يضيء له طريق رحلته.

 

يذكر الاميني في بعض هذه المواقف: (إنه وصل يوماً إلى طريق مسدود في أحد أبحاثه عن الغدير لأن الكتاب الذي يوصله إلى مخرج من هذا الطريق كان مفقوداً وبدونه تبقى حلقة مفقودة لابد من إيجادها لإتمام بحثه حتى قيل له: إن الكتاب بحوزة رجل يسكن منطقة الأعظمية. فقصده الأميني، فدهش ذلك الرجل من هذه الزيارة غير المتوقعة لرجل مثل الأميني)، يقول الشيخ الاميني:

قلت له: (علمت أن في مكتبتك الكتاب الفلاني، وقد جئت من النجف لأطالعه وأعيده اليك)، فدعا الرجل الشيخ الأميني للصعود إلى المكتبة، ويواصل الشيخ الاميني حديثه قائلاً (دخلت المكتبة وشاهدت الغبار على جميع أجزائها والكتب مبعثرة هنا وهناك وكأنها مهجورة ولم يمسها أحد منذ زمن فتركني صاحب المنزل وحدي ونزل، وعند ذلك فتحت حزامي، ووضعت عمامتي وقبائي فيها، وغطيتها من الغبار، وابتدأت بتنظيف الكتب وإزالة الغبار عنها، وكان الجو شديد الحرارة وكنت أتصبب عرقاً، وحيث لا مروحة ولا ماء ولا طعام، وأختلط الغبار بالعرق، وغطى المزيج وجهي وأطرافي وأنا مشغول بمطالعاتي واستنساخي حتى العصر، في تلك اللحظة طُرقت الباب وجاء صاحب الدار والنعاس في عينيه، فاستحى حين رآني في تلك الحالة، ثم تعجّب إني ما زلت هنا كيف وبلا ماء ولا وضوء ولا طعام ؟ وعندها جيء للشيخ بالماء وبعض الطعام فتوضّأ وصلى وراح يستنسخ ويقرأ وأخذ ما يريد).

وهناك حكاية أخرى تدلنا على مدى حرص الشيخ الاميني على استقصاء الحقائق من المصادر والسعي لاستحصال الكتب المعتبرة التي تدعم بحثه عن (الغدير) وخلاصة هذه الحكاية انه بكى يوماً لأنه لم يستطيع العثور على مصدر مهم من مصادر بحثه الذي نذر عمره له فطرق باب أمير المؤمنين (ع) قائلاً له: (إن الكتاب كتابك والغدير لك وأسألك بحقك ومقامك عند الله ان تساعدني في العثور عليه).

ويواصل الاميني حديثه: (بعد أن نمت قليلاً نهضت واذا بطارق يطرق الباب وهو جارنا الذي كان يعمل بناءً يقول: شيخنا انني اشتريت داراً جديدة أوسع من هذه ونقلت معظم الأثاث فوجدت هذا الكتاب القديم في زاوية من زوايا البيت، فقالت لي زوجتي: أن هذا الكتاب لا ينفعك فلماذا لا تهديه إلى جارنا الشيخ الأميني ؟ وعندما قدّم الكتاب إلى الشيخ وإذا به نفس الكتاب الخطي الذي كان الشيخ يبحث عنه منذ شهور)

وهناك قصة ثالثة جرت مع الشيخ الاميني في معاناته في العثور على المصدر الذي يبحث عنه وهو أنه احتاج إلى كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشري وكان هذا الكتاب قبل أن يطبع وينشر خطيّاً ونادراً ولا توجد منه سوى ثلاث نسخ خطية: واحدة منها عند الإمام يحيى في اليمن، والثانية في المكتبة الظاهرية بدمشق، والنسخة الثالثة عند أحد المراجع في النجف الأشرف واستعصى على الأميني الحصول على الكتاب بعد موت هذا المرجع وبعد أن أصاب اليأس الشيخ الأميني قصد كعادته الحرم المطهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتوسّل بالله في الحصول على ذلك الكتاب فرأى فيما يرى النائم الإمام (عليه السلام) وهو يقول: أن جواب سؤالك عند ولدي الحسين. فأستيقظ أثر ذلك وكان وقت الفجر وارتدى ملابسه قاصداً حرم سيد الشهداء في كربلاء وبعد إدائه الزيارة جلس في أحد الأواوين فأقبل إليه خطيب كربلاء الشيخ محسن أبو الحَب، وبعد السلام والتحية دعاه أبو الحَب إلى داره القريبة للاستراحة، وبعد استراحة قصيرة قال شيخنا للشيخ أبو الحب: أرني مكتبتك فلما رافقه إلى مكتبته جعل يتجوّل فيها ويتصفّح الكتب وفيما هو كذلك وإذا به يشاهد ضالته المنشودة كتاب (ربيع الأبرار للزمخشري) !!

يقول الشيخ الأميني: ولما مسكته بيدي تأكدت إنه هو لا غيره خنقتني العبرة وأجهشت بالبكاء فجاءني صاحبي مستغرباً ومستفسراً فحدثته عن قصة الكتاب والرؤية وكيف أن الإمام (عليه السلام) حوّلني على ولده الحسين (عليه السلام) الذي قادني إليك وإلى مكتبتك والكتاب. وفيما يسمع الشيخ محسن أبو الحب تلك الحكاية ترقرقت عيناه بالدموع هو الآخر وقال لي: شيخنا الجليل إن هذا الكتاب الخطي يعتبر من النوادر، وإن قاسم محمد الرجب - وهو صاحب أكبر مكتبة في بغداد آنذاك - وهي مكتبة المثنى دفع لي مبلغ ألف دينار لشرائه وطبعه ولكني رفضت ذلك - وكان ذلك المبلغ في حينها يعتبر مبلغاً ضخماً يكفي لشراء دار - بعدها أخرج الشيخ أبو الحب قلمه من جيبه وكتب عليه إهداءه إلى العلامة الأميني قائلاً: هذا جواب حوّالة سيديَّ الإمامين العظيمين علي والحسين (عليهما السلام).

هذه بعض من الحالات التي واجهها الشيخ الأميني في رحلته الطويلة والشاقة والتي جاب بها البلاد وتحمل المشاق وبذل الأموال في سبيل تحقيق حلمه بتأليف موسوعته الخالدة (الغدير) والتي أوضح فيها الصبح لذي عينين على حقيقة الغدير وسطوعه في التاريخ سطوع الشمس ومن تعامى فهو أعمى بصيرة (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلا).

فقد أفاض في موسوعته دراسة وبحثاً وتحليلاً وبذل في تأليفها جهوداً جبارة تقرب إلى الإعجاز خاصة في ذلك الوقت الذي يتم فيه نسخ الكتب باليد والحصول على المصادر مهمة عسيرة، ولكنه ألمَّ بهذا الموضوع إلماماً تاماً ودعمه من الأدلة والبراهين والشواهد ما يذهل القارئ لكثرتها والتوسّع فيها والتوغّل في تفاصيلها وبما لم يسبقه أحد في ذلك حتى أقترن اسم الأميني بـ (الغدير) فلا يكاد يذكر اسم الغدير إلّا ويذكر الأميني ولا يذكر الأميني إلّا وتذكر هذه الدراسة العلمية الشاملة لحادثة وحديث الغدير، هذا الإنتاج العلمي الهائل والعمل القيم الضخم الذي يعد بحق من الظواهر العلمية الفذة في عالم التأليف.

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار