لا تزال السيدة خديجة رضوان الله تعالى عليها، حتى يومنا هذا شاهد حي على كل نساء العالم، بعد أن كانت خير عونٍ وسندٍ للنبي، صلى الله عليه وآله، في كل مراحل حياته، سيما تلك التي كانت تغص بمشاكل وأعباء الرسالة، إذ عاش أياماً مرة، لم يسلم خلالها من حقد مجتمعه ومحاولاتهم المتكررة لإفشال مشروعه السماوي، غير أن "خديجة" كانت المرأة المناسبة له تلك الفترة، فلولاها لما تمكن من تحقيق نجاحاته المتكررة في بسط سلطة التوحيد، وأداء مهمته الرسالية على أكمل وجه.
ثمةُ عبرةٍ يلخصها لنا زواج النبي من خديجة، ففي ذلك الظرف الحرج الذي يتطلب استعداداً أكبر من اقتران رجلٍ بامرأة، فدعوة المجتمع إلى توحيد الله ونبذ الأصنام إنما هو بمثابة إعلان حربٍ ضارية لا نهاية لها، فليس من السهل أبداً أن يتخلى المجتمع عن عقيدة لم يعرف غيرها منذ مئات السنين بمجرد أن يعرض عليهم رجلاً عادياً - لم يكن يوماً من أصحاب الثروات - عقيدة جديدة. وذلك يتطلب أن يكون هناك استعداداً أكبر من زواج النبي بخديجة لمواجهة مثل هذا التحدي الخطير، كأن يكون النبي صاحب نفوذ وسلطة، أو قائداً لميليشيا عسكرية كبيرة بإمكانها أن تلجم أي فمٍ معترض! إلا أن مشيئة الخالق أرادت لهذه "العائلة" الحديثة العهد أن تفجرة ثورة التوحيد على الكفر والشرك، لينتصر هذا البيت الصغير على كل التحالفات الباطلة التي أرادت إجهاض مشروع النبي، فأي دور عظيم قامت به خديجة رضوان الله عليها؟
عائشة تتقرب إلى النبي بذكر خديجة
لقد كانت خديجة رضوان الله تعالى عليها أول من صدّق النبي ووقفت إلى جنبه، ويشهد لها بذلك أمام زوجاته من بعد وفاتها، إذ يقول الإمام علي عليه السلام: "ذكر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خديجة يوماً وهو عند نسائه، فبكى، فقالت عائشة: ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟ فقال: صدّقتني إذ كذبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عقمتم".
وتقول عائشة: "فما زلت أتقرّب إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بذكرها".
ولعل تصديق رسالة النبي في ظل موجات التكذيب والرفض لرسالة النبي هو من جعل خديجة رضوان الله تعالى عليها في طليعة نساء عصرها، وفي سجل القدوات اللاتي لن يتكرر مثيلهن في التاريخ، إذ يقول رسول الله، "إنّ الله اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة".
النبي أمين على تجارة خديجة
وكما هو متعارف لدى الجميع، فإن خديجة كانت صاحبة ثروة ضخمة وتجارة واسعة، فقررت أن يكون النبي، صلى الله عليه وآله، أميناً على تجارتها قبل أن يكون زوجاً لها، وفي أولى الرحالات التجارية للنبي عمدت خديجة على أن تخوّله أموالها وتضع كل ما لديها تحت اختياره، ثم راحت توصي غلمانها بطاعة النبي خلال مرافقتهم له.
تنظرت خديجة إلى النبي وهو يستعد للسفر، فبادرته متسائلةً: "ألا تملك غير هذه الثياب؟ فليست هذه تليق للسفر".
أجابها: لست أملك غيرها.
بكت خديجة وقالت: "عندي ما يصلح للسفر غير أنّهنّ طوال فانتظر حتى أقصرها لك".
فقبل النبي بذلك وكان إذا لبس القصير يطول، وإذا لبس الطويل يقصر كأنه مفصّل عليه.
فأخرجت لـه، بحسب الرواية، "ثوبين من قباطي مصر، وجبّة عدنية، وبردة يمنية، وعمامة عراقية، وخفّين من الأديم، وقضيب خيزران، فلبس النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الثياب وخرج كأنه البدر في تمامه".
"أعندك ما تركب عليه؟" تسأله خديجة مجدداً، فيجيب: "إذا تعبت ركبت أي بعير أردت".
فقالت: "لا، كانت الأموال دونك".
ثم قالت لعبدها ميسرة: "إيتني بناقتي الصهباء حتى يركبها، فأتى بها ميسرة وقد كانت لا يلحقها في سيرها تعب ولا يصيبها نصب".
ثم التفتت إلى غلاميها "ميسرة" و "ناصح" وقالت لهما: "اعلما أنّني قد أرسلت إليكما أميناً على أموالي وأنه سيد قريش فلا تخالفا أمره، فإن باع لا يمنع، وإن ترك لا يؤم، وليكن كلامكما لـه بلطف وأدب، ولا يعلو كلامكما على كلامه".
فقال ميسرة: "والله يا سيدتي إنّ لمحمد عندي محبّة عظيمة قديمة والآن قد تضاعف لمحبّتك له".
خديجة تختار النبي زوجاً لها
ينقل مؤرخون أن في أحد الأيام وبينما كان أحد الأحبار في بيت خديجة رضوان الله عليها وهي جالسة مع جماعة من نسائها وجواريها إذا بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يمرّ، فنظر إليه ذلك الحبر وقال: "يا خديجة قد مرّ الآن بدارك شاب حدث السن، فأمري من يأتي به".
فأرسلت إليه جارية من جواريها وقالت: "يا سيدي مولاتي تطلبك".
فأقبل، صلى الله عليه وآله وسلم، ودخل منزل خديجة.
فقالت: أيّها الحبر هذا الذي أشرت إليه؟
قال: نعم هذا محمّد بن عبد الله.
وقال: طوبى لمن تكون لـه بعلاً وتكون لـه زوجة وأهلاً، فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.
فتعجّبت خديجة، وانصرف الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اشتغل قلبها بحبّه، فقالت: "أيّها الحبر بم عرفت أنه نبي؟"
قال: "وجدت صفاته في التوراة أنه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه وأنّه سيتزوّج بامرأة من قريش سيدة قومها وأشار بيده إليها، ثم قال لها: احفظي ما أقول لك يا خديجة".
فلمّا سمعت السيّدة خديجة ما نطق به الحبر تعلّق قلبها بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أكثر وكتمت أمرها.
فلمّا أراد الخروج من عندها قال: "اجتهدي أن لا يفوتك محمد فهو الشرف في الدنيا والآخرة".
قد زوجتك يا محمد نفسي!
وتفيد جملة من الروايات الشريفة، أن السيدة خديجة أرسلت أختها هالة إلى عمار وكان صديقا للنبي وأبدت أمامه رغبة السيدة خديجة في الزواج من النبي، وبعد أن عرض عمار على النبي ذلك وافق دون تردد، وتم الاتفاق على وقت تعقد فيه الخطبة. ولما جاء ذلك اليوم علم عمها عمر بن أسد أو ورقة بن نوفل بالأمر، لأن أباها قد قتل قبل ذلك في الحروب التي نشبت بين القبائل.
وجاء النبي، صلى الله عليه وآله ومعه بعض الشخصيات من قريش، وبعض أعمامه، يتقدمهم عمه أبو طالب، لطلب يدها من عمها.
وبعد أن دخلوا عليه تولى أبو طالب الحديث وقال بعد خطبة رواها الشيخ الكليني "أن له - أي للنبي - في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها. والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله".
فخاطبت خديجة عمها " يا عماه انك وان كنت أولى بنفسي مني في الغياب فلست أولى بي من نفسي في الشهود، قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر علي في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها، وادخل على أهلك".
فقال أبو طالب: "اشهدوا عليها بقبولها محمدا، وضمانها المهر في مالها".
وهكذا تمت مراسيم هذا الزواج المبارك.
حسين الخشيمي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق