شكل حضور المرجعية الدينية العليا المتجسدة بالسيد علي الحسيني السيستاني مفصلاً محورياً في إنقاذ العراق من أزمةِ الانهيار في عام 2014، بدرجة رهن معظم المراقبين للمشهد أفول هذه الدولة او ديمومتها بطبيعة المبادرات التي أطلقها الإمام السيستاني لتدارك النكبة التي ألمَّت بالعراقيين كافة.
إذ يدرك الداني والقاصي، أن الدولة العراقية كانت قابَ قوسين أو أدنى من شفا جرفٍ هار، بعد ان وصلت الجماعات التكفيرية إلى مشارف العاصمة السياسية والاقتصادية بغداد، بل إن التهديدات الأمنية المباشرة اخترقت الكثير من مفاصل ومناطق هذه المدينة التي تشكل قلب العراق.
فلولا تدارك الإمام السيستاني بفطنته وعميق رؤيته واستشرافه للأحداث التي تحيط بالعراق، لكانت ستؤول خارطة العراق السياسية والجغرافية إلى خبر كان، ولما استطاع العراق استعادة زمام المبادرة ودفع الإرهاب الى التقهقر ومن ثم الهزيمة، ولما تحققت الانتصارات العظيمة على يد القوات الأمنية العراقية في معركة تحرير الموصل مؤخراً.
كل ذلك ولا تزال عين المرجعية تسهر على إنقاذ العراق من مصير قد لا يُحمد عقباه، خصوصاً إن النصرَ المؤزّر لم ولن يكون دون مصالحة سياسية واجتماعية تقرّ النفوس وتُعيد السكينة وتلبس العراقيين مرة أخرى ثوب الإخوة والتسامح والتعايش السلمي.
من هذا المنطق والمنطلق أطلقت المرجعية العليا للإمام السيستاني وعلى لسان ممثلها الشيخ عبد المهدي الكربلائي دعوة متجدِّدة، تدفع العراقيين كافة إلى خارطة طريق تؤمِّن لهم مقومات العيش الكريم المفقودة منذ سنوات، وتهيئ في الوقت ذاته الأرضية المناسبة لصناعة مستقبل للأجيال القادمة تنعم فيه بالاستقرار والازدهار، وتضفي بلسماً على الجراحات وتنهي اجترارها الحالي.
إذ يستعرض سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي نقلاً عن مرجعية الإمام السيستاني خصوصية طبيعة المجتمع العراقي، قائلا: (الوطن الواحد قد يكون فيه مجتمع متعدَّد الانتماءات المذهبية، مما يعني هناك اختلاف في الجانب الفكري والثقافي والعقائدي).
إن التعايش السلمي والتسامح وترسيخ مبدأ القبول بالآخر ومثيلاتها من المبادئ الإنسانية لا بد لها من تشريع وتجديد، خصوصاً في المجتمعات التي تعاني من الاضطرابات التي تنعكس سلباً على أفرادها، ويسود فيها العنف العقل الجمعي كما هو الحال في العراق.
الإسلام الجامع بين مذاهب المسلمين
هنا تطرح المرجعية العليا رؤيتها من خلال تعاليم الإسلام الحنيف الذي شرّع كل الحدود التي تنظم مسار البشرية جمعاء، فيقول الشيخ الكربلائي: (من المفاهيم التي أولاها الإسلام العناية والرعاية، واهتم بوضع الأسس لها هو مفهوم التعايش السلمي والذي اعتبره آلية ناجحة لمعالجة مخاطر التنوّع في الانتماء المذهبي والديني وعلى مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والعقائدية).
وتؤكد المرجعية العليا على أن التشريع الاسلامي لم يقتصر على مستوى وضع النظريات والمبادئ، بل تعدّاها إلى التطبيق الدقيق لها من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد مضى الكلام في التعايش الاجتماعي وأسسه.
فتضع المرجعية الرشيدة عدداً من المرتكزات الأساسية لتأمين التعايش السلمي في العراق مؤكّدة على أن: (المشتركات بين مختلف المذاهب الإسلامية سواء في العقيدة (التوحيد، النبوة، المعاد) أو الدعائم العملية للدين الحنيف من الصلاة والصيام والحج وغيرها..، وبالرغم من وجود اختلافات هنا وهناك، تفرض مستوىً من الانسجام الثقافي والحوار المبني على احترام خصوصيات الآخر بشكل يحفظ العلاقة الوطنية المشتركة بين المنتمين لهذا التعدد المذهبي، ويصون المصالح العليا للمسلمين قاطبة).
ويلفت سماحة الشيخ الكربلائي إلى أن: (الترابط القلبي وانبعاث مشاعر العطف والرحمة والتواد التي فرضها الحديث الشريف "مثل المسلمين في توادِّهم وتراحمهم" فإن هذا الحديث فرض مساحة ومرتبة من التعاطف القلبي المثمر للتحرك الاجتماعي الايجابي نحو الآخر بما يحفظ قوة العلاقة المجتمعية، وعدم تغلب مساحة التقاطع والتهاجر على مساحة التواصل والتقارب الاجتماعي الفاعل).
التعددية الدينية والمذهبية ونبذ التطرف الفكري
إن التعدُّدية الدينية والمذهبية في العراق كما تراها المرجعية أمراً واقعاً مُتوارَثاً وهو منوط بالمشيئة الربانية المختصة بالله عز وجل، وهي مدعاة إلى التسليم والتوفيق بين مسلمات الوطن الواحد، لتوظيف هذا التباين الاجتماعي الذي يمهد لجميع العراقيين الأمن والاستقرار، فيقول سماحة الشيخ الكربلائي: إن (الإيمان بالتعدد الديني والمذهبي أمر واقع لا مناص منه واقتضته المشيئة الإلهية). مستشهداً بقوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة).
ويشير: (إن التعايش السلمي ضرورة يفرضها الواقع وحقائق التاريخ وينبغي معرفة كيفية التعامل الايجابي البنّاء مع التعددية بما يصون المجتمع المتعدّد الانتماءات من الصراع واستخدام العنف، والمطلوب التعامل معه بعقلانية وواقعية وعدالة مع التعددية).
ويضيف الشيخ الكربلائي: (إن من حق صاحب كل فكر أن يدافع عنه، ويحاول إقناع الآخرين به بإقامة الدليل عليه وإتباع الأسلوب العلمي في إثبات أحقيته من وجهة نظره). وينوّه: (لكن من دون المساس بكرامة من يخالفه في الفكر وجرح مشاعره والإساءة إلى مقدساته بما قد يؤدي إلى الإخلال بالتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد).
ويؤكد ممثل المرجعية العليا على مسألة بالغة الحساسية أسهمت بصورة مباشرة في إلحاق الضرر الكبير بالمجتمع العراقي، والتي تتمثل بالتعصّب والتطرّف الفكري، فيقول، (إن من الأمور الخطيرة التي أريقت بسببها الكثير من الدماء البريئة هو تكفير الآخر لمجرد المخالفة في بعض القضايا العقدية وما يتبع ذلك من تأويل للنصوص على غير ما هو المراد منها خصوصاً التي حفظت وصانت المجتمع الاسلامي في دماء أبنائه وإعراضهم وأموالهم).
إيثار المصالح العليا على المصالح الضيقة
ومن بين الأولويات التي وضعتها المرجعية العليا ضمن خارطة الطريق لمجتمع آمن ومستقر في العراق هي تغليب المصالح العليا لعموم المسلمين والمصلحة الوطنية على المصالح الفئوية الأصغر شأناً التي يرى فيها البعض أولوية يجب عدم تجاوزها.
فيقول سماحة الشيخ الكربلائي: (إن الوعي بما تفرضه المصالح العليا للمسلمين والمصالح الوطنية العامة هي أهم بكثير من المصالح الضيقة - التي يتصوّرها البعض إنها مصالح للمذهب والطائفة - يستدعي مراعاة الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للجميع ضمن دائرة حقوق المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، والتعايش على قاعدة المبادئ والمصالح المشتركة ودرء مفاسد الاختلاف والشقاق المضرّة بالجميع).
ويشدد سماحته على أن : (مما يزعزع التعايش السلمي كثرة الجدال والمراء وانتقاد الآخر في الخطاب العام والابتعاد عن أسلوب الطرح العلمي ضمن دائرة أصحاب الاختصاص).
مؤكداً إن المسؤولية الإسلامية هي في البلاغ وحسن البيان للمطالب الحقة، فمن آمن فقد أحسن لنفسه ومن لم يؤمن فحسابه على الله تعالى (إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب).
ومضات من رؤى المرجعية الدينية العليا - محمد حميد الصواف
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية القدسة
اترك تعليق