الإنسان كلّما جرّد نفسه عن المُلهِيات تكامل عقله والعقل إذا كمل في فرد فهو مفتاح الخير
الإنسان المؤمن هو الذي يأمن ولا تصل حالة الطمأنينة الى الأمن من مكر الله تعالى
النص الكامل للخطبة الاولى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، اللهمّ لك الحمدُ ولك المجدُ ولك العزُّ، ولك الفخرُ ولك القهرُ، ولك النعمةُ ولك العظمةُ ولك الرحمة، ولك المهابةُ ولك السُّلطانُ، ولك البهاءُ ولك الامتنان، ولك التسبيحُ ولك التقديسُ، ولك التهليلُ ولك التكبير.. إخوتي أرباب الفضيلة أبنائي أمل الأمّة آبائي أهل النصيحة، أخواتي ربيات العفّة بناتي بنات الحياء والنجابة أمّهاتي المربّيات على الشجاعة والفداء، سلامٌ من الله عليكم جميعاً ورحمةٌ منه وبركات.. أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله تبارك وتعالى، فإنّه فاز من اتّقى وحمل نفسه على ما تكره لأجل ما يحبّه الله تعالى، وسعد من أخذ من طرف هذه الدنيا ما يعينه على ما في الآخرة.
إنّ من النعم الإلهيّة التي مَنّ الله تبارك وتعالى بها علينا هو أن فتح لنا أبواب رحمته سواءً في أزمنةٍ متفاوتة أو في أمكنةٍ متفاوتة، فلم يحدّنا سبحانه وتعالى بأنّنا لابُدّ أن ندعوه في هذا الزمان دون ذلك الزمان ولا أن نلجأ اليه في مكانٍ دون مكان، نعم.. هناك بعضُ الأزمنة وبعض الأمكنة جعلها الله تبارك وتعالى مفاتيح للدعاء، ولعلّ من هذه الأزمنة هو هذا الشهر الشريف شهر رجب الأصبّ، وقد تقدّم -في بعض ما تقدّم من سالف الأيّام- أنّ الله تبارك وتعالى شَرَطَ الإجابة بالدعاء بل ضمن الإجابة بالدعاء، ولعلّ الإنسان يختلف عن بقيّة المخلوقات أو عن بقيّة الكائنات بأنّه يستطيع أن يُدرك -بما أوتي من عقل- عَظَمةَ الله سبحانه وتعالى، كلّما كان الإنسان عاقلاً وكلّما كان عالماً كانت خشيته من الله تعالى أكبر، لأنّ العالِمَ سيعرف بما أوتي من العلم وإن كان علمُه بالقياس الى ما عند الله تعالى هو قليل، لكن هذا العلم الذي أوتيه لا شكّ سيُعلّمه وسيتبصّر الإنسان كيف يتعامل مع الله تعالى.
نحن نُذعن بأنّ الله تعالى هو ربّنا، لكن الإذعان شيء والعمل الخارجي قد يكون شيئاً آخر، نعم.. العقيدة هي المطلوبة وعلى أساسها توزن الأعمال وعلى أساسها تُقبل، لكن هذه الأعمال تتفاوت من شخصٍ الى آخر، والإنسان عندما يولد في هذه الدنيا يتسارع عليه اللّيل والنهار والصحّة والسقم والغنى والفقر والشتاء والصيف، فجأةً يجد نفسه قد طوى سنين عديدة وشارف على أن يلج الى عالم آخر لا نعرف عنه شيئاً إلّا ما وصلنا من الأخبار والآيات الشريفة التي تهوّل لنا ذلك اليوم، بل تحدّد أنّ هناك ميزاناً ستوزن فيه أعمال الخلائق، الله تبارك وتعالى ندب إلينا -في الآيات والروايات- نَدَبَ الينا أنّ الإنسان عليه أن يدعو الله تعالى وعليه أن يكون قريباً من الله تعالى، فإنّ الله قريب والله يسمع ويرى ولا تخفى عليه خافية، وبالمحصّلة النهائيّة أنّ الإنسان يكون تحت الرّصد، فالله تبارك وتعالى هو الحاكم وهو الشاهد والله تعالى لا تعوزه شهادةُ الشهود في ذلك اليوم الذي توزن فيه الأعمال وتقيّم فيه النتائج، وفي هذه الأشهر الكريمة بدءً بشهر رجب المعظّم يُحاول الشارع المقدّس أن يعلّمنا بعض الأشياء، وهذه الأشياء نحتاج أن نكرّرها دائماً حتّى تترسّخ فينا لا كعقيدة فقط وإنّما كمنهج، مثلاً الناس تعلم الآن أنّ الله تعالى هو الرازق، لكن في موردٍ من الموارد التي تمرّ بالإنسان، الإنسان يجد نفسه شحيحاً جدّاً، فكيف تجتمع مع يقينه بأنّ الله تعالى هو الرازق ومع شحّته التي ترجع الى سوء الظنّ بالله تعالى؟!! هذان الأمران لا يجتمعان!!، خارجاً هو شحيح هذا أمر محرز لكن كونُه عنده يقين بأنّ الله تعالى هو الرازق هذا يحتاج من الشخص الى مراجعة نفسه، الله تعالى يعزّز فينا ويطلب منّا أن نتوجّه دائماً بالدعاء وأن نفهم حقيقة الدعاء.
في هذا الشهر الشريف هناك بعض الأدعية ندب اليها الشارع وكما قلتُ في البدء هذا لا يعني أنّ هذه الأدعية لا ندعو بها خارج هذا الشهر، لكن لخصوصيّة هذا الشهر الله تعالى يُريد أن يعوّدنا حتى لا نغفل ولا تأخذنا الأمور الى غير رجعة -والعياذ بالله-، ولكي نقرّ في داخل أنفسنا أنّ مآل الأمور اليه جلّ شأنه، وأنتم تعلمون الاطمئنان بما عند الله تعالى يُعطي سكينة ما بعدها سكينة، والفزع الى الله تبارك وتعالى دائماً يولّد حالةً من الاستقرار والاطمئنان عند الإنسان، وهكذا كان الأنبياء وكان الأئمّة وكان العلماء وكان الصالحون، أنّ ما عند الله تعالى يولّد حالةً من الطمأنينة عند الإنسان، فبعد ذلك ماذا يكون؟ يكون الإنسان عليه أن يسعى فالله تعالى أمره، والإنسان عليه أيضاً أن يعتقد وعليه أن ينهج منهجاً سليماً، لأنّ الله تعالى أيضاً قال له أو أمره بذلك، ولاحظوا عندنا نماذج تاريخيّة كثيرة ولعلّ خير من نستشهد بهم الأئمّة(عليهم السلام) بعد النبي(صلّى الله عليه وآله)، لاحظوا هذه الحياة المملوءة بالعطاء وفي عين الوقت مملوءة بالثقة غير المنقطعة عن الله تبارك وتعالى، ولعلّنا بقرب سيّد الشهداء(سلام الله عليه) الذي أعطى اللهَ تعالى كلّ شيء ووهب الله تعالى كلّ شيء وهو على ثقةٍ تامّة بأنّ ما عند الله تعالى خيرٌ وأبقى، وإلّا بعض القضايا التي يمرّ بها الإنسان قطعاً تحتاج الى صلابة نفس وتحتاج الى طمأنينة، هذه الطمأنينة مطلوبةٌ منّا فالقرآن الكريم والسنّة المطهّرة والأئمّة(عليهم السلام) أوصونا بها، وكلٌّ منّا يحتاج أن يطمئنّ حتّى لا يُصاب بالهلع ولا يُصاب بالجزع، وإنّما تكون حالة السكينة عنده رغم كلّ ما يمرّ به.
في هذا الشهر الشريف تعوّد المؤمنون تبعاً لسيرة الأئمّة(عليهم السلام) أن يدعوا ببعض الأدعية، ولعلّ بعض الأدعية ذكرناها للإخوة في هذا الموطن أو موطنٍ آخر، لكن لا بأس ببعض الإشارات اليها ومنها هذا الدعاء: (يا من أدعوه لكلّ خير، وآمَنُ سخطه عند كلّ شرّ، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي مَنْ سأله ومَنْ لم يعرفه..) لاحظوا هذا التوجّه وهو أنّ الإنسان في دبر كلّ صلاة يدعو بالأدعية المعروفة يوميّاً، والشارع المقدّس يقول: المعقّب -يعني بعد الصلاة- لا زال في الصلاة، فأيُّ ثوابٍ يكون للصّلاة كأنّ هذه المثوبة حاصلة في التعقيب، أنا لا أتحدّث الآن عن المثوبة فقط إنّما أمرها الى الله تبارك وتعالى، كما أنّ سعة رحمته لا نستطيع أن ندركها فهي رحمةٌ واسعة، لكن نحن مأمورون أن نتفكّر وأن نتأمّل لأنّ الإنسان إذا فكّر بشيءٍ وحصل على علمٍ يسيرٍ قد يفتح له ذلك أبواباً كثيرة.
في هذا الشهر الشريف نقرأ سويّةً أنا وأنتم: (يا مَنْ أرجوه لكلّ خير، وآمَنُ سخطه عند كلّ شرّ..) سأقف مع هذه العبارة ثمّ نُكمل، طبعاً الرّجاء نحوٌ من أنحاء الأمل، أن الإنسان يرجو أي أنّه يأمل، لكن الشارع المقدّس يفرّق بين إنسان يأمل وإنسان قد يتمنّى، الرّجاء طلبٌ ورغبةٌ لشيء أيضاً محبوب لكن لابُدّ أن يُقرن بالعمل، أنا لا يُمكن أن أرجو منك شيئاً وأنت لا تملكه، وإلّا سيكون كلامي معك كلاماً من نوع اللّغو وليست له قيمة، وإنّما لابُدّ أن أرجو منك شيئاً وأتوقّع صدور هذا الشيء منك، الدعاء الشريف يقول -أي نحن ننادي وندعو الله تبارك وتعالى- يقول: (يا من أرجوه...) الرّجاء حالةٌ مرغوبة وحالةٌ محبّبة وحالةٌ فيها طمعٌ وهو طمعٌ مشروع، لأنّ الله تعالى هو أهلٌ أن يُرجى منه، والإنسان إذا لم يطلب من الله تعالى فهذا إنسانٌ ناقص الإيمان، فالذي لا يطلب الخير من الله تعالى ناقصُ الإيمان، إذن من أين تطلب الخير؟ يقول: (يا من أرجوه لكلّ خير)، وعبارة (كلّ خير) عبارة عن استغراق جميع أنواع الخير، لا يوجد خير إلّا من الله تبارك وتعالى، ولذلك إخواني في عقيدتنا أنّ الإنسان بالإضافة الى عقيدته بالذات المقدّسة أنّه يؤمن بالصانع فلابُدّ أيضاً أن يؤمن بأنّ الله تعالى هو مصدر الخير، يعني إيمان بالأفعال وإيمان بالصفات، فنحن إضافةً الى رجائنا ممّن هو أهلٌ أن يُرجى منه وهو كلّ خير، كما تقول مثلاً: اللهمّ إنّي أسألك من الخير كلّه وأعوذ بك من الشرّ كلّه، لماذا؟ لأنّ الله فعلاً هو بيده مفاتيحُ كلّ خير، والله تبارك وتعالى بقدرته أن يمنع عنّي كلّ شرّ، فالإنسان عندما يدعو في هذا الشهر الشريف في كلّ ليلةٍ ويعقّب بعد كلّ صلاة ويتأمّل، فالذي يصلّي صلاة الصبح يتوجّه الى الله تبارك وتعالى ويفتح يومه بهذه الصلاة ويفتح يومه بهذا الرجاء لا شكّ أنّه سيُسعد وسيكون نهاره نهاراً حسناً، ثمّ في وسط النهار يجدّد عهداً مع الله تعالى أنّ الله بيده كلّ خير.
ثم يتعوّذ بطريقة الأمن، قال: (وآمنُ سخطه...) لاحظوا العبارات المستعملة في هذا الدعاء العالي المضامين القليل الكلمات، قال: (وآمن سخطه عند كلّ شرّ) طبعاً الأمان والاطمئنان حالة من حالات السكينة، وحالة السكينة تمثّل حالة الهدوء، وهذه الحالة مطلوبة –إخواني- حتى للّذي يدعو، إذا لم تكن عند الداعي هذه السكينة وهذا الهدوء لا يستطيع أن يدعو دعاءً يلتفت الى معناه، وصدّقوني –إخواني- نحن عندنا مشكلة حقيقيّة، -لاحظوا- إبليس يتألّم من آدم ومن ذريّته، لأنّ إبليس يعتقد أنّ سبب طرده من رحمة الله هو آدم(عليه السلام)، طبعاً آدم نبيّ من الأنبياء لا يكون سبباً لشيءٍ غير جيّد لكن هناك اختبارٌ لإبليس وقد سقط في الاختبار، قارَنَ بين خلقة آدم وخلقته فطُرد، ثمّ بدأ إبليس يتوعّد بني آدم، وإذا توعّد إبليس بني آدم فإنّه سيقعد لهم كلّ مرصد، وأشدّ حالة عند إبليس عندما يبدأ العبدُ بالصلاة وأشدّ من ذلك عندما يسجد هذا العبد، لأنّ هذه السجدة مقابل ذلك الاستكبار الذي حصل منه، والسجدة عمليّة خضوع وتذلّل الى الله تعالى، مقابلها ماذا كان؟ كان ذلك الاستكبار الذي طُرِد من أجله.
ولذلك الأحاديث الشريفة تقول: (أقرب ما يكون العبدُ الى ربّه وهو ساجد)، لاحظوا فلسفة الأشياء، أقرب ما يكون العبد الى ربّه عندما يكون ساجداً، الإمام الكاظم(عليه السلام) الذي تمرّ ذكرى شهادته في هذا الشهر الشريف مرّ بظروفٍ من الجدير أن نقف عندها في بعض الحالات، لعلّ من جملة الظروف التي مرّت واشتهرت عنه أنّه سُجن(سلام الله عليه)، والسجن بأيّ منظور عندما ننظر له فهو حالةٌ غير طبيعيّة فيه ألم وفيه أذيّة، وأن يكون الإنسان سجيناً هو خلاف للوضع الطبيعيّ، وابتُلي بعضُ الصالحين من الأنبياء كيوسف(عليه السلام) والأئمّة(عليهم السلام) كالإمام السجّاد والإمام الصادق أيضاً سُجِن مقداراً من النهار والإمام الهادي(عليه السلام)، الإمام الكاظم(عليه السلام) -على كلّ حال- أشهَرُ من أن يُذكر في سجنه فالقضيّة مشهورة حتّى أنّه استُشهد في داخل السجن، الإمام (عليه السلام) كانت ألذّ حالة من الحالات عنده هو التفرّغ الى الله تعالى، حتّى أنّ خليفة وقته عندما أشرف على القصر أو على باحة رأى شيئاً كأنّه خرقة بالية كأنّه خشبة، قيل: فدقّق النظر وإذا الإمام(عليه السلام) ساجد، فقيل له: هذه السجدة يبدأ بها من الوقت الفلاني ويرفع رأسه في الوقت الفلاني فنعرف أنّه غير نائم، أقرب ما يكون الى الله تعالى في حالة السجود، جزءٌ من مجاهداتنا لإبليس أنّ الإنسان يداوم على السجود.
الدعاء الشريف عندما يقول: (وآمن سخطه عند كلّ شرّ)، الإنسان عندما يُقارن بين خيرٍ هو يرجوه، والله تعالى هو مفتاح كلّ خير ومصدرُ كلّ خير، لا مفتاح فقط بل مصدر كلّ خير، وعندما تُقابَل هذه بشرّ ويعرف الإنسان أنّ إبليس هو مصدر الشرّ، يعني عندما نتكلّم عن مخلوق محدّد إنّما الشرّ مجموعة عوامل مصدرُها إبليس، الدعاء يقول: (وآمن سخطه...) الله تعالى إذا سَخَط وإذا غَضِب لا توجد حالة توقف سخط الله تعالى، لكن لماذا يسخط الله تعالى؟!! الله تبارك وتعالى لماذا يغضب؟!! الله لا يغضب جزافاً ولا يسخط جزافاً وإنّما يسخط ويغضب لأنّ الناس لا تعرف ولأنّ الناس لا تفهم، ففي الوقت الذي الله تبارك وتعالى يرزق والله تعالى يخلق هؤلاء الناس المساكين لا يفهمون فيعبدون غيره، بعض الشرور يعبَّر عنه بلحاظ ما يكتنفنا من حالة من حالات السوء، لكن الإنسان المؤمن هو الذي يأمن ولا تصل حالة الطمأنينة الى الأمن من مكر الله تعالى -والعياذ بالله-، نحن عندنا من الكبائر كبيرتان في جانب الإفراط والتفريط، الأولى: الأمن من مكر الله تعالى -هذه من الكبائر- وهي أنّ الله تعالى قد يُنزل العقاب لأنّنا نجترأ عليه ولأنّنا نرتكب السيّئات، والإنسان عندما يرتكب السيّئات يُحاول أن يؤمّن نفسه فيقول: الله لا يعذّبني، وهذه مشكلة إخواني، والثانية من الكبائر هي أنّ الإنسان ييأس من روح الله ومن رحمة الله تعالى، وقلنا سابقاً الإنسان يكون دائماً بين الخوف والرجاء، هنا المراد ليس معنى الأمن من مكر الله تعالى وإنّما المراد الطمع في رحمة الله تبارك وتعالى، وهذا شيءٌ آخر أنّ الإنسان مهما أجرم ومهما أساء لابُدّ أن تكون عنده حالة من الأمل، أنّ الإنسان يطمئنّ ويؤمن أنّه إذا تدارك ذلك فإنّ الله تبارك وتعالى يخفّف عنه، الله تعالى يمهله، الله تعالى يوسع عليه، الله تعالى يشمله بهذه الرحمة.
إذن إخواني ونحن عندما نستقبل يومنا بهذا الدعاء ثمّ نختم يومنا بهذا الدعاء قطعاً سيكون هناك أثرٌ طيّب، بتأمّل عندما نرى أنّ الله تعالى هو مصدر الخير والله تعالى هو القادر على أن يمنع عنّي جميع الشرور، قال: (يا من يُعطي الكثير بالقليل، يا من يُعطي من سأله، يا من يُعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه)، الله تعالى يُعطي الكثير بالقليل، ماذا نُعطي لله تعالى؟!! نحن الآن واقعاً إخواني لو نتأمّل ماذا نُعطي لله تعالى؟!! مهما نُعطي فهو قليل إزاء ما عند الله تبارك وتعالى، لكن (قليلٌ يبقى خيرٌ من كثيرٍ يفنى)، هذا الدعاء في مقام بيان أنّ كرم الله تبارك وتعالى موجود، والله لا يُمكن أن يكلّفنا أكثر من طاقتنا، لكن الدعاء يريد أن يمجّد الله تعالى، ومن مواطن الحمد والثناء والتمجيد أن نخاطب الله تعالى (يا من يُعطي الكثير بالقليل)، الله تعالى يُعطي الكثير مقابل القليل، الله تعالى يدفع عنّا الكثير مقابل القليل، نحن نمجّد الله تعالى ربّنا بأنّه هو الذي يُعطي هو الذي يهب هو الذي يتفضّل هو الذي يرزق بغير حساب.
لاحظوا التمجيد، الإنسان عليه أن يتأمّل وعليه أن يدقّق وعليه دائماً أن يستذكر عظمة الله تبارك وتعالى، الإنسان مأمور أن يتفكّر، بعض الإخوة ربّما يسأل يقول: بِمَ أفكّر؟! الإنسان مأمور أن يتفكّر (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والناس تتعجّب وتتأمّل! بمَ يفكّر الإنسان؟ وقد ورد في الحديث الشريف: (تفكّر ساعة خيرٌ من عبادة سبعين عاماً) سؤالٌ لطيف وفي منتهى الأهمّية، العبادة معلومة وهي أنّ الإنسان يعبد، لكن عندما -في المقابل- يأتينا تفكّر ساعة خير من هذه العبادة بمَ يفكّر الإنسان؟ التفتوا طبعاً التفكير يختلف باختلاف المدركات، هناك إنسانٌ عاقل مؤمنٌ دقيق طبعاً تفكيرُه يختلف، لكن بالنتيجة الإنسان لابُدّ أن يفهم قيمة نفسه إزاء عظمة الله تعالى ولا يغيب عن نفسه هذا التفكير إطلاقاً، في كلّ شاردةٍ وواردةٍ لابُدّ للإنسان أن يلتفت ولا تغيب عن ذهنه هذه الأشياء، الإنسان عندما يضع رأسه على الوسادة يتأمّل أنّ الله تعالى خلقه، الله تعالى أراد منه شيئاً، الله تعالى جعل عمره يمضي منه العشرون والثلاثون والأربعون والخمسون والستّون، وهذا العمر عندما مضى وقضى ماذا أنتج له؟! ماذا عمل؟! ثمّ ما هي النتيجة التي سيُقبل عليها يوم غد؟! الله تعالى خلق هذا الخلق وجعل بني آدم سيّداً من أجل ماذا؟! الله تعالى أرسل رسلاً وأنبياء وختم الأنبياء بنبيّنا(صلّى الله عليه وآله) ثمّ ماذا يريد منّا؟!! الإنسان كلّما جرّد نفسه عن هذه المُلهِيات كملت أو تكاملت نفسُه بل تكامل عقله، والعقل إذا كمل في فرد فهو مفتاح الخير.
لاحظوا بعض الشواهد، بعضهم يقول قرأت فيما قرأت أنّ الإنسان إذا عنده حاجة –مثلاً- يذهب الى مسجد الكوفة ويُصلّي ركعتين يقرأ فيهما كذا وكذا، يقول كانت عندي حاجة فذهبت الى مسجد الكوفة، بدأت أشتغل بالصلاة فوقع نظري على منارة المسجد –القصّة قديمة- فرأيتها منارة عتيقة، فقلت في نفسي: لو تُستبدل هذه المنارة وتُبدّل بالهيئة الفلانيّة والشكل الفلاني -أي أن تتغيّر- لكان أفضل، فجأة رأيتُ نفسي قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يعني أنّني أنهيت الركعتين وأنا قد هدمت المنارة وبنيتها بلا أن أتوجّه أصلاً الى سبب المجيء، أحد الأصحاب يقول: رأيتُ زين العابدين(عليه السلام) في مسجد الكوفة صلّى ركعتين وأراد أن يخرج، سألتُه: ما الذي جاء بك؟! قال: (الذي رأيت، ركعتان جاءت بي)، أي لأجل هاتين الركعتين، المقصود إخواني نحن لا نتحدّث بقضايا مثاليّة لكن نطمح أن نكون متوجّهين، لأنّ هذا التوجّه هو الذي يفتح أبواب الخير، والذي يتفكّر يحصل على بعض ما يُمكن أن يعينه على ذلك، وإلّا أنا أقرأ هذا الدعاء في كلّ رجب منذ حفنة من السنين، لكن لا أعرف كنه هذا الدعاء لأنّي كلّما أقرأ ذهني يذهب الى شيءٍ آخر، وقد أحفظه عن ظهر قلب لكنّي –حقيقةً- كالببّغاء لا أفهم منه شيئاً ولا أعقل شيئاً، قطعاً الله تعالى ميّزنا عن سائر المخلوقات فالإنسان عليه أن يفكّر، وبالنتيجة لابُدّ لنا إخواني من الانتقال من هذا العالم الى عالمٍ آخر شئنا أم أبينا، فالدعاء عندما يقول: (يا من أرجوه لكلّ خير) لابدّ للإنسان أن يعرف ما هو منبع هذا الخير ومصدر هذا الخير؟! وعندما يأمن من سخط الله عند كلّ شرّ ثمّ يقول: (يا من يُعطي الكثير بالقليل) كأنّه يرى أنّ نعمة الله تعالى عليه كثيرة وكبيرة، فلا يتجرّأ أن يقول إنّ الله تعالى لم يُعطِني شيئاً، قد يخرج الإنسان من الإيمان الى الكفر بلحظة، وبالنتيجة ليس الكفر العقائدي وإنّما كفر النعمة، الإنسان عليه أن يفهم الأشياء فالله لا يريد أن ينتقم منّا إذا كانت نعمة لم نوفّق لها، الله تعالى لا يريد أن ينتقم منّا بل الله تعالى يتحبّب الينا (وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ) هذا من دعاء الإمام(عليه السلام)، الله في كلّ شيء يتحبّب الينا لكنّنا لجهلنا ولأنّنا لا نعرف أنّ الله تعالى يتحبّب الينا نتصوّر أنّ الله تعالى يريد أن ينتقم منّا -والعياذ بالله-، هناك فرقٌ إخواني بين إنسانٍ يلتفت الى ما يريد الله تعالى منه وإنسانٍ غافل تمضي الأيّام واللّيالي وتطحننا طاحونة الليل والنهار الى أن يكون الانسان بعد ذلك على شفير القبر ولاة حين مندم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرعانا وإيّاكم برعايته وأن يجعل هذا الشهر الشريف نِعْم العون لنا على مراجعة أنفسنا، اللهمّ أعنّا على أنفسنا كما أعنت الصالحين على أنفسهم يا أرحم الراحمين، واجعلنا من الذين تشملهم برحمتك وتصبّ عليهم الرحمة في هذا الشهر الشريف، بمحمد وآله الطاهرين وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
اترك تعليق