رسالة إلى الكوفة

أصحيحٌ أنّكِ أطفأتِ الشمسَ التي بزغتْ على أرضِك!!

أصحيحٌ أنّكِ غيّبتِ العينَ الصافيةَ التي انبجَستْ في صحرائكِ القاحلة!!

أصحيحٌ أنكِ هدّمتِ السورَ المنيعَ الذي يحميكِ من الزوابعِ والأعاصير!!

كيفَ قتلتِ المعنى؟

وكيفَ احتضنتِ النقيضين؟

رجلٌ حلَّ في وجههِ روحُ اللهِ، ورُتّلتْ آياتُه في قلبهِ، ورفرفتْ الحمائمُ على كفّيهِ، واستظلتْ بمنبرِه، أتاكِ على فترةٍ بتاريخِ الضياءِ وسِفرِ السماءِ، وفي شفتيهِ رفيفُ الوحي، وفي نبضهِ خفقةُ النبوّة ، فأدمنتْ يداهُ رؤوسَ اليتامى وهما تمسحانِ دموعَهم بأرغفةٍ من دموعهِ.

ورجلٌ حلَّ في وجههِ الشيطانُ، ونفثَ في قلبهِ، واشتعلتْ في عينيه دماءُ الجريمة، وحامتْ حوله روحُ الكفرِ، ودقّت في رأسهِ طبولُ الضلالِ فأدمى العيونَ وزرعَ في القلوبِ جُرحاً لا يندمل.

أهكذا إذن ضيّعتِ الرجلَ الذي كنتِ تحلمينَ به؟

جاء ليرفو ما مزّقته فيكِ أكفُّ الوليد، ويرأبُ الصدعَ الذي أوغلَ فيكِ بيدِ المغيرة، وينقّي نبعكِ الذي لوّثه الأشعري...

إلى كم ستنتظرينَ رجلاً مثله؟

وهلْ عرفتِ البشريّةُ رجلاً له بعضُ بعضِ خصالهِ؟

أثَقُلَ عليكِ بأسمالهِ المرقّعةِ ورغيفهِ الجشبِ ونعليهِ المخصوفين ؟

أم خُفيَ عليكِ وجهُه الملائكي، وروحُه السماوية وهو يحملُ عنكِ همومَ الفقراءِ، ودموعَ اليتامى، وآهاتِ الأراملِ والثكالى، ويزيلُ بِبَسْمَتهِ عنكِ أدرانَ البؤسِ والخضوعِ، ويرسمُ بِسَمْتِهِ لكِ فجراً مشرقاً ونبيلاً؟

أمْ إنّكِ لمْ تستوعبي معناهُ الذي جَلّ وعلا عن أنْ يُقاس بمنْ قبله وهم: (يخضمونَ مالَ اللهِ خضمَ الإبلِ نبتةَ الربيع)؟ فهالكِ عهدَه الذي عُقمت القرونُ بمثله، وعيشَه الزهيدِ الذي رسمَ فيه ملامحَ الأنبياءِ.... ولكنْ لا نبيَّ بعدَه...؟

لقد كبُرَ المعنى على من أدمنوا سوطَ زياد، وعظمَ المُبتغى عليكِ.. فلمْ تَعهدي في منْ تولّاكِ غيرُه قولَه: (وأشعرْ قلبكَ الرحمةَ للرعيةِ، والمحبةَ لهم، واللطفَ بهم ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إمّا أخٌ لكَ في الدينِ، أو نظيرٌ لكَ في الخلقِ)

كما لم يتردَّد في أرجائكِ صدى قولِ أحدٍ سواهُ وهو يفتحُ بيتَ المالِ فيتلألأ أمامَه الذهبُ والفضة والأموال فيشيحُ عنها بوجههِ ويقول: (يا صفراء غرِّي غيري)، ثم ينادي قنبرَ ليجمعَ الناسَ فيوزِّعها عليهم بالمساواةِ، ثم يعطي قنبراً ثلاثةَ دنانير ويأخذُ ((هو)) ثلاثة دنانير.., ويكنسُ بيتَ المالِ ثم يبكي ويقول:

(يا دنيا إليكِ عنّي، أبي تعرّضتِ ؟ أم إليَّ تشوّقتِ ؟ لا حانَ حينُكِ، هيهات.. غرِّي غيري, لا حاجة لي فيكِ، قد طلقتكِ ثلاثاً لا رجعةَ فيها، فعيشُكِ قصير، وخطرُكِ يسير، وأملكِ حقير، آه آه من قلّةِ الزاد، وطولِ الطريق، وبُعدِ السفر، وعظيمِ المورد).

إنكِ بدلاً من أن تحتضني هذا الرجلَ الذي دافَ بمائِكِ من كفّهِ نكهةَ السماءِ, ونزعَ عن هوائِكِ أرباقَ العبودية, فقد فتحتِ له مصراعَ الشام، وبدلاً من أن تحيطيه بنخيلكِ وتظللّيه بأزهارِكِ، فقد أسلمتيه لمن لا يمكنُ أن يُقاسَ حتى بنعله. 

لكنه, وحقكِ بقيَ.. وسيبقى الإنسانُ الذي لم يزلْ ولا يزال منذ أربعةِ عشرَ قرناً ملتقى النفوس ومهوى الأفئدة، ولا يزدادُ مع تعاقبِ الأزمانِ والأجيالِ إلا جلالاً وجمالاً، وقد عكفتْ على ساحلهِ الأزمانُ والأجيالُ مبهورةً بهذا الجمالِ والجلالِ، وهو يفيضُ للمبحرِ في أثباجهِ الدرَّ من مكنوناتِ عظمتهِ، وكلما غاصَ المبحرُ في هذا الكمالِ تضاءلَ فكرُه أمامَ آياتِ هذه العظمة.

وهل يستطيع فكرٌ ضئيلٌ أن يحلّق في هذه السماءِ السامقة ؟

أم هل يستطيعُ الجدولُ الصغيرُ أن يرفدَ البحر ؟

أم هل يستطيع خيالٌ عاجز أن يطوف بهذا العالمِ الإنسيِّ ـ الملائكيِّ اللامتناهي ؟

فيا أمير القلب.. إنها حسرة, ونفثة, ولوعة, وحرقة.., يا من امتزجت الرحمة والحماسة في قلبه, وعانقت دمعته ملامح الرأفة والحنان فأفاض على الأرض إنسانيتها, هذه دموعنا قد امتزجت بحرقة الألم, وحرارة اللوعة, وهي تُذرفُ على بابِ محرابِكَ فَنَقِّها من الدرنِ والأضغان..

أيها.. الرؤوفُ الرحيم.

 

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار