من قصص الانتفاضة الشعبانية
أيقظني أخي وابن عمي بإلحاح شديد مع أنني لم أنَم تلك الليلة, تمنيتُ أن لا أفيقَ من نومي لأتشبّث ولو بأملٍ ضعيفٍ جداً في أن يغيّروا قرارهم بالرحيل أو بالأحرى الهرب خلف مجازر الوطن بعد مباحثات طويلة ونقاشات ويأس تام من المحافظة على أرواحنا داخل أجسادنا المنهكة فيما إن بقينا, لقد هدموا الجوامع وفجّروا البنايات الكبيرة وأسقطوا النخيل ومسحوا البساتين مسحاً مؤلماً بأيادٍ ليس لها أيّ انتماءٍ للأرض والحب والضمير والإنسانية... كان الوقت فجراً.. استطعت ملاحظة ذلك من صراع أشعة الشمس لإقصاء القمر لتشرق من جديد ومن رائحة الأرض المعفّرة بالندى والتي اخترقت أنفي لتبعث فيَّ نشوة حزن لأنّي ربما سأفقد كل هذه الروعة هكذا مرة واحدة، ولكن من خلال ذلك الشعور بزغ أمل أن تشرق ابتسامتنا مرة أخرى كشروق الشمس هذا.
قفزت من فراشي الأرضي المكوّن من بساط خفيف بلا وسادة وغطاء مهترئ لا يستر كل جسدي ولا يتميّز عن ملابسي, ورغم أثر الرطوبة الواضح على قميصي من تربة البستان الندية في مثل هذه الصباحات إلا أنني كنت أشعر بالدفء أو ربما بحنو الأرض وهي تمسّد جسدي بأوجاعها الحارة على مدى السنين العجاف التي مرت بالوطن.
رشقتُ وجهي برشقات متتالية من مياه النهر المالحة، فاستطعتُ أن أتحسَّس بقايا حبيبات طينية على وجهي بعد أن نشف الماء، تناولت فطوري الزهيد بتأنٍ، كنت أمضغ لقمتي بينما بصري يجول ليمسح الحياة المتجذّرة في هذا البستان, كانت جدتي تتحرك بخفة لتزوّدنا بمتاع الرحلة وآثار الحزن بادية على ملامحها.. مازحتها لأخفف عنها ــ ولو للحظة ــ عمق الألم الذي يعتصرها: من يراكِ يظن بأننا جاثمين على صدرك وستشعرين بالسعادة لو رحلنا ؟
التفتتْ إليَّ ومسحتْ بقايا دمع طفر عنوة من عينيها الصغيرتين ولم تتكلم.. سوى أنها ابتسمت ابتسامة حزن فأحسست في حينها أنها لو تكلمت لأجهشت بالبكاء وأحبطت معنوياتنا وعزمنا عن الرحيل.
قبّلنا يدها جميعاً، ضمّتنا إلى صدرها وكأنها لا تريد أن تفارقنا أحسّست أنها تقول: ادخلوا بقلبي ولا تبرحوا عن ذاكرتي وحزني فلم أتمالك نفسي فبكيت على حنوها وبكى ابن عمي إلا أخي الكبير الذي ابتعد عدة أمتار عن بداية الطريق وقال بصوت آمر كعادته: هيا عجّلوا لم يبقَ لدينا كثير من الوقت.
بقيت أراقبها وهي تحمل القرآن الكريم فاحنينا رؤوسنا من تحته وهي تتمتم بآيات قرآنية لتحفظنا من سوء الطريق. أحسست بخفقان قلبها الراجف.. ولكنها لم تستطع أن تحبس بكاءها أكثر ففيما نحن نهمّ بخطى مثقلة لاستلام الطريق المستقيم حتى أجهشت بالبكاء فوصل إلى مسامعنا صوتها المملوء حرقة وألماً وغضباً: اذهبوا وابتعدوا من هنا.. اذهبوا بعيداً.. لكن ابقوا أحراراً أفضل لكم من أن تظلوا بقربي ... ثم حاولت أن تصنع بعض السلوان لنفسها: إذهبوا أفضل من أن تقبعوا في زنازين صدام.. إذهبوا ولكن إياكم أن تنسوا جدّتكم وأرضكم وهذا البستان والنهر والذكريات..
توقفتُ قليلاً ولأنا أتأملها ورافق دمعتي صوت ضعيف يشبه الحشرجة: إن نسينا الوطن والذكريات والحب فأي مجرم يستطيع أن ينساك.. رجعنا بضع خطوات ونحن نحاول حبس دموعنا قال لها أخي: إن لم تتوقفي عن البكاء سوف لا نرحل أرجوك حافظي على صحتك من أجلنا.. من أجل عودتنا ذات يوم لنغفو على حكاياتك ونتدفأ بطرف عباءتك...
فجأة تغير صوتها وقالت متوسلة: اسمعوني وقهقهت بعلو سوف أضحك وأقهقه دائماً.. أضحك على وجودي في لعبة الحياة اللعينة وسأضحك عندما تصلون إلى الضفة الآمنة وسأضحك على الأوغاد عندما يأتون ولا يجدونكم وسأظل أضحك وأبدل هذا وأشارت إلى ثوبها الأسود الموشح بالحزن كحياتها بثوب زفاف عندما تعودون لزرع نخيل جديد..,
لم نقاوم أنفسنا لنذرف دموع غزيرة تغلغلت في التربة الجافة.. مسحت آثار دموعي التي كانت تتراءى لي فيها صورة جدتي وكيف أنها ودعت عنوة ثلاثة من أبنائها الشباب بين أيدي المغتصبين إلى الأبد, فأطلقت آه من صدري فزع لها أخي وابن عمي وتردد صداها في أجواء المنطقة الخالية والتي حوت أجسادنا الهاربة.
دلفنا دروباً لم نألفها من قبل بين فسحات النخيل والأراضي المعشبة التي تفوح منها رائحة الأرض استلقينا قليلاً بين مروج العشب المخضّر على ظهورنا بينما عيوننا ساهمة بنظرات متسلقة إلى الشمس, وفي الليل حزمنا أمتعتنا من جديد لنسير دائماً نحو الشرق حيث الحرية، كانت تلك المنطقة تمتاز بوعورة طرقها وكثرة جبالها الصخرية القاسية والتي لم يستطع حتى النظام بجبروته وقسوته أن يسيطر على حركة الصخور ويقضي على المتحصنين وراءها.
كان الليل هادئاً وخائفاً وتتزاحم دوائر الرعب من الماضي والقلق من المستقبل المجهول والحاضر المشحون بالقتل والعنف. فقد سيطر علينا شعور اللامبالاة فأطلقنا في أنفسنا شعار: أهلاً بكل شيء مهما كان حجم الموقف الذي يعترض طريقنا رهبة.
السماء لم تبخل علينا بضيائها لتنير لنا عتمة الطرق ووحشتها، والنجوم تتلألأ كالبريق المنبثق من عيني جدتي وهي تودعنا وأنا أتعثر بين الصخور وأنظر إلى الهوة العميقة في الوادي الملازم للجبل.. نزلت ذاكرتي باتجاه الوطن كانت لي أحلام بحجم المساء وآمال بقوة الشروق, اغتصب الأمنيات بروحي المتفانية.
هل الليل ستار؟ هل الظلام أحجية؟ هل الحرية هكذا صعبة المنال دائماً؟
تنبهت من تفكيري وأن أعثر بصخرة كبيرة أدت إلى سقوطي أرضاً فتندر عليَّ رفاق الرحلة بكثرة الأحلام؟
وما إن كسرنا باب الحدود المقفلة بصرامة واقتحمنا ضفة الأمل الجديد لفحتنا نسمات هواء باردة لم تكن بالحسبان لم نستنشق هكذا نسمات منذ أمد بعيد... هل هي نسمات الحرية؟؟ توقفنا برهة لنعيد النظر بحساباتنا. لم نعرف كم بقينا صامتين وفي داخل كل واحد منا أعاصير من الأفكار والخواطر اجتاحتنا ونحن نقف على مفترق طريقين كان إحساسا مشتركا فقد هدأت العاصفة فتسلقنا قمة الجبل يحدونا هدف واحد... فبستان جدتي مستحيل وحرية الشرق معتقلة وبلا وعي بدأت أركض وابن عمي يسابقني وقد تبعه أخي وهو يقرأ آيات من القرآن ويحمد الله على نجاتنا.
أحمد طابور
اترك تعليق