اشار ممثل المرجعية الدينية العليا في الخطبة الأولى من صلاة الجمعة في الصحن الحسيني الشريف بتاريخ (19 /5 /2017) ان كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الحارث الذي يضم وصايا بخصوص التمسك بالقرآن وذكر الموت ونصائح اخرى عظيمة، يمثل دورة كاملة في علم الاخلاق بشكل مضغوط ويتضمن ثلاث وثلاثين توصية اخلاقية ودينية في عبارات موجزة وبليغة.
وجاء في الوصايا (وَتَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَاسْتَنْصِحْهُ وَأَحِلَّ حَلَالَهُ وَحَرِّمْ حَرَامَهُ وَصَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ وَاعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً وَآخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا وَكُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ وَعَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ وَيُكْرَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ وَيُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ).
وقال الشيخ عبد المهدي الكربلائي ان الامام عليه السلام يوضح بعبارة (وَتَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَاسْتَنْصِحْهُ وَأَحِلَّ حَلَالَهُ وَحَرِّمْ حَرَامَهُ) تمسك : أي واعتصم واستنصحه أي اطلب النصح منه، والمراد لزوم العمل به وقبول نصائحه والعمل بمواعظة وان يلتزم بحلاله وحرامه ولا يحيد عنها وان يأخذ العبرة والعظة من احوال وعاقبة الامم السابقة وعوامل فلاحهم لمن اطاعوا انبياء الله تعالى واسباب هلاك ونزول العذاب الالهي على الاقوام التي تمردت وعصت انبياء الله تعالى وان يتأمل ويتدبّر في قصص هذه الاقوام، لان القرآن الكريم ليس بكتاب سرد للتاريخ وعرض قصص الامم الماضية بل كتاب يراد منه الهداية للحياة الاصلح والاقوم للبشر وان نجعله مرآة نرى من خلالها ما حلّ بالامم الماضية من العذاب الالهي بسبب تكبرها وظلمها وعصيانها لله تعالى ولانبيائه..
واضاف ان "الكثير من الايات القرآنية اشارت الى ذلك كما في قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)، مبينا ان عدد من الايات القرآنية ورد فيها التعبير بـ لعلهم يتفكرون لعلهم يعقلون لعلهم يفقهون وهكذا، مما جرى من التأكد على لزوم التأمل والتدبر في آيات القرآن الكريم".
واوضح "ان هناك احاديث شريفة تدعو الى لزوم دراسة القرآن والعمل به وتعليمه، كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ان اردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظل يوم الحرور والهدي يوم الضلالة فادرسوا القرآن فانه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان".
وبخصوص عبارة (وَصَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ) اشار الكربلائي ان المطلب فيها أي ان يصدِّق بما سلف من الحق مما حكاه القرآن الكريم من احوال القرون الماضية واحوال الانبياء مع اممهم ليصبح منه الاعتبار، موضحا ان الحقائق التي ذكرها القرآن عن حالات الاقوام السالفة ومصير الامم الماضية ينبغي الالتفات اليها والتدبّر فيها وكسب العبرة منها والحركة في طريق هذه العبر والدروس المستوحاة من مصير تلك الاقوام.
واستوقف عند عبارة (وَاعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً وَآخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا وَكُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ)، مشيرا الى ان من يريد ان يتعرف عن ما بقي من الدنيا واحوالها في المستقبل فلينظر الى ما مضى منها، فكما ان الماضي منها لم يبق على حاله كذلك المستقبل، وكما ان الدنيا أهلكت اهلها وأفنت من اعتمد عليها الايام السالفة فكذلك حالها فيما بقي منها، وآخر الدنيا لاحق بأولها في التغيير والتنكّر والفناء، وبتعبير آخر (التاريخ يعيد نفسه)، مبينا ان الاصول والقواعد الحاكمة على مسيرة التاريخ الماضي منه والحاضر والمستقبل واحد، كما ذكر هذه الحقيقة الامام امير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : (ان الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين)".
واستدرك ان "في هذه الجملة يشير (عليه السلام) الى حوادث الدهر والزمان، من قبيل الآفات والبلايا، وحالات النجاح والاخفاق وموت الاعزاء والاحبة وقساوة الدهر ومصائبه ونوائبه".
واوضح ان المقصود في عبارة (وَعَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ) يمثل كناية عن الاحتراز من القسم والحلف بالله تعالى في غير مورد الحق، أي لا تقسم به في غير مورد الضرورة كما يفعله اكثر العوام حيث ان اسم الجلالة على طرف لسانه (كما يقولون) فيحلف بالله صادقاً وكاذباً عند الضرورة وفي الامور التافهة الجزئية بل يكرر القسم به عدة مرات وفي كلام واحد مما يعتبر استهانة بالذات المقدسة بل نرى بعض العوام يقسم بالله على سلعة ليربح بها بضعة دنانير وتارة يكون كاذباً وتارة صادقاً وفي الصدق اهون ولكن المشكلة حينما يقسم بالله كاذباً ولأجل متاع الدنيا الفانية".
وبين ان الامام عليه السلام يكثر من ذكر الموت وعدم الغفلة عنه وان الاجل غير معلوم ويذكر ما بعد الموت من القبر والاخرة، مبينا ان الغرض من ذكر الموت هو التهيؤ والاستعداد له بالتوبة والاعمال الصالحة واداء الحقوق سواء أكانت لله تعالى ام للعباد، والتوجه لله تعالى بالخضوع والخشوع وعدم الانشغال بالدنيا".
و نهى الامام (عليه السلام) في عبارة (وَلا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ) ان يتمنى الموت الا بشرط وثيق وهو كناية عن الاعمال الصالحة وطاعة الله تعالى وولايته وولاية اوليائه فان تمنيه بدون ذلك سفه وحمق".
واضح ان الامام عليه السلام بعبارة (وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ وَيُكْرَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ) نظّم وصايا اجتماعية في الروابط بين المسلم وسائر اخوانه وابناء نوعه وحذّر عن الاستئثار بما يكره سائر الناس ويضّرهم وعن النفاق".
حيدر عدنان
تحرير: ولاء الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق