((بلاغة التعريض في الأدب العربي))

د. وسام حسين جاسم

تميّز العرب بشدّة فطنتهم، وهذا مما لا مندوحة إلى نُكرانه، فكانوا يعرفون الكلام ظاهره وباطنه وبعيد مراميه، فينتفضوا إذا ضيموا فيما يُشمّ من كلام يُراد به غضّ قناةٍ لهم، وتنفرج أساريرهم إذا تلمّسوا خيرًا ورفعةً لشأنهم فيما يوجه له من كلام، ولعلّ بلغاءهم من الخطباء والشعراء ومتحدّثيهم من القادة والعلماء، كانوا المبرّزين في هذا الجانب، إذ نقل الجاحظ في البيان والتبيين أنه دخل رجل من محارب قيس – وهي إحدى العشائر- على عبد الله بن يزيد الهلالي، وهو عامل على أرمينية، وقد بات في موضع قريب منه غدير فيه ضفادع، فقال عبد الله للمحاربي: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة، لشدة أصواتها. فقال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها أضلّت برقعا لها، فهي في بغائه. أراد الهلالي قول الأخطل:

تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيةُ البحرِ

وأراد المحاربي قول الشاعر:

لكلّ هلاليٍّ من اللؤمِ بُرقعٌ ... ولابنِ هلالٍ بُرقعٌ وقميصُ

ومثل هذه المناوشة التي اشتعلت بين الطرفين، وإنْ تلبّست لبوس الشعر والأبيات، ولكنها لم تأخذ المنحى المباشر، وإنما اعتمدت على فطنة كلّ رجلٍ منهما.

وفيما بين العلماء كانت مثل هذه الإشارات ملمحاً ذكيًّا من خلالها تصل الرسالة مبطّنة إلى الآخر المقصود منها، من دون أنْ تُقحِم صاحبها في فجاجة المُلاحاة وصرامة التقريع للخصم، فهي تمثل أسلوباً لطيفاً يعبّر عن دماثة مستعملها، ومن ذلك ما رُويَ أنه كان يونس النحويّ يختلف إلى الخليل يتعلّم منه العروض، فصعب عليه تعلّمه، فقال له الخليل يوماً: من أيّ بحر قول الشاعر:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيعُ

ففطن يونس إلى ما عناه الخليل وترك العروض. وبهذا البيت تمّ إيصال الرسالة إلى يونس أنه لا يستطيع تعلم العروض وأوزانه، فلا بدّ له أنْ ينصرف عن هذا العلم لآخر، وهذا ما حصل فعلاً.

ولا يفوتنا أنْ نشير إلى فطنة النساء وقدرتهنّ على الإتيان بالبليغ من الإشارات لتقريع الآخر، وإفحامه بالحجّة الدامغة عبر تلك الإشارات الذكية في بعض أبيات الشعر السائرة، وتحفل كتب التراث العربي بالكثير من الشواهد، لعل كتاب (بلاغات النساء) لابن طيفور (ت: 280 هـ) كفيلٌ بتوضيح هذا الجانب، ونكتفي بما رُوي عن أعرابيّةٍ مرّت بقوم من بني نمير، فأداموا النظر إليها، فقالت: يا بني نمير، والله ما أخذتم بواحدة من اثنتين: لا بقول الله تعالى: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)) ولا بقول جرير:

فغُضِّ الطّرفَ إنكَ مِن نميرٍ ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا

فاستحيا القوم من كلامها وأطرقوا.

وأخيرًا نختمُ بشاهدٍ من تاريخ فيلسوف الشعراء أبي العلاء المعرّي، حين كان ببغداد، وكان ما كان منه من إعجاب وإكبار لشعر أبي الطيب المتنبي في مجلس الشريف المرتضى المعروف بتشدّده في تتبعِ عثرات المتنبي وتقصّي المآخذ عليه، فقال أبو العلاء له: لو لم يكن له إلا قوله:

لك يا منازلُ في القلوبِ منازلُ  أقفرتِ أنتِ وهُنّ منكِ أواهلُ

لكفاه، فغضب المرتضى وأمر بإخراجه، ثم قال المرتضى لمن حضره: أتدرون لم اختار الأعمى (أي أبا العلاء) هذه القصيدة دون غيرها من غُرر المتنبي؟ قالوا: لا، قال: إنما عرّض بقوله:

وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ      فهي الشهادةُ لي بأنيَ كاملُ

والقصة تثبت ذكاء الطرفين، كما يقول عنها الدكتور طه حسين، وتدلل بوضوح على ((حذق أبي العلاء في التعريض، وقوة المرتضى في الفهم)) وهذا ما كان عليه دأب أكثر العرب بما يعبّر عن فطنتهم وحذقهم في إفحام الخصم أو إقناعه بهذه الوسائط البليغة التي من شأنها صقل مواهبهم وجعلهم أهلاً لتلقّي كتاب الله الكريم وفهم مراميه دون سواهم من الأقوام. 

 

 

 

: د. وسام حسين العبيدي