عمائر تحاكي الروح ..

يمثل النموذج محراباً من النوع المجوّف وهو متواجد في أحد الشواخص المعمارية الإسلامية في الهند ويعود تاريخه إلى العصر العباسي الثالث ، وهو متألف من عدة تجاويف ومكوّن من حنية غائرة ذات مسقط دائري يكوّن نصف قبة كروية ذات عقد مفصص، مؤلف من مجموعة من الأقواس المتسلسلة والمتتالية مستندة على عمودين اسطوانيين غنيين بالزخارف النباتية، نقشت في الأول وحدات زخرفية ذات عناصر نباتية وهندسية وكتابية ملوّنة، يحتضن هذا المشهد عقد آخر كبير ولكنه مدبب بارز بشكل تجويف على سطحه مجموعة من العناصر الكتابية الممثلة بخط الثلث بنصوص قرآنية مؤطرة  بأشرطة مزخرفة .

نلاحظ في هذه التحفة المعمارية إصرار الفنان المسلم في مزاوجة المحراب المسطح مع المحراب المجوّف بجانب التنويع الحاصل في أنواع العقود، فضلاً على مبالغته في بسط نسيج من الزخرفة ذات الوحدات الهندسية والنباتية المتداخلة معاً على الفضاء التصويري ومن ثم ترصيعها بالكتابات القرآنية على شكل أشرطة متوازية تعتمد الايقاع الحركي المتوالي والمتوازن الذي يؤدي إلى إنتاج تحفة فنية رائعة تنتمي بلا شك إلى الجمال المطلق اللا مرئي .

بمعنى إن الفنان المسلم بقي في إنتاجه للفن مرتبطاً بالعقيدة الإسلامية المستندة إلى تعاليم القرآن الكريم التي لفتت انتباه منفذ المحراب إلى آثار الجمال الإلهي المطلق الذي يشترك في وجودها الفكر والروح والقلب الممتلئ بالأيمان بالله جل وعلا، وقد أضفى على أعماله جمالاً وسحراً روحياً ينفتح على عوالم لا متناهية تكشف عن الحرية القابلة للتأويل لتنطق بالمخفي فتصيِّره مرئياً.

إن الطاقة التي تحملها الوحدات الزخرفية ذات العناصر النباتية والهندسية التي منحها الفنان للمحراب، والمعتمدة على الحركة والتوازن الفضائي للزخرفة المتداخلة، أدت الى انفتاح أفق التلقي القابل للتأويل بحدود جدلية المرئي واللامرئي في صورة المحراب إلى ما لا نهاية في كل قراءة جديدة، لأن المحراب قد ابتعد بمساعدة هذه الطاقة عن الجزئيات المرئية التي أحالها زخرفياً إلى مجرد ومضات خافتة من الضوء .

وبما أن المحراب يعتبر ابتكاراً معمارياً اسلامياً صرفاً ويرمز إلى اتجاه القبلة ويؤسس ضمن فضاء واسع مشروط بالطهارة يصلح لعبادة الخالق سبحانه وتعالى، فإن المسلم قد اتخذه كرمز للطهارة بجانب رمزه الروحي الدال على اتجاه القبلة، حيث وجدناه قد رسخ هذا الرمز عن طريق كراهيته تصوير العناصر الآدمية والحيوانية المرئية على أروقة المحراب، بجانب محاولاته الجادة لإضعافه للجوانب المادية الدنيوية الفانية والتركيز في العناصر الجوهرية المتمثلة بالأشكال الهندسية المجرّدة والوحدات النباتية والتي جاءت كتمثيل صادق لهواجس التفكير بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، فضلاً عن ابداع فضاءات حركية ذهنية تُوحي بوجود مركز لامتناهي للوحدات الزخرفية للمشهد العام للمحراب لتُعطي أشكالاً منحنية متحدة مع المركز تتسامى من المرئي إلى اللامرئي وفق جدلية فكرية تنتقل بالصورة من المادي إلى الروحي وصولاً إلى المطلق .

وبهذا المفهوم الروحي تأكدت لدى المتلقي نظرة كلية موحدة لمجمل تكوينات المحراب المجردة في ظل مفاهيم الإسلام الروحية التي تنظر إلى الحياة الأخرى الباقية على أنها امتداد لحياتنا الدنيوية الزائلة، ومن هنا يتحدد الشعور بوجوب التخلي عن العالم المرئي تدريجياً ليعوَّض عنه باطنياً لأجل التركيز على فكرة شمولية واحدة هي الله سبحانه وتعالى ، فيتجلى للإنسان قبس من نوره الكريم بوصفه الوجود المطلق اللامرئي الذي ليس كمثله شيء.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة    

المرفقات