الخطبة الدينية لسماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي بتاريخ 6رمضان 1438 هـ الموافق 02 /06 /2017م

علينا ان نعي المنهج القرآنيّ المتكامل ونحوّل هذا المنهج الى منهجٍ عمليّ نلتزم به في الحياة

النص الكامل للخطبة الاولى

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الدالّ بآثاره على وجوده، وبتتابع آلائه على عظيم جوده، المستشهد بافتقار موجوداته اليه على غناه، وبإتقان التدبير فيها على حكمته، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له العليّ الكبير، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، خير نبيٍّ أُرسل بخير كتابٍ أُنزل وأقوم دينٍ فُصّل، صلّى الله عليه وآله خلفائه في الدين وأمنائه على الكتاب المبين.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى، واعرفوا حقّ شهركم هذا وحقّ كتابكم وحقّ ربّكم وحقّ نعمته التي اختصّكم الله تعالى بها، وحقّ نفوسكم التي رآها أهلاً لكريم المنازل ورفيع الفضائل، فاتّقوا الله وصونوا هذه الحرمات واغتنموا صومكم لتزكية أرواحكم وتربية نفوسكم وتهذيب ألسنتكم وتطهير قلوبكم، فليست الغاية من الصوم أن يشعر الصائم بالجوع والعطش فحسب، بل الغاية أسمى وأعلى ألا وهي بلوغ التقوى واستشعار الرحمة في قلوبكم وتمرين إرادتكم على الخير..

أيّها الإخوة الصائمون أيّتها الأخوات الصائمات.. ها نحن في بداية شهر رمضان المبارك، نجد من المناسب أن يعيش الصائم الأجواء العباديّة والروحيّة والمعرفيّة التي وضعها للصائمين الإمام السجّاد(عليه السلام) في دعائه إذا دخل شهر رمضان، هناك دعاءٌ قيّم جدّاً في مضامينه للإمام السجّاد(عليه السلام) موجود في الصحيفة السجّادية وهو دعاؤه إذا دخل شهر رمضان، ونحن في بداية هذا الشهر المبارك نستعرض من خلال هذا الدعاء الأجواء المعرفيّة والعباديّة والروحيّة والنفسيّة التي وضعها الإمام السجّاد(عليه السلام)، لكي نصل من خلالها الى الغاية التي أرادها الله تعالى من فريضة الصوم، وسنقرأ بعض المقاطع ثم نشرحها باختصار، فيبتدئ الإمام(سلام الله عليه) دعاءه دائماً بالحمد لله تعالى فيقول: (الحمد لله الذي هدانا لحمده) ثمّ يقول: (والحمد لله الذي حبانا بدينه واختصّنا بملّته، وسبّلنا في سُبُل إحسانه لنسلكها بمنّه الى رضوانه، حمداً يتقبّله منّا ويرضى به عنّا، والحمد لله الذي جعل من تلك السبل –أي الطرق الموصلة اليه- شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام الذي أُنزل فيه القرآن...).

أيّها الإخوة والأخوات الغرض من هذه الفقرة الأولى للإمام السجّاد(عليه السلام) هو أن ينبّه الصائمين فلعلّهم في غفلة عن معرفة خصائص هذا الشهر وأفضاله وإحسانه على المؤمنين، ولعلّهم في غفلة عن مكانة ومنزلة وعظمة هذا الشهر الكريم عند الله تعالى، فيرفع الغفلة أوّلاً ثمّ يجعلهم يستعدّون ويتهيّؤون لأداء هذا الصيام كما يحبّه الله تعالى، أن يكون وسيلةً ومسلكاً وتربية للوصول الى الغاية الإلهيّة ألا وهي التقوى -تقوى الله تعالى- كما بيّنت الآية القرآنية الكريمة، لذلك هو يعدّد هنا منزلة وخصائص هذا الشهر الكريم فيبتدئ أوّلاً (والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره) لاحظوا إخواني هذا الشهر هو الشهر الوحيد من بين اثني عشر شهراً نَسَبه الله تعالى لنفسه وجعله منتمياً اليه وهو شهر رمضان، فقال: شهره أي شهر الله تعالى، في هذا الشهر أكرم الله تعالى الإنسان فجعله ضيفاً مُكرماً عليه من خلال هذا التكريم أراد الله تعالى أن يقول للإنسان احفظ إنسانيّتك مع الآخرين واحفظ لهم كرامتهم واعتبارهم، في هذا الشهر لك منّي –كأنّ الله تعالى من خلال هذه الأحاديث يقول- لك منّي انفتاح إلهيّ كبير، لك منّي رعاية خاصّة بالرحمة والبركة والمغفرة وشهر الترويض للوصول الى التقوى، لذلك اغتنم هذه الفرصة وهي تمرّ في السنة مرّةً واحدة، أنا جعلتك إنساناً ضيفاً عندي مكرّماً أنت أيضاً احفظ هذه الإنسانيّة وراعِ هذه الإنسانيّة مع الآخرين واحفظ للآخرين كرامتهم واعتبارهم، أردتك من خلال هذه الضيافة والرعاية والانفتاح عليك أن تستحقّ خلافتي في الأرض، إخواني ما أعظم هذا المقام للإنسان الذي يستحقّه "خليفة الله في الأرض"، أراد الله تعالى من هذا الشهر أن يستعدّ المؤمن الصائم ويتهيّأ لكي يكون باستحقاق خليفةً لله تعالى في الأرض.

ثمّ يقول الإمام(عليه السلام): (شهره شهر رمضان) وبهذه المناسبة ورد في بعض الأحاديث كما ذُكر عن الإمام الباقر(عليه السلام) وقد ذُكر عنده شهر رمضان، وعامّة الناس يقولون: هذا رمضان جاء رمضان ذهب رمضان، هكذا نجد على ألسنة عامّة الناس، الإمام(عليه السلام) ينهى عن ذلك، لماذا؟ كما في هذا الحديث (لا تقولوا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان...) لماذا؟ (...فإنّ رمضان اسمٌ من أسماء الله تعالى، وهو عزّ وجلّ لا يجيء ولا يذهب، ولكن قولوا: شهر رمضان)، لذلك حينما تذكرون اسم هذا الشهر المبارك أضيفوا (شهر) الى هذا الاسم، لأنّ هذا الاسم كما ورد في هذه الرواية هو اسمٌ من أسماء الله تعالى، لذلك في إطلاقكم باللفظ أو الكتابة اذكروا هذه الإضافة لكي يتطابق ما ورد من التوجيه عن الإمام الباقر(عليه السلام).

ثمّ يقول الإمام(عليه السلام): (شهر الصيام)، ومن الواضح أنّ شهر رمضان هو شهر الصيام، الإمام لماذا يؤكّد علينا؟ ويكرّر أنّه شهر الصيام؟!! لكي يلفت نظرنا الى مسألة مهمّة وهو أنّه يراد من الصائم أن يسمو عن الأجواء الماديّة والشهويّة والغرائزيّة والجسديّة والشيطانيّة في هذا الشهر وبقيّة الأشهر، وأن يخفّف وينفكّ من قيود وثقل المادّة والشهوة والغريزة والشيطان على إراداته وعلى نفسه وعلى دينه، لكي يتحرّر من هذه القيود، لاحظوا المادّة جسد، شهوة، غرائز، شيطان، هذه القيود التي تثقل هذا الإنسان المؤمن تُفقده إنسانيّته وتسحق إنسانيّته وتصرعه أمام المحرّمات وأمام الشهوات، أُريدَ من الصيام أن يحفظ لهذا الإنسان أن يكون إنساناً عبداً لله تعالى لا أن يكون عبداً للشهوات والغرائز والشيطان، هذا المعنى الذي أراد الإمام(عليه السلام) أن يوصله الينا والذي تؤكّد عليه الآية القرآنية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..) لماذا فُرِض علينا الصيام؟! هل لأجل أن نجوع ونعطش فقط؟!! لا.. وإنّما الآية القرآنيّة الكريمة أرادات أن تبيّن أنّ هناك هدفاً وهناك غاية، والصوم وسيلة وسبيل للوصول الى هذه الغاية، (..لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ) الوصول الى هذه الغاية إنّما هو من خلال بيان هذه الأمور، فكأنّ الإمام(عليه السلام) يقول: لا تكن أسيراً لشهواتك وغرائزك ولجسدك وللشيطان، بل كن أسيراً في عبوديّتك لله تعالى، لذلك ذكر أنّه شهر الصيام ثمّ شهر الإسلام، ما المراد من ذلك؟! الإسلام بمعنى الخضوع والانقياد والطاعة، هل المعنى أنّه من خلال الصيام نجسّد الخضوع والطاعة والانقياد لله تعالى؟!! لا.. الآيات القرآنيّة والأئمّة(عليهم السلام) من خلال هذه الأحاديث أرادوا الخضوع العام يعني أن نجعل من جميع مناهج الإسلام منهجاً نجسّده في حياتنا، ليس فقط بالصوم بل بكلّ مناهج الإسلام فالإسلام مناهج متكاملة للحياة، أُريدَ من خلال الصوم أن نخضع لله تعالى في جميع مناهج حياتنا العباديّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة السياسيّة، الكلام الفعل التصرّف السلوك العواطف المشاعر الانفعالات، كلّ ذلك نُخضعه لإرادة الله تعالى حينئذٍ نحقّق معنى الإسلام المتكامل لا الناقص، هذا الشهر وسيلة للوصول الى ذلك الخضوع والانقياد والطاعة الكاملة.

ثمّ يقول: (شهر الطهور) الطهور بمعنى النقاء، يُراد من هذا الشهر يُراد من الصوم أيّها الصائم أيّتها الصائمة أن يكون عقلك نقيّاً من شوائب الأفكار الضالّة والمنحرفة والفاسدة، أن يكون قلبك نقيّاً وطاهراً من مذامّ الصفات والأخلاق، أن يكون كلامك نقيّاً وخالصاً من الكلام المحرّم، أن يكون تصرّفك وتعاملك ومعاشرتك مع الآخرين نقيّةً من التعامل السيّئ والظالم، هذا هو الطهور الذي نفهمه من خلال الصيام، الطهور الحقيقيّ الطهور الإسلاميّ الذي يُراد منه النقاء في جميع ما يتحرّك به الإنسان من عقل وفكر وثقافة وأعراف وتقاليد وتصرّف وسلوك ومشاعر وكلام، أن يكون في كلّ ذلك هناك سعي للوصول الى النقاء الكامل والتامّ في جميع هذه المجالات، أمّا (شهر التمحيص) فالتمحيص هو الخلوص من العيوب يعني من خلال الصوم انفذ -أيّها الصائم- الى أعماق نفسك لتبحث عن عيوبها ودقّق في هذه العيوب عيباً عيباً، واسعَ وراء عيوب نفسك ولا تسعَ وراء عيوب الآخرين وتبحث عنها وتتكلّم بها، هذا هو التمحيص الذي أراده الإسلام من خلال الصوم أن نراقب وندقّق ونحاسب، نراقب في داخل النفس ودواخلها هناك أمور كثيرة، ونبحث عنها وندقّق فيها ثمّ نحاسب هذه النفس لنصل الى الخلاص من جميع العيوب التي تدنّس الإنسان، لذلك يقول الإمام(عليه السلام): (شهر التمحيص).

ثمّ يقول(عليه السلام): (شهر القيام) أي الشهر الذي تتواصل فيه حركة العبادة ليلاً ونهاراً، كما تُلاحظ من خلال العبادات الكثيرة التي وردت في نهار أيّام الصوم وكذلك في لياليه، هذه الحركة المتواصلة التي يُراد منها أن نحفظ علاقة العبوديّة مع الله تعالى، لكي يصل الإنسان الى مقام خلافة الله في الأرض كما بيّنّا، ثمّ يقول الإمام(عليه السلام): (الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان) أيضاً يبيّن الإمام(عليه السلام) في هذا الشهر أنّه خُصّ بالصيام وعُظِّم هذا الشهر المبارك لأنّه أُنزل فيه القرآن، يُراد من هذه العبارة أن ننفتح على القرآن انفتاحاً واعياً، نفهم القرآن نحوّل القرآن الى كتاب هدايةٍ من الضلال، أن نحوّل القرآن الى كتابٍ نتمكّن فيه من أن نميّز بين الحقّ والباطل، لا أن يكون كتاباً نتبرّك به بالقراءة فقط وننال به الأجر والثواب على هذه القراءة، كلّا.. بل إنّه كتاب دستور الحياة (الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان)، هكذا الانفتاح الواعي الذي نفهم منه ونعي المنهج القرآنيّ المتكامل، ونحوّل هذا المنهج الى منهجٍ عمليّ نلتزم به كمنهج في الحياة.

ثمّ يبيّن الإمام(عليه السلام): (فأبان فضيلته على سائر الشهور بما جعل له من الحُرُمات الموفورة، والفضائل المشهورة فحرّم فيه ما حلّ في غيره إعظاماً...)، ثمّ يقول(عليه السلام) بعد أن بيّن مكانة ومنزلة وعظمة هذا الشهر وخصائصه وأفضاله علينا وإحسانه إلينا يبيّن الإمام(عليه السلام) ويطلب من الله تعالى، ويعلّمنا الإمام كيف نطلب من الله تعالى أن يلهمنا معرفة فضله، اقرأوا هذا الدعاء لكي يُلهمكم الله تعالى ويُلقي في روعكم معرفة فضل وخصائص هذا الشهر المبارك، لكي نصل الى الغاية المطلوبة، فقال(عليه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآله وألهمنا معرفة فضله حتى نصل الى إجلال حرمته والتحفّظ ممّا حظرت فيه...) حتى نَفِي بحقوق هذا الشهر علينا ونعطيه ونقدّم التزاماتنا تجاه هذا الشهر، الله تعالى يقول: أعطيكم بهذا الشهر هذا الإحسان وهذا الفضل وهذه الرحمة والمغفرة، وعليكم التزام مقابل ما يُعطى لكم بهذا الشهر، وعليكم التزام مقابل هذا العطاء وهو الإجلال لحرمة هذا الشهر المبارك والإجلال لحرمة الشهر ليس فقط من خلال الامتناع عن الطعام والشراب وبقيّة المفطّرات، وإن كان هذا الامتناع جزءً أساسيّاً وهو المقوّم لبراءة الذمّة من هذا التكليف الإلهيّ، بل هناك إجلال لحرمات أخرى يبيّنها الإمام(عليه السلام) في قوله: (وإجلال حرمته والتحفّظ ممّا حظرت فيه من المحرّمات) ثمّ ينتقل الإمام(عليه السلام) وينبّهنا الى كيفيّة تحويل هذا الشهر المبارك الى وسيلةٍ للوصول الى التقوى وهي الغايةُ الأسمى والأعظم في هذا الشهر.

فيبيّن الإمام(عليه السلام): (وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك)، وقبل أن أنتقل الى هذه الفقرة أودّ أن أبيّن أنّ هناك الكثير من الأحاديث التي بيّنت أنّ مسألة الامتناع عن الشراب والطعام وغير ذلك من المفطّرات، إنّما هي لتقوية إرادة الصائم أمام شهواته وأمام غرائزه، لكي يقوى على اجتناب المحرّمات ولكي لا تصرعه هذه الشهوات والغرائز أمام معصية الله تعالى، ولكي تُحفظ للإنسان كرامته وعبوديّته لله تعالى، يُراد أيضاً من الامتناع عن الطعام والشراب والإحساس بالجوع الانتقال الى التقوى أيضاً، كيف؟ من خلال استذكار جوع وعطش يوم القيامة، خصوصاً في الأيّام الطويلة بساعات صومها، والأيّام التي تكون شديدة الحرّ وفيها مشقّة في العمل، حينما يحسّ الإنسان بألم الجوع والعطش لا تكن دائرة الإحساس بالألم دائرة أنانيّة في حدود الأنا، وهو أن تستذكر في نفسك متى يحلّ موعد الإفطار لكي ترفع هذا الألم، لا.. انتقلْ بألم جوع الدنيا الى ألم جوع الآخرة، فألم جوع الدنيا دقائق أو ساعات قليلة ثم ترفع هذا الجوع والعطش، ولكن لا ندري يوم القيامة كم سيستمرّ جوع وعطش الواحد منّا بحسب ما وفد على الله تعالى في طاعاته ومعاصيه، ربّما يستمرّ هذا الألم -ألم الجوع والعطش- أيّاماً وشهوراً وسنين، لا نعلم بحسب ما يقدم العبد على الله تعالى، استذكر ذلك الهول يوم القيامة هذا أوّلاً، ثانياً هذا الألم -ألم الجوع والعطش- انقله الى مشاعر الألم عند الفقراء والمساكين الذين يتضوّرون جوعاً بسبب عدم إمكانهم للوصول الى الطعام، لكي تنبعث الرحمة من قلبك، قد يقول قائل وهل نحن ليست لدينا رحمة؟!! نعم.. هناك الكثير من القلوب قست حتى على أبناء مجتمعها ومن يشاركونهم في معتقدهم وغير ذلك، كثير من القلوب تحمل في داخلها القسوة، يُراد من إحساس الألم بالامتناع عن الطعام أن تنتقل بهذه المشاعر الى مشاعر الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمعوزين لكي تنبعث الرحمة من قلبك، ويكون قلبك رحيماً عطوفاً رؤوفاً بهؤلاء، انبعاث الرحمة ماذا يُراد منه؟ لاحظ التسلسل أن تتحرّك لكي تُغيث هؤلاء الملهوفين والجائعين سواءً ممّن كانوا يشاركونك في معتقدك وصومك أو من بني البشر ممّن يُعانون مثل هذه المعاناة، هذا وصولٌ الى التقوى، هكذا يراد من هذه المشاعر أن تُتّخذ وسيلةً للوصول الى هذه المرتبة من التقوى.

فيقول الإمام(عليه السلام): (وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك) وهذه مسألة مهمّة، البعض يُمارس الصوم بالاتّجاه السلبيّ بالامتناع لا بالاتّجاه الإيجابيّ الذي يتحوّل منه الإنسان الى تهذيبٍ للجوارح تهذيبٍ للّسان عن القول الحرام تهذيب للبصر تهذيب للسمع تهذيب لليدين تهذيب للرجلين عن الحرام، هذا الصوم الذي يوصل للتقوى، وينبّه النبيّ(صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار في كثيرٍ من الموارد سلوكاً وفعلاً وكلاماً الى هذه المسألة المهمّة، أنّه في يوم الصوم علينا أن ننتبه أن نهذّب ألسنتنا عن المحرّمات عن الغيبة عن النميمة عن الكذب عن البهتان عن الافتراء عن السبّ عن الطعن عن الاستهزاء عن السخرية عن المراء عن الجدال وغير ذلك من هذه الأمور.

والتفتوا إخواني كثيراً ما نجد الصائمين..، وأودّ أن أبيّن هذه المسألة فإنّ أكثر الذنوب ابتلاءً بها الغيبة، في إحصائيّة لزوّار الأربعين هناك استبيانٌ وُجِد من خلال بيان ما يبيّنه الزائرون أنّ أكثر ذنبٍ يقع فيه الإنسان هو الغيبة، وكثيراً ما نجد أنّ الإنسان الصائم لا يلتفت ولا يتنبّه، يُقال له: هذه غيبة! هو غير ملتفت الى أنّها غيبة، مفهوم الغيبة غير متكامل عنده، يتصوّر أنّ هذا الكلام ليس في دائرة الغيبة وهو في واقعه غيبة، انظروا إخواني مجرّد أنّك تؤشّر –من باب المثال ليس إلّا- مجرّد أنّك تؤشّر على إنسان هكذا إشارة أنّه قصير ولم تتلفّظ فهذه غيبة!! هناك كلماتٌ أخرى تذكرها عن أخيك هي غيبة وأنت تتصوّر أنّها أمر طبيعيّ لأنّ هذه الصفة موجودة فيه، وهي ظاهرة للعيان وللجميع وليست مخفيّة، فيتصوّر البعض أنّها ليست بغيبة، فالتفتوا إخواني وأخواتي في يوم الصوم وفي غير يوم الصوم كلّ كلمةٍ تخرج من أفواهكم التفتوا اليها، هل هي داخلة في عنوان محرّم؟! وحتّى أحياناً إذا خرجت عن عنوان الغيبة تدخل في عنوان الانتقاص للمؤمن ونحن غير ملتفتين الى ذلك، لذلك الإمام(عليه السلام) يقول: (أعنّا على صيامه...) بماذا؟ هل قال: أعنّا على صيامه بأن نمتنع تمام نهار الصوم عن الطعام والشراب؟! لا.. بيّن لك في ابتداء الأمر قال: (أعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك..) الجوارح هي من اللسان من النظر من السمع اليدين الرجلين.

لاحظوا إخواني وشاهدوا انتقالة الإمام، تمنع جوارحك عن المعاصي هل يُكتفى بذلك؟! يقول: لا.. هذه الجوارح إنّما خلقها اللهُ تعالى فيك لغاياتٍ ونِعَم عليك أن تستعمل هذه الجوارح فيما يُريده الله تعالى منك، لا أن تكون عاطلاً كسولاً خمولاً، امتنعتَ عن المعاصي استعملْ هذه الجوارح فيما يُرضي الله تعالى، شاهدوا الانتقالة عند الإمام(عليه السلام) قال: (...بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك) لا يعني الصوم أن يكون الصائم كسولاً خمولاً يهمل ما فُرِض عليه من جوارحه من أداء الطاعات وما يرضي الله تعالى، اذهبْ الى أماكن لكي تتعلّم منها أحكام الإسلام وتُعلّم أحكام الإسلام، تتعلّم منها قراءة القرآن وتتعلّم وتفهم القرآن، اذهب واسعَ برجليك -هذا هو الاستعمال للجوارح فيما يُرضي الله تعالى- اسعَ برجليك الى أماكن العبادة لكي تؤدّي صلاةً وذكراً ودعاءً وزيارة، اسعَ بيديك لكي تكتب بها شيئاً ينفع الآخرين وينفعك.. وهكذا، اسعَ ببصرك لكي تستفيد منه في أن تتعمّق في معرفة الله تعالى والتدبّر في آياته، وكذلك اسعَ بسمعك لكي تسمع ما ينفعك من العلم والأمور الأخرى، هنا عندنا شيئان هما امتناع الجوارح عن المعاصي واستعمالها بما يُرضي الله تعالى، لذلك ينبّه الإمام أنّ على الإنسان الصائم أن يكون نشطاً دؤوباً صاحب همّةٍ ونشاطٍ في أن يسعى لاستعمال هذه الجوارح واللّسان أيضاً، كن داعياً به الى الله تعالى وكن داعياً الى الخير وكن داعياً الى تطبيق أحكام الإسلام وكن نافعاً بكلامك، هذا غير أمر الامتناع عن المعاصي.

(..واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي بأسماعنا الى لغو ولا نسرع بأبصارنا الى لهو) التفتوا إخواني إيّاكم واحذروا في نهار الصوم أن تُرتكب المعاصي بهذه الجوارح، و في الليل يتحلّل الصائم من هذه القيود الإيمانيّة، فيسعى البعض بأن يرى ببصره ما هو محرّم ويسعى بسمعه الى أن يستمع الى اللغو وهو ما لا يعتدّ به من الكلام، واللهو الذي يشغله عمّا يعنيه وما يهمّه من أمر آخرته ودنياه، (حتى لا نُصغي بأسماعنا الى لغوٍ ولا نسرع بأبصارنا الى لهو، وحتى لا نبسط بأيدينا الى محظور) شاهدوا الإمام(عليه السلام) يعدّد هذه الجوارح اللّسان الأبصار السمع، أيدينا لا نسعى بها (لا نبسط أيدينا الى محظور)، تارةً الإنسان يستعمل يديه في ظلم الآخرين وفي الاعتداء على الآخرين، وتارةً المحظور التفتوا إخواني الى شيء ربّما البعض غير ملتفت، أحياناً الإنسان يكتب بيديه ما هو محظور من ظلمٍ وغيبةٍ ونميمة وبهتان وافتراء، قد لا يعتدي الإنسان على الآخرين ببسط يديه بالضرب أو الأمور الأخرى بل يجلس ويكتب خصوصاً في هذه الأيّام حينما توفّرت وسائل التواصل التي توصل هذا الذي يُكتب باليد الى المئات والآلاف وتترتّب العواقب الوخيمة على هذا الكاتب، هذه اليد أنت تكتب بها ما هو بمنزلة اللفظ الذي تتلفّظ به، قد لا تتلفّظ بغيبة ونميمة وبهتان وكذب وافتراء وطعن وسبّ وشتم واستهزاء، بل تكتب بيديك هذه الأمور، احذر وحينما تكتب التفت ماذا تكتب، لأنّ هذه الكتابة هي بمنزلة اللفظ، لئلّا تقع يداك في أمورٍ محظورة، (ولا نخطو بأقدامنا الى محجور..).

ثمّ يقول الإمام(عليه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآله وقِفْنا فيه على مواقيت الصلوات الخمس...)، إن شاء الله نُكمل هذا في الخطبة القادمة، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لصيامه وقيامه كما يحبّ ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

المرفقات