المشيئة الآلهية لمظلومية الإمام الحسين عليه السلام (ج٢)

بعد أن كوّنّا مفهوماً يسعفنا في قراءة طبيعة حركة الإمام الحسين عليه السلام ، وهل الإمام الحسين عليه السلام  كان قد سار إلى مقتله؛ لأنّه يعلم بأنّه مقتول، وأنّه لا بدّ من أن ينجز ما عليه؛ لأنّ المشيئة الإلهية اقتضت ذلك، والنتائج المترتّبة على قتله هي الهدف الحقيقي الذي لا يمكن تحقيقه إلّا بدمائه الطاهرة، أو أنّ الإمام الحسين كان أمام خيارات متعدّدة طِبقاً للمشيئة الإلهية؟ كما قال تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[54] لكنّ الظروف لم تُسعف الحسين عليه السلام  نحو تحقيق أهدافه السياسية، بل كانت الأسباب أدَّتْ إلى تلك النتيجة المأساوية، وهذا ما ثبت في مشيئة الله تعالى، وهذه النتيجة بحدّ ذاتها لا تخلو من أهداف واقعية ساهمت وبشكلٍ كبير في خلق الاستعداد في نفوس المؤمنين، للوقوف ضدّ الظلم والطغيان، وأحيتْ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية بالنفس والمال والعيال من أجل إحياء دين الله تعالى.

وبهذا، فنحن بين الشدّ والجذب، بين مَن ذهب إلى الاحتمال الأوّل[55]، ومَن ذَهَب إلى تبنّي الاحتمال الثاني الذي ذكرناه.

ويعزو الشيخ قيصر التميمي إلى أنّ مَن تبنّى الاحتمال الأوّل في رؤيته لواقعة الطف يعود إلى أسباب وإشكاليات عقدية وتاريخية وغيرها، أجاب عنها في بحثه الموسوم: الأسباب والمبرِّرات العقدية والتراثية للتفريط بالأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينية[56]، ومن جملة الردود على هذه الرؤية قوله: «والحاصل أنّ المشيئة الإلهية الفعلية التي أخبر عنها الإمام الحسين عليه السلام  لا تغلق الأبواب أمام إمكانية تحقيق النصر العسكري، ولا تُلغي الأمل والرجاء في إصلاح الأُمّة، وإسقاط الحكومة الظالمة، وإقامة حكومة إسلاميّة عادلة بديلة عنها؛ ولذا خرج الحسين عليه السلام  بأمل ورجاء تحقيق وإنجاز تلك الأهداف والمصالح والغايات السامية... ينبغي أن نُميّز بين النصوص الصادرة في أوائل أيّام النهضة، وبين ما صدر في نهايتها، حينما أصبح الإمام الحسين عليه السلام  على مشارف الكوفة، وبعد انقلاب أهلها؛ لأنّ ما صدر في الأيّام الأخيرة كان أقرب إلى الشهادة من النصر، وجملة من النصوص التي ذكرتْ هذه الإشكالية هي من نصوص الأيّام واللحظات الأخيرة للنهضة»[57].

والحقّ أنّ هذا الإشكال قائم؛ لأنّنا أمام نصوص وعبارات تؤيّد الطرفين، إلّا أنّ الجمع بينهما هو الحلّ الأنسب، فالإمام الحسين عليه السلام  باعتباره إماماً معصوماً مفترض الطاعة، ومكلَّفاً أمام الله تعالى أيضاً، فعليه أن يؤدّي تكليفه الواقعي مهما كانت النتائج، فإذا كان تكليفه هو القتل من أجل الدين، وفي هذا القتل يكون قد حقّق نتائج عظيمة، «وإنّما الذي حصل هو الهداية والرعاية للبشر دينياً ومعنوياً وإنسانياً بمقتله وشهادته سلام الله عليه؛ إذ أعطى المثال الأعظم للتضحية الضخمة بهذا الصدد، فكان النبراس الأفضل الذي يُضيء للأجيال طريقهم باستمرار، وإلى يوم القيامة»[58]. أو كان تكليفه طِبقاً للقواعد الإسلاميّة العامّة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب الإصلاح، وهذا ما تحقّق أيضاً بخروجه عليه السلام ، إمّا بإقامة الحكومة الإسلاميّة العادلة، فإنّ هذا الأمر وإن لم يتحقّق في زمانه إلّا أنّه هدف إلهي على المرء أن يسعى إليه وأن يطلبه، سواء تحقَّق على يديه أم على يد الأجيال التي تليه، فهو بهذا يكون قد شارك فعلاً في تحقيق هذا الهدف، ولا تنافي بين مقتله وهذا الهدف، بل يمكن القول: إنّ حلم الأنبياء كان في تحقيق هذا الهدف، وتحقّقه على يد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف  لا يعني حصر أسبابه في فترة ما قبل الظهور أو بعده، بل نستطيع القول: إنّه من نتائج تلك التضحيات التي كانت على أيدي الأنبياء والأولياء ـ والحسين عليه السلام  منهم ـ تأكيد هذا الهدف، فإلى اليوم أضحت تضحيته تقدّم لنا الأمل بقيام دولة العدل الإلهي، وإلى ذلك يُشير قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[59].

والإشكالية القائمة في تصوّر أهداف الإمام الحسين عليه السلام ، وما هو مرتكز عنده، هي ما أشار إليها أصحاب الاحتمال الثاني، إلّا أنّ تعذّر ذلك وعلمه المسبق، سواء عن طريق جدّه، أو عن طريقٍ آخر، باعتبار أنّه كان يعلم بمصيره المحتوم، سواء بعلمه اللّدنّي أم بواسطة قراءته لمُجريات الأُمور، وهذا ما أشار إليه عليه السلام  في بعض أقواله ومنها: «وأيمُ الله، لو كنتُ في حجر هامّةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني، والله ليعتدنّ عليَّ كما اعتدتْ اليهود في السبت، والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي»[60].

فإنّ تعذّر ذلك ـ وعلمه المسبق يقطع الطريق أمام مَن تبنّى الاحتمال الثاني ـ فالمشيئة الإلهية اقتضت أن تكون تلك المظلومية للإمام الحسين عليه السلام ، وهو عالم بأنّه مقتول، وشاء الله ذلك، بمعنى أنّه تعالى أذن به وشاء للقتل أن يحصل، ولكنّه بتدبير بني أُميّة، ومَن يقف خلفهم، لكنّ جهلهم وعلم الإمام الحسين عليه السلام  بالحكمة الإلهية لهذه المظلومية جعلته يسلك الطريق الأمثل لتحقيق النتائج المطلوبة من هذه المظلومية، وهذا ما دلّ عليه كلامه عليه السلام  مع محمد بن الحنفية: «أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، اُخرج فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً. فقال محمد بن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ قال: فقال [لي صلى الله عليه وآله وسلم ]: إنّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا»[61].

 

اشتراك العيال في المظلومية والمأساة

نعرض هنا ما حلَّ بعيال الحسين عليه السلام  واشتراكهم في المظلومية والمأساة، وجريان الأحداث وما تضمّنته من مأساة وقتل وأحداث أليمة أمام أعينهم، والوحدة التي عاشوها بعد غياب الرجال، والممارسات الوحشية لجيش بني أُميّة مع الأطفال والنساء، ثمّ أخذهم سبايا أمام الملأ إلى قصر عبيد الله بن زياد، ومحاولات ابن زياد للتشويش على فعلته النكراء، وما يترتّب على ذلك من مسؤولية تجاه علي بن الحسين عليهما السلام ، أو عمّته العقيلة زينب عليها السلام ، ومحاولة ابن زياد قتل علي بن الحسين عليهما السلام ، وكيف تمسّكت به عمّته زينب، وغيرها من الأحداث ـ التي يطول المقام بنا عند عرضها ـ حتى وصولهم إلى المدينة، وجلوس زينب ومَن معها من الأطفال والنساء، والديار خالية من أوليائهم الذين خلَّفوهم على رمضاء كربلاء صرعى كالأضاحي.

فهذه الأحداث مع ما لم نورده يكفينا في بيان أنّ العيال كانوا ممّن شاركوا الحسين عليه السلام  في هذه المظلومية والمأساة، وهي في الوقت الذي تزيد حجم المظلومية والابتلاء على الإمام الحسين عليه السلام ، باعتباره صاحب المسؤولية المباشرة عليهم، فهم أيضاً قد تحمّلوا عبئاً كبيراً من الابتلاء والمظلومية التي امتحنهم بها الله تعالى، ليَعلَم صبرهم وطاعتهم وتسليمهم لأمره، يقول تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[62].

أمّا مقدار الصبر ـ على الرغم من عظم البلاء الذي مُنيَت به العيال ـ فإنّ الإمام الحسين عليه السلام  كان حريصاً على بيان هذا الثبات، فهو عليه السلام  وفي أحلك الظروف وزينب عليها السلام  تنظر إلى أهل بيته وأصحابه قد توسّدوا عفير الأرض مضرّجين بدمائهم، وهي في هذا الحال إلّا أنّها ترى أخاها شاخصاً أمام ناظرها، وهذا ما يهوّن الخطب، إلّا أنّ هذا الأمر لم يستمر، فنرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام  لمّا أراد أن يتقدّم إلى القتال نظر يميناً وهو يقول: «ألَا هل مَن يُقدِّم لي جوادي؟». فسمعت زينب عليهما السلام ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلَت إليه وهي تقول: «لمَن تنادى وقد قرحت فؤادي»[63].

فهو عليه السلام  قد امتحن أُخته وعياله؛ ووجدهم صابرين محتسبين، فتقديمها الجواد لأخيها دلالةٌ واضحة على صبرها وثباتها، وهو عليه السلام  قد امتحن أصحابه قبل ذلك، حيث ورد: «وجمع الحسين عليه السلام  أصحابه وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّي لا أعلم لي أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي [جميعاً] خيراً، ألَا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا أنتم في حلٍّ، ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً. فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر: وَلِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك. وبدأهم العباس أخوه ثمّ تابعوه، وقال لبني مسلم بن عقيل: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أَذنتُ لكم. فقالوا: لا والله، لا نفارقك أبداً حتى نقيك بأسيافنا ونُقتَل بين يديك»[64].

فهذه الروايات وغيرها لها دلالة واضحة على أنّ الإمام الحسين عليه السلام  كان يمتحن أصحابه، ويرى مدى صبرهم وثباتهم أمام قرع السيوف وتهافت الحتوف، فهم مع تلك المأساة والصعاب، إلّا أنّهم يتلذّذون بالموت كما يتلذّذ الطفل بلبن أُمّه. وهناك روايات كثيرة بيَّنت تلك المواقف العظيمة لهذه الفئة المؤمنة.

أمّا العيال ومشيئة الله تعالى في سبيها، فإنّنا نحتمل عدّة احتمالات قد تكون كلّها صحيحة وفقاً لمجريات الأحداث:

الأُطروحة الأُولى: إنّ هذه الواقعة أراد الله تعالى لها أن تكون أعظم تضحية من أجل الدين، وهذه العظمة لا يمكن أن تكون إلّا مع استيعاب كلّ ما هو محتمل أن يدخل تحت عنوان التضحية والعيال، وما جرى عليهم من السبي داخل تحت هذا العنوان أكيداً.

الأُطروحة الثانية: إنّ مَن حملهم الإمام الحسين عليه السلام  من العيال قد استحقّوا أن ينالوا هذه المرتبة العظيمة، بعد علم الله تعالى بهم أنّهم سيصبرون، وإنّ هذا البلاء ضمن حدود استطاعتهم، فهم بالتالي قد استحقّوا أن ينالوا به مراتب أعلى وأجلّ من الكمال والمنزلة العظيمة في الدنيا والآخرة؛ ولذا ورد عن الإمام الحسين عليه السلام : «ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي». كيف لا والعقيلة زينب تضع يدها خلف جثمان أخيها رافعةً رأسها إلى السماء قائلة: «اللّهمّ تقبَّلْ منّا هذا القربان» [65].

الأُطروحة الثالثة: إنّ اقتضاء المشيئة الإلهية لشراكة العيال في هذه المظلومية والمأساة في حدود السبي هي أرسخ من غيرها؛ لما ذكرنا من أنّ الهدف الإلهي أو الإرادة الإلهية لم تتعلّق بالسبي، بل بأمرٍ آخر وهو الغاية من السبي، فلو تتبّعنا الأخبار وما جرى من بيانات وكلمات ألقتها العقيلة زينب عليها السلام  أو الإمام السجّاد عليه السلام  باعتبار كونه مريضاً، وهو مشمول بعنوان أنّه من عيال الإمام الحسين عليه السلام ، الذين سقط عنهم تكليف رفع السلاح، فإنّ هذه الأدوار التي ذكرها التاريخ كانت للحفاظ على بيان تلك المظلومية، فمع ما كان لعبيد الله بن زياد وليزيد من حالة مرعبة في نفوس المسلمين؛ لسطوتهم وظلمهم، نجد أنّ الإمام السجّاد وعمّته زينب عليها السلام  وقفوا بكلّ عزمٍ وهمّة أمامه، ولم يُظهروا أيّ نوع من أنواع الانكسار والخسارة، كيف وهي تنهى العيال عن أن يأخذوا الطعام من أهل الكوفة، وتقول: إنّ الصدقات محرّمة على أهل البيت ـ كما ذُكِرَ في المقاتل ـ وهذا الدور هو في الحقيقة إكمال لمسيرة الإمام الحسين عليه السلام ، وهو الوقوف في وجه الظالمين، الذي لا زال مستمرّاً بعد أن أوقد الحسين عليه السلام  جذوته.

مظلومية الإمام الحسين ودولة العدل الإلهي

يمكن الكلام عن ذلك في محورين:

المحور الأوّل: مظلومية الإمام الحسين وبداية حركة الظهور المقدّس           

إنّ لكلّ حركة أو ثورة ـ مهما كانت أهدافها، ومهما كانت طبيعتها ـ فإنّها لا بدّ لها أن تحمل شعاراً، هذا الشعار يُمثِّل رمز الثورة، وهذه الرمزية للشعار تحمل بين طيّاتها أهداف الثورة ومطالبها، ويمكن أن تتضمّن طبيعة الثورة من حيث كونها سِلمية أو عسكرية، كذلك امتدادها من حيث كونها ذات طبيعة جغرافية محدَّدة ضمن إقليم أو بلد أو ربّما أوسع.

إنّ تواتر الروايات عند الفريقين ـ في ما لو أهملنا ما تضمّنته باقي الديانات من نصوص ـ والتي تُشير إلى وجود المنقذ العالمي الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وسيقضي على كلّ أنواع الظلم، ويعمّ الخير والعدل على أرجاء المعمورة، فهي قضية عالمية تشمل كلّ بقاع الأرض، وقد وردت روايات تدلّ على أنّ شعار ثورة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف  ـ مهما كانت طبيعتها ـ هو: يا لثارات الحسين، ومنها: ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : «وهم من خشية الله مُشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتَلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين عليه السلام ، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر»[66].

والسؤال الذي يمكن طرحه هنا: إنّ قضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف  إذا كانت لها سمة عالمية، فلماذا يرفع شعار: يا لثارات الحسين، وقضية الإمام الحسين عليه السلام  ذات طابع إسلامي؟

ويمكن الإجابة عن ذلك بعدّة أوجه، منها:

أوّلاً: إنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام ، وإن كانت ضمن حدود الدولة الإسلاميّة، إلّا أنّها حملت القيم والمبادئ المتسالم عليها دولياً، سواء في زماننا هذا ـ وهو القدر المتيقّن ـ أو في زمان الظهور، فإنّنا لا نجد أيّ نوع من التعارض بين بيانات الأُمم المتحدة وقانون حقوق الإنسان مع ما جرى على الإمام الحسين عليه السلام ، فهي بذلك تنسجم تماماً مع هدف ثورة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف  ضدّ الظلم، وأوضح مصاديق المظلومية عالمياً هي مظلومية الإمام الحسين عليه السلام ، والتاريخ الذي بين أيدينا كفيل ببيان هذه المظلومية والمأساة، ولعلّنا نشهد في وقتٍ ما اعترافاً دولياً بجريمةٍ إنسانية، هي: مقتل الحسين وأهل بيته عليهم السلام ، تجعل منها شعاراً للمنقذ العالمي.

ثانياً: إنّنا نتمسّك بحقيقة أنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام  لم تأخذ حقّها إلى الآن في البحث والتحقيق، خاصّة وإنّنا نعلم أنّ مَن كَتَبَ في قضية الإمام الحسين عليه السلام  من الأوائل لم يكن لهم الحرّية المطلقة فيما يكتبون ويؤرّخون، أو يتحقّقون من الرواية المنقولة؛ ولذا ذكر الطبري في مقدّمة كتابه ما نصّه: «فما يكن في كتابي هذا من خبرٍ ذكرناه عن بعض الماضين ممّا يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه؛ من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يؤتَ في ذلك من قِبَلِنا، وإنّما أتى من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنّما أدّينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا»[67].

إلّا أنّنا يمكن أن نثبت بإقامة بعض القرائن أنّ مظلومية الإمام الحسين عليه السلام  لم تكن قضية داخلية فحسب، بل إنّ هناك جهات عالمية في ذلك الزمان كانت لها اليد الطولى في تدبير هذه المأساة على الإمام الحسين عليه السلام ، ومنها: ما ورد على لسان العقيلة زينب عليها السلام  عندما خاطبت يزيد في مجلسه قائلةً: «وسيعلم مَن بوَّأكَ ومكّنكَ من رقاب المسلمين، أن بئس للظالمين بدلاً، وأنّكم شرُّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً»[68].

كذلك ما ورد من الكتاب الذي عرضه سرجون المسيحي على يزيد، حيث ورد: «وكتب عبد الله بن مسلم، وعمارة بن عقبة، وعمر بن سعد إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قَدِمَ الكوفة فبايعه شيعة الحسين بن علي، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف. فلمّا وصلتْ الكتب إلى يزيد دعا سرجون مولى معاوية فقال له: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد وجّه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني أنّ النعمان ضعيف، فمَن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت معاوية لو نشر لك أكنتَ آخذاً برأيه؟ قال: نعم. قال: فأَخرَجَ سرجون عهد عبيد الله على الكوفة وقال: هذا رأى معاوية وقد أمر بهذا الكتاب، فضمّ المصرين إلى عبيد الله»[69].

وفي الخبرين دلالة واضحة على أنّ تدبير مقتل الإمام الحسين عليه السلام  لم يكن قراراً داخلياً صرفاً، بل إنّ مندوب الدولة البيزنطية كان له أثراً في هذه المظلومية، وبالتالي يمكن أن نقول: إنّ مظلومية الإمام الحسين عليه السلام  ذات طبيعة عالمية، ومخطّط لها دولياً من قبل دول الاستكبار العالمي آنذاك، فهي بهذه الحالة إضافة إلى الأُطروحة الأُولى ـ من كونها تُمثِّل أوضح أشكال المظلومية في تاريخ الإنسانية ـ تُمثِّل الشعار الأوحد الذي يمكن أن يكون رمزاً لثورة المنقذ العالمي.

ثالثاً: إنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام  وحركته وإن كانت ضمن حدود جغرافية معيّنة، وإنّها تأطَّرت بعنوان محدّد ككونها إسلاميّة، إلّا أنّ هذا لا ينافي كون هذه الحركة ذات طابع عالمي، أو أنّ حقيقتها وجوهرها عام.

إنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام  عالمية بأهدافها، وعالمية بحقيقتها؛ لأنّها تُمثِّل الامتداد الحقيقي لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  عالمية بلا شكّ، والآيات القرآنية متضافرة على هذا المفهوم، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[70]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[71].

المحور الثاني: المظلومية وخلق الاستعداد

إنّ من أهمّ الشروط الواجب توفّرها لبداية الظهور المقدّس هو وجود العدد الكافي الممحَّص من المؤمنين، الذين يأخذون على عاتقهم مهمّة إقامة دولة العدل الإلهي إلى جانب الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، وهذا العدد لا بدّ له من مميّزات تجعله قادراً على تحمّل أعباء المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه، وسواء كان من العدد 313 المحدَّد في كثير من الروايات، أو من العدد 10 آلاف المحدَّد في روايات أُخرى، كون العدد الأخير يُعتَبر القوّة التي لا بدّ وأن تتوفّر في بداية الظهور كما دلّت عليه رواية الصدوق عن أبي بصير قال: «سأل رجلٌ من أهل الكوفة أبا عبدالله عليه السلام : كم يخرج مع القائم عليه السلام ، فإنّهم يقولون: إنّه يخرج معه مثل عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً؟ قال: وما يخرج إلّا في أُولي قوّة، وما تكون أُولوا القوّة أقلّ من عشرة آلاف»[72].

وعلى كلّ حال فالعددان مهمّان في بداية الظهور، والأوّل يُمثِّل القادة الرئيسيين في إدارة العالم، والعدد الثاني يُمثِّل طليعة جيش الإمام في بداية الظهور، والذي من المؤكَّد أنّه سيزداد شيئاً فشيئاً.

إلّا أنّ ما يهمّنا في المقام هو درجات الإخلاص والإيمان التي يتحلّى بها هذان العددان من المؤمنين، فإنّ من أهمّ ما يميّزهم هو درجة الإيمان والاستعداد العالي من أجل التضحية في سبيل إقامة الهدف الإلهي بنشر العدل على أرجاء المعمورة، وهذا الاستعداد لا يمكن تحصيله إلّا بالتربية المركَّزة التي تتركّز أكثر بعد الظهور، أمّا قبل الظهور المقدّس فإنّ هناك عوامل كثيرة تكفّلت بتربيتهم، ومنها: المظلومية والاضطهاد الذي يتعرَّض له الضعفاء في العالم، ممّا يشعل في نفوسهم جذوة الحماس والإصرار على تغيير الواقع الأليم، فإذا كانت هناك مظلومية لها الدور الأكبر في بنائهم وتربيتهم، وخلق الاستعداد لديهم، من أجل إقامة المشروع الإلهي على الأرض، فهي مظلومية الإمام الحسين عليه السلام ، فإنها تُمثِّل الأُسوة الحسنة والمثال الأوضح لمَن ظُلِمَ من أجل الدين، وضحّى بنفسه وبكلّ ما يملك من أجل تحقيق هذا المشروع.

فبالإمكان القول: إنّ المشيئة الإلهية للمظلومية والمأساة في واقعة الطف هدفها خلق الأُسوة الحسنة للمؤمنين على مرّ الدهور؛ للتضحية من أجل الدين، حتّى يتحقَّق حلم الأنبياء عليهم السلام  على يد المنقذ المخلّص وأصحابه، الذين جعلت منهم تلك الدروس على مستوًى عالٍ من الاستعداد لتحمّل هذه المسؤولية، فهم وفي كلّ حين عندما يستذكرون تلك المظلومية والمأساة التي جرت على سبط المصطفى وعياله، وتلك الممارسات البشعة التي مارسها بنو أُميّة وشيعتهم على آل الرسول وأصحابهم، يرون أنّ نصرته واجبة؛ لأنّ فيها رضا الله تعالى، ونصرة الحسين عليه السلام ، من خلال تحقيق هدفه الذي رفع شعاره في قوله المشهور: «وإنّي لم أخرجُ أشِراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خَرَجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[73].

 

 الكاتب: السيد شهيد طالب الموسوي

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد التاسع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[54] الرعد: آية39.

[55] وهذا ما نجده واضحاً وجلياً في بعض مؤلفات ممَّن كتبوا في واقعة الطف: «وإنّ الله سبحانه وتعالى قد عهد للإمام الحسين عليه السلام ، وأمره عن طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بتنفيذ مشروع ينتهي باستشهاده واستشهاد مَن معه، وجميع ما حدث من مآس وفجائع». الحكيم، محمد سعيد، فاجعة الطف: ص14.

[56] التميمي، قيصر، الأسباب والمبررات العقدية والتراثية للتفريط بالأهداف والمبادئ السياسية للنهضة الحسينية، مقال التحرير في مجلة الإصلاح الحسيني: العدد4، ص11.

[57] المصدر السابق: العدد 4، ص37 ـ 38.

[58] الصدر، محمد، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام : ص97.

[59] المجادلة: آية21.

[60] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص72.

[61] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص 364.

[62] آل عمران: آية 140.

[63] الحائري، محمد مهدي، معالي السبطين: ج2، ص27.

[64] ابن نما الحلّي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص52.

[65] الحسني، هاشم معروف، سيرة الأئمة الاثني عشر: ج2، ص87.

[66] الطبرسي، ميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل: ج11، ص101.

[67] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج1، ص5.

[68] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص159.

[69] المصدر السابق: ج44، ص337.

[70] الأنبياء: آية107.

[71] سبأ: آية28.

[72] الصدوق، محمد بن على، كمال الدين وتمام النعمة: ص654.

[73] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص30.

 

المرفقات