الزخارف الاسلامية.. رموز واسرار شامخة

اوجد المزخرف الاسلامي هوية فنه بواسطة شفرات وترميزات مميزة اصبحت فيما بعد هي اللغة الناطقة باسمه، وهي تتحرك بشكل ما لتسهم اسهاماً فاعلاً في بناء السياق الداخلي للتكوينات الفنية ونموها وازدهارها، وهذه الشفرات متغيرة متراكمة من جيل لآخر.. تتظافر فيها ابداعات كل جيل في تكوين شفره تتميز عن سوابقها ليولد منها سياقاً جديداً من الشفرات عُد فيما بعد سياقا متبعا في الفن الاسلامي .

لو دقق المتلقي النظر في تفاصيل الزخارف الاسلامية لوجد انها تحمل العديد من الشفرات والرموز المؤثرة في نفسه رغم عدم فهمه لها في بعض الاحيان، فهو يجد ان اندماج وتشابك عناصرها ذات امتداد لامتناهي من خلال التكرار الواضح بين عناصرها وافتقارها للبعد المنظوري والابتعاد عن تشخيص الزمان والمكان من خلال تسطيح الاشكال، فضلاً عن تعدد البؤر ونقاط الرؤية والالوان التي قد تشتت الانظار عند البعض. 

يعد الامتداد اللامتناهي في الاشكال الزخرفية من الشفرات او الترميزات المتحققة كثيرا في معظم التجريدات الاسلامية، فهو يتحقق على سبيل المثال في الايقاع المستمر للوحدات الزخرفية.. وما من شك ان بحث الفنان المسلم الفكري والروحي في الامتداد اللانهائي في الزخارف الاسلامية هو دلالة حركة الكون اللامتناهية وايضاً دلالة عن العروج الايماني للمسلم للسمو بالنفس ومن ثم الدنو من المطلق ( الخالق المصور) وهو ما تجسده الآية الكريمة (( ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين او ادنى))، فالامتداد اللامتناهي في التجريدات الزخرفية يكاد بحركته يجعل الناظر يتلمس لا نهائية البعد.. والذي بدوره يظهر بمسافات مختلفة وابعاد متباينة، فهي الصلة الوثقى بين المرء وخالقه التي تبدأ من العشق الالهي بين المؤمن وخالقه ذلك العشق الذي تنتفي فيه قيم الزمان والمكان بانتفاء الاشياء من عوالقها المادية  للسمو و الرفعة .

لقد سلك الفنان المسلم طرق عديده لتجسيد الامتداد اللامتناهي و كان من بينها اعتماده الحركة اللولبية للأشكال في زخارفه.. وهو ما يوحي بالمعنى الرمزي العميق الذي اخذ شخصيته المتميزة في الزخارف الإسلامية وفي جميع بقاع العالم الاسلامي، وعبر في معظم تلك التجريدات عن نظام دوراني مستقى من الشكل الدائري و يتبع رسمه دوران تدريجي من خلال التكبيرات و التصغيرات المتتابعة لأقطار الدائرة الخاضعة لمنهج القوى الجاذبة النابذة، لذا فهو دلاله عن بعدين رمزيين هما التصعيد والتنزيل.

اعتبر الفكر الاسلامي الوجود في كل ما موجود هو الحق في الانسان،  وان الحق صورة لكل شئ وغاية له وان لا معيار دقيق يظهر لنا كمتلقين فمعرفتنا حدسية بكل مكوناتها، وبالتالي فان معرفتنا للمطلق تجري من قبيل الادراك الداخلي الغامض وفي ذلك يسير الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا على خطى الافكار الاسلامية اذ يقول : (( من خصائص العقل الابتداء بمعنى اللامتناهي او الجوهر او المطلق ( الله ) ، من حيث ما هو في ذاته ومتصور بذاته، أي ما معناه غير مفتقر لمعنى شيئ اخر يكون عنه )) . وهذا يعني انه موجود بالضرورة بل واجب الوجود سرمدي لا يكون ولا يفسد وهو علة ذاته لامتناه واحد احد.

ومن هنا فقد اتجه الفنان المسلم نحو التأمل الذي يفضي به الى النظام الكلي السرمدي، ذلك ان الطبيعة الإنسانية المتناهية تحول دون معرفة الانسان لنفسه، ومن هذا المنطلق ايضاً طوع الفنان المسلم عدة اساليب وتقنيات لتجسيد ذلك الامتداد اللامتناهي الموصوف كتشابك الخطوط وامتداداتها والتي تبدو وكأنها تمثل الطبيعة المعقدة وتقدم للمشاهد نماذج عنها اختيرت كيفياً من بين مجموعات  لا حصر لها توحي  بأن لحمة الكون هي في حركة دائمة لا تتوقف عند حد معين .

ولكن لو امعنا النظر ودققنا اكثر لوجدنا ان اللامتناهي هنا يبقى ضمن امتداد العالم الطبيعي، وان تشابك تلك الخطوط ودوران حركتها انما هو تعبير عن مجاهدة روحية للسمو والاقتراب من المطلق( الله جل وعلا) دون الوصول اليه، وهذا ما دفع الفنان المسلم في تعزيز تجاربه الفنية في البحث عن الخالد بذاته ( الخالق المصور اليقين اللانهائي) والذي يبدو مطلبا فكريا ملحا لا يستقر الا عند التوحيد الذي يرجع كل شيء الى خالقه.

لذلك فأن الذهن التي يحرك العناصر الزخرفية في الفن الاسلامي في امتداد دائري حلزوني يجعل المتلقي لا يصل معه الى ايجاد نهاية للبعد الذي تسعى اليه الحركة، وبالتأكيد هذا الذهن ينطلق من التسليم بقوله تعالى (( لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير )).. فالسعي نحو ما لا تدركه الابصار يلغي المسافات والابعاد ويخرج من عالم الطبيعة متوجهاً نحو الاعجاز الالهي في الخلق والتكوين الذي لا تدركه الابصار، وان حركة الخطوط المتشابكة هي حقاً حركة الدهشة والذهول لهذا الامر فهي حركة التسامي عن قيم المادة ويبدو ان المقصود بها عند الفنان المسلم هي الشوق والرغبة لتحقيق قول الله عز وجل : (( ولله غيب السموات والارض واليه يرجع الامر كله )).. ذلك هو خلق الله .

اعداد

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

gate.attachment