النعمان بن بشير وموقفه من حركة مسلم بن عقيل

 

قراءة في تفاصيل النهضة الحسينية

عند دخول مسلم بن عقيل (ع) إلى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين (ع) يدعوهم إلى البيعة كان الوالي على الكوفة حينها النعمان بن بشير الذي ولّاه معاوية في أواخر أيامه وكانت مدة ولايته لمعاوية تسعة أشهر مات خلالها معاوية..

وقد وصفت المصادر التاريخية بأن سيرة النعمان بن بشير في ولايته على الكوفة من قبل معاوية قد اتّسمت باللين والتسامح والهدوء والابتعاد عن الثورات وقيام الحركات وسفك الدماء والفتن وقال بعض المؤرخين بأن معاوية ــ في آخر أيامه ــ قد تقصّد أن يولّي الكوفة النعمان لكي يطوي العهود الوحشية والدموية البشعة التي توالت على الكوفة في عهد عامِلَيه المجرمين زياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة وإنه أراد أن يُنسي الناس تلك الأيام المظلمة ويطوي تلك الصفحات السوداء في حياتهم فولّى النعمان بن بشير وأوصاه باللين والتسامح و(بعض الإصلاح) كما يقولون !!

ولكن أحقا ما يقولون ؟

وهل يعقل هذا !!

عشرون عاماً من الإرهاب وما لا يحصى من الدماء البريئة التي أراقها معاوية من شيعة أمير المؤمنين خلال مدة ملكه وممارسة شتى وسائل التعذيب بحقهم من قطع الرؤوس والأطراف والصلب على جذوع النخل ودفنهم أحياءً وشنّ الغارات الوحشية على المدن والقرى الآمنة والتصفيات الجسدية التي طالت حتى النساء والأطفال إضافة إلى ممارسات السلب والنهب والسبي التي وصفها معاوية لأحد المجرمين من أتباعه وهو بسر بن أرطأة وقد أوصاه بسلب الأموال ونهب الممتلكات بأنه (أوجع للقلب) ولم يستثني من عمليات التصفية الجسدية بحق الشيعة حتى الصحابة الأجلاء الكبار أمثال: حجر بن عدي الكندي, وعمرو بن الحمق الخزاعي, وعمرو بن عميس بن مسعود ابن أخي الصحابي عبد الله بن مسعود, وغيرهم.

وكان النعمان واحداً من أولئك الذين لهم نصيب وافر من ارتكاب هذه الجرائم والموبقات والمخازي.

فهل أن مثل النعمان وهو أحد أدوات معاوية الإجرامية البشعة يميل إلى التسامح واللين والإصلاح ؟

وهل أن مثل معاوية من يميل إلى حقن الدماء وهو الذي حتى عندما أحسّ بدنوّ أجله أصر على تنصيب يزيد مكانه في الخلافة وسخّر كل وسائله ودواهيه الشيطانية في سبيل ذلك رغم إنه يعرف ابنه جيداً: وحش على شكل آدمي ؟

لقد عُرِف معاوية بأساليبه الشيطانية ودواهيه العظمى لتحقيق مآربه ولعل في استقراء أحداث تلك الفترة ما يوضح سبب تولية النعمان على الكوفة من قبل معاوية دون غيره ويفصح عن سبب تغافل النعمان عن حركة مسلم بن عقيل (ع) في الكوفة وعدم التصدي لها ومجابهتها.

من هو النعمان ؟

(كان النعمان بن بشير الأنصاري منحرفاً عن علي (ع) وعدوَّاً له, وخاض الدماء مع معاوية خوضاً، وكان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل وهو على حاله....) (1)

رغم أن هذا الوصف ينفي ما وصُف به النعمان من التسامح والمداراة إلا أنه لا يعطي الصورة الحقيقية الشنيعة لهذا المنافق بنص حديث الرسول (ص) الذي ميز به المؤمن من المنافق: (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق إلى يوم القيامة) (2) فكان الصحابة يعرفون المنافقين منهم ببغضهم لعلي.

ولنتعرف على النعمان ..

كان من رؤوس الفتن, وقادة النفاق, وشذاذ البغاة والعتاة, باع دينه وشرفه وضميره لمعاوية, فانضمّ إلى قائمة المجرمين الذين كانوا (أبطال) سوح الجبن والغدر والمكر والمؤامرات وشن الغارات على المدن والقرى الآمنة, وقتل الأبرياء والضعفاء والشيوخ والنساء والأطفال...، سوح الجبناء الذين ترتعد فرائصهم من ذي الفقار وسيوف الأشتر والمرقال وعمار عند المواجهة ليغيروا على الرجال بغتة وهم آمنون ويغدروا بهم ويسبوا النساء ويأسروا الأطفال ويسلبوا وينهبوا ...، ساحة الأنذال والمنحرفين عن الحق والسالكين طريق النذالة والخسة والوضاعة والمتملقين لابن آكلة الأكباد والمتقوِّتين على موائد السحت, ساحة الدهاء الذي لم يعرف يوماً معنى الشرف..., إنه مجرم وأداة من أدوات معاوية الإجرامية.

بلغ من وفائه لمعاوية أن حُظي بمنزلة كبيرة عنده, وكان يكرمه ويرفع من شأنه أمام أهل الشام, وكان يقول: يا معشر الأنصار تستبطئونني وما صحبني منكم إلا النعمان بن بشير وقد رأيتم ما صنعت به, وكان ولاه الكوفة وأكرمه (3)

نعم هكذا ينتقي معاوية رجاله من طغام الناس وأراذلهم وأوغادهم لينفذوا له مآربه الدنيئة كما قال أمير المؤمنين (ع): (ألا وإن معاوية قاد لمّةً من الغواة وعمّس عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية)

أبوه.. بشير بن سعد

لم يكن انحراف النعمان عن الحق ووقوفه مع الباطل بجديد على أسرته فقد سبقه أبوه بشير بن سعد والذي عصى الله ورسوله ونقض العهد الذي أخذه عليه النبي (ص) وعلى جميع المسلمين يوم الغدير بمبايعة أمير المؤمنين (ع) بعده, لكن بشيراً خان ذلك العهد وكان أول المبايعين يوم السقيفة من الأنصار (4) وأبى بشير أن يكون لغيره السبق في دعم تلك (الفلتة) التي وقى الله المسلمين شرها, فوضع بصمته الواضحة عليها.

لقد غدر بشير بقومه وهذا ما جعل الحباب بن المنذر الأنصاري يثور غضباً ويكشف عن طوية بشير الفاسدة والحاقدة ونفسيته الرديئة الحاسدة ويقول له: يا بشير بن سعد عقُّك عِقاقٌ ما اضطرك إلى ما صنعت ؟ حسدت ابن عمك على الإمارة ؟

لقد كشف الحباب عمّا في نفس بشير من الحسد والحقد ليس على ابن عمه سعد بن عبادة فقط, بل على جميع الأنصار وقد تنبّه الحباب إلى العواقب الوخيمة لتلك البيعة المشؤومة على الأنصار فانتفض ليمنع الناس عن البيعة بالقوة: (فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم، حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها يا معشر الأنصار، أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء....).

تنبأ الحباب بعواقب هذه البيعة الشيطانية اللعينة على الأنصار وما سيؤول إليه مصيرهم وفقها, وقد صدق تنبؤه حينما أفصح في السقيفة عما داخله من شعور واستقراء للمستقبل الأسود الذي ينتظرهم وقال: سيأتي من (يسومنا الضيم...)

هذه مواقف بشير بن سعد المخزية تجاه بني قومه, والأخزى عصيانه أمر الله ورسوله وطاعته أهل النفاق والشقاق وتقديم المشورة لهم, والدفاع عنهم, وقد انتهت حياته تابعاً لا متبوعاً ــ كما تنبأ الحباب ــ حيث خرج مع الجيش الذي قاده خالد بن الوليد لغزو عين التمر عام (12هـ) فقتل رجالها وسبى نساءها وارتكب فيها مجزرة عظيمة وقد أصيب بشير بن سعد بسهم في تلك المعركة فقتل ودفن هناك, ولكن حياته لم تقتصر على هذه المواقف المنحرفة، بل ترك بعده من يواصل منهج النفاق والانحراف وتكون له مواقف أكثر من مواقفه انحرافاً وهو ابنه النعمان.

رسول الفتنة

كان النعمان أموي الهوى والتبعية, وكان يوم الدار مع الخليفة الثالث ولكنه لم يدافع عنه حينما قتل, فقد صحبه ووالاه طمعاً بما يغدقه عليه من الأموال, وما إن انتهى ذلك اليوم بقتل الخليفة حتى أخذ النعمان أنامل نائلة بنت الفرافصة زوجة الخليفة وقميصه وحملهما إلى معاوية ليوقد الفتنة التي سالت بسببها دماء عشرات الآلاف من المسلمين, عندما رفع معاوية راية العصيان والنفاق والشقاق والكفر ليقاتل أمير المؤمنين بدعوى الطلب بدم الخليفة وقد مهّد النعمان لهذه الحرب ونفخ في أبواقها ودق طبولها.

فرح معاوية بهذه (الهدية) التي قدمها إليه النعمان على طبق من ذهب والتي اتخذها ذريعة للتمرّد على حكومة أمير المؤمنين (ع), ولكي يحكم من خطته الدنيئة ويرسّخ في أذهان الناس بأنه يريد القصاص من قتلة عثمان وليعطي مبرراً لحربه وشرعية لتمرّده, فقد أرسل النعمان مع زميله في النفاق والشقاق أبي هريرة إلى أمير المؤمنين (ع) وقال لهما:

(إئتيا عليا فناشداه الله وسلاه بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان فإنه قد آواهم ومنعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه، فإن أبى فكونوا شهداء الله عليه وأقبلا إلى الناس فأعلماهم ذلك) !!

ألا يعرف معاوية من هم قتلة عثمان وهو أحدهم عندما تخلف عن نصرته ؟ وإن جميع المسلمين قد اشتركوا في قتله, ولكن العجيب من بعض المؤرخين الذين يظهرون موقف معاوية من إرساله هذين المنافقين بموقف من يريد مصلحة المسلمين فيقولون: (أن النعمان بن بشير قدم هو وأبو هريرة على علي (ع) من عند معاوية يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقتلهم بعثمان لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس) !! ومتى كان معاوية بالذي يهتم بأمور المسلمين ؟ ومتى كانت غايته الإصلاح وقد كانت كل أعماله هي إشعال الحرب بين المسلمين ؟

لقد كانت غايته من إرسال هذين المنافقين إلقاء تبعة قتل عثمان على أمير المؤمنين, حيث انقلبت سيرة عثمان عنده وعند قتلته من المنافقين أمثاله بعد قتله إلى سيرة الخليفة المظلوم المؤمن التائب الصالح الزاهد العابد !!

لقد أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة ــ وهم في نظر الناس من الصحابة ــ من عند علي (ع) إلى الناس ويخبرونهم بالجواب، فقد كان يعلم جيداً أن علياً (ع) لا يدفع قتلة عثمان إليه فأراد أن يشهد هذان المنافقان له عند أهل الشام بذلك وأن يعلن بذلك حربه وعصيانه لأمير المؤمنين.

نعيق النفاق

جاء النعمان وأبو هريرة إليه (ع) فدخلا عليه فقال له أبو هريرة: (يا أبا الحسن: إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلاً وشرفاً، أنت ابن عم محمد رسول الله (ص) وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمراً تهدأ به هذه الحرب ويصلح الله به ذات البين, أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه، فيقتلهم به، ثم يجمع الله به أمرك وأمره ويصلح الله بينكم، وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة) !! ثم تكلم النعمان بمثل ما تكلم به أبو هريرة.

لم يلتفت أمير المؤمنين إلى أبي هريرة ولم يجبه لأنه كان أصغر من أن يُجاب لتفاهته فقال (ع) لهما: دعا الكلام في هذا. حدثني عنك يا نعمان أأنت أهدى قومك سبيلا ــ يعني الأنصار ؟ قال: لا. فقال (ع) له: كل قومك قد اتبعني إلا شذاذاً منهم، أفتكون أنت من الشذاذ ؟!

كان الجواب مفحماً جعل النعمان يشعر بحجمه الحقيقي بعد أن أنسته الهالة الزائفة التي منحها له معاوية من هو في مقابل كبار الصحابة من الأنصار فضلاً عن أمير المؤمنين (ع), لكي يوجه إليه هذا الطلب, لقد وضعه جواب أمير المؤمنين (ع) في حجمه الضئيل الذي يستحقه وجعله ينتبه إلى سلوكه المشين فلم يستطع الرد سوى بالرضوخ لهذه الحقيقة فقال لأمير المؤمنين:

(أصلحك الله، إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام وقد كنت رجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك وطمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحا، فإذا كان غير ذلك رأيك فأنا ملازمك وكائن معك).

لقد كان كبار الصحابة من الأنصار ورؤوسهم وأشرافهم وأفاضلهم وأسبقهم إلى الإسلام مع علي, فمن هو النعمان أمام: قيس بن سعد بن عبادة, وخزيمة بن ثابت ــ ذي الشهادتين ــ, وأبي أيوب الأنصاري, وعامر بن فضالة، وسهل بن حنيف وغيرهم من أفذاذ الرجال ؟ وما قيمة هذا المنافق أمامهم لكي يطلب من أمير المؤمنين وهو قائد الصحابة وسيدهم هذا الطلب ؟ فقال قوله هذا نفاقاً وكذباً ومكراً, فبقي في الكوفة وهو يتحيّن فرصة الهروب إلى سيده معاوية.

عودة أبي هريرة

أما أبو هريرة فقد عاد إلى الشام وأخبر سيده معاوية بما قال أمير المؤمنين (ع)، ففرح معاوية بذلك فهو كان يعلم مسبقاً جواب أمير المؤمنين قبل أرساله النعمان وأبا هريرة, ولكنه لعب هذه اللعبة لتحقيق مآربه السياسية الدموية والبشعة, وقد عُرف بهذه الأساليب الدنيئة التي جُبل عليها, فما إن وصله أبو هريرة حتى أمره أن يخبر الناس ففعل.

لقد امتثل أبو هريرة لأمر معاوية دون تردد كاشفاً عن عنصره الوضيع ومعدنه الدنيء في تحريض الناس على أمير المؤمنين (ع) وإعطاء شرعية أموية جاهلية لمعاوية للتمرد على علي وعصيانه وعدم الامتثال لطاعته وقتاله بعد أن أجمع المسلمون على بيعته, وليس غريباً على هذا المنافق التافه أن يوقد نار الفتنة بين المسلمين ويدق طبول الحرب بينهم غير آبه بالدماء التي جرت, فقد عُرف بنفاقه وكذبه على عهد رسول الله (ص)

فرار النعمان

أقام النعمان في الكوفة بعد رحيل أبي هريرة عنها أشهراً ثم خرج فاراً, فمرَّ بـ (عين التمر) ــ وهي مدينة عراقية بين كربلاء والأنبار ــ وهناك قبض عليه مالك بن كعب الأرحبي وكان عاملاً لعلي (ع) عليها فقال له مالك :ــ ما مر بك ههنا ؟. فقال النعمان: إنما أنا رسول بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت. ولكن مالك لم يقتنع بقول هذا المنافق فارتاب منه وحبسه، ثم قال له: تبقى هنا كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك, فتوسل إليه النعمان أن لا يكتب إلى علي وأن يطلق سراحه وأقسم له أنه أدى رسالته وهو عائد إلى الشام, فقد ثقل على النعمان مواجهة أمير المؤمنين وهو على هذه الحال بعد أن أعطى كلمته بأنه سيبقى معه وفر منه فرار العبيد, لكن مالك أصرّ على مكاتبة أمير المؤمنين بمصيره, وحاول النعمان التخلص منه بشتى الطرق, فسمع بأن قرظة بن كعب الأنصاري قد جاء إلى عين التمر يجبي خراجها لعلي (ع), فأرسل من يعلمه بحاله مع مالك وأوصاه بأن يحضر لينقذه من هذا المأزق, فجاء قرظة مسرعاً حتى وصل إلى مالك بن كعب فقال له: خل سبيل هذا الرجل - يرحمك الله - فقال له مالك: يا قرظة, اتق الله ولا تتكلم في هذا فإن هذا لو كان من عباد الأنصار ونساكهم ما هرب من أمير المؤمنين إلى أمير المنافقين، فلم يزل قرظة يقسم عليه ويرجوه أن يطلق سراحه حتى خلى سبيله، ولكن مالك لم يكن ليترك النعمان يذهب وهو يظن بأنه قد خدعه بكلامه فقد وجه إليه كلاماً أذله فيه فقال له:

ــ يا هذا لك الأمان اليوم والليلة وغداً ثم والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك.

لم يصدق النعمان أنه قد أفلت من مالك فما كاد مالك ينتهي من كلامه حتى ركض مسرعاً وركب بعيره ليبتعد بما يستطيع عن مالك وهو يسير على غير هدى وبقي ــ ضالاً ــ في الصحراء ثلاثة أيام لا يدري إلى أين تقوده راحلته ؟ بل لا يدري أين هو ؟ !

ثم وجد ضالته فبينما هو يسير إذ رأى قرية صغيرة فوقف ليستجلي الخبر, ومع من هذه القرية ؟ فعلم أنه عند بني القين  وهم حي من أتباع معاوية فلما دخل القرية وقد أقاموا حول الماء تنفس الصعداء حين التقى من هم على ضلالته وهو على ضلالتهم فأمن عندهم. ولما وصل إلى معاوية شارك زميله أبا هريرة تحريضه على قتال أمير المؤمنين بدعوى المطالبة بدم عثمان.

النعمان في صفين

كان من الطبيعي أن يقف النعمان في صف البغاة مع جيش معاوية في حرب صفين ولم يكن مع معاوية من الأنصار غيره وغير مسلمة بن مخلد ولم تكن له في أيام صفين ولا غيرها مبارزة واحدة, بل كان من (أبطال) الترهات والكذب والنفاق والتملق لسيده معاوية.

لقد بلغ بهذا المنافق التملق لمعاوية بأن يتجرأ على وصف سلوك الأنصار باتباعهم نهج أمير المؤمنين بالباطل, حيث وقف في صفين وخاطب زعيم الأنصار وسيدهم قيس بن سعد بن عبادة (رضوان الله عليه) فقال:

(يا قيس بن سعد، أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه ــ يقصد معاوية ــ إنكم معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وإقحامكم على أهل الشام بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً كان هذا بهذا, ولكنكم خذلتم حقاً ونصرتم باطلاً, ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس، حتى أشعلتم الحرب ودعوتم إلى البراز، فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشام سراعاً إلى برازكم والله لا تزالون أذلاء في الحرب أبداً, إلا أن يكون معكم أهل الشام، وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، ونحن أحسن بقية, وأقرب إلى الظفر، فاتقوا الله في البقية) !!!

ليس عجيباً أن يثير هذا الكلام الضحك والسخرية عند سماعه فقد ضحك البطل قيس بن سعد عندما سمع هذا الجبان يتفوّه به, إنه يصف الأنصار بالأذلاء بوقوفهم مع علي وهو الذي كان أذل من (فرام المرأة) عندما قبض عليه مالك بن بشر الأرحبي في عين التمر, وتوسّل به لكي يطلق سراحه وكاد قلبه ينخلع من الخوف ولاذ بقرظة بن كعب, ثم يقول الآن: (ونحن أقرب إلى الظفر) وقد أبدى رؤوس جيش الشام عوراتهم خوفاً من ذي الفقار ووصل الأشتر إلى فسطاط معاوية وكشف ابن العاص عورته لحقن دمه.

ضحك قيس من هذا القول المتملق وسخر منه فهو يعرف النعمان وصغره ووضاعته ولكنه آثر بأن يجيبه وإن كان لا يستحق الجواب ولكن لكي لا تبقى في أذهان السذج والمخدوعين هذه السفاسف والترّهات التي نطق بها النعمان فقال له:

(والله ما كنت أراك تجترئ على هذا المقام, أما المنصف المحق فلا ينصح أخاه من غش نفسه, وأنت والله الغاش لنفسك، المبطل فيم انتصح غيره، أما ذكرك عثمان، فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه: قَتَل عثمان من لستَ خيراً منه، وخذله من هو خير منك. وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث. وأما معاوية, فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلهم الأنصار، وأما قولك إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله (ص) نتقي السيوف بوجوهنا والرماح بنحورنا, حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ولكن انظر يا نعمان: هل ترى مع معاوية إلا طليقاً إعرابياً، أو يمانياً مستدرجاً ؟ وانظر: أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه. ثم انظر، هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك ــ مسلمة بن مخلد ــ ولستما والله بدريين ولا عقبيين ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن).

هذا الجواب الشافي الذي وجهه البطل قيس لهذا المنافق أوضح فيه إلى أي مدى بلغت السفالة بمعاوية وأتباعه في قتالهم أمير المؤمنين (ع).

الغارة الجبانة

لقد كانت عقدة (عين التمر) مؤثرة على النعمان, فأبوه قُتِل فيها مع خالد بن الوليد في هجومه الوحشي عليها, وهو كادت روحه تخرج من جسده وقلبه يتوقف من الرعب عندما قبض عليه مالك بن كعب الأرحبي حتى خلصه قرظة منه, فبقيت أحداث تلك الأيام تؤرقه وبقي يتحين الفرصة لأخذ ثأره ورد اعتباره للإهانة التي وجهها إليه مالك, والذل الذي كان عليه وهو يتوسل إليه بأن يطلق سراحه..., وأخيرا حانت الفرصة.

كان معاوية قد بدأ بسياسة شن الغارات الجبانة على المدن والقرى الآمنة بعد التحكيم والعودة إلى الجاهلية الأولى التي لم يخرج عنها فكان يستدعي أتباعه ويأمرهم بشن الغارات وترويع الناس وقتل كل من يجدوه من شيعة أمير المؤمنين وسلبهم ونهبهم ولم يُستثنى من القتل حتى النساء والأطفال, وكان يختار لهذه العمليات الإجرامية من له تاريخ عريق في الجريمة والكفر والنفاق أمثال: الضحاك بن قيس الفهري, وبسر بن أرطأة المري, وسفيان بن عوف الغامدي وغيرهم والذين ارتكبوا أبشع الجرائم بحق الإنسانية في التأريخ, ومن ضمن الذين اختارهم أيضاً لينضموا إلى هذه الوحوش البشرية النعمان بن بشير.

فهذا المجرم الذي (لم يزل مع معاوية مناصحاً مجالداً لعلي) كما وصفته المصادر كان مستعداً كل الاستعداد لارتكاب أية جريمة في سبيل إرضاء سيده معاوية وطمعاً بما عنده من الأموال والمناصب, وانتقاما من شيعة أمير المؤمنين (ع) وأخيراً جاءته الفرصة عندما سمع معاوية يقول لأصحابه: (أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات يرعب بها أهل العراق) ؟ وانتفضت أحقاد النعمان على أهل العراق واحمرت عيناه وهو يذكر أباه المقتول, كما وتذكر إذلاله في عين التمر فقال له:

ــ (ابعثني.. فإن لي في قتالهم نية وهوى) فقال معاوية: فانتدب على اسم الله !!

ولا أدري هل يرضى الله بإرعاب الأبرياء وترويعهم وتشريدهم وقتلهم وسلبهم ونهبهم لكي يرسل معاوية النعمان على اسم الله !! ــ حاشا الله من ذلك ـــ إنهم يرتكبون من الجرائم ما تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس ويقرنون ذلك باسم الله !! 

دنا النعمان من عين التمر وهو يستعد للهجوم عليها ومعه ألفا رجل، وكان مع مالك بن كعب الأرحبي ــ عامل علي ــ الذي أذل النعمان ألف رجل قبل أن يدنو النعمان من عين التمر, ولكن مالك أذن لهم بالرجوع إلى الكوفة ولم يبق معه إلا مائة رجل أو أقل من هذا العدد.

وعلم مالك بدنو النعمان بألفي رجل, وكان الفارق كبيراً جداً بين أصحاب مالك وبين جيش النعمان الذي يزيد عدده بعشرين ضعفاً على عدد أصحاب مالك, وإذا أراد مالك المواجهة فإن كل رجل من أصحابه عليه أن يواجه عشرين رجلاً من أتباع النعمان, فكتب مالك إلى علي (ع) بذلك ولما وصل كتاب مالك إلى أمير المؤمنين (ع) دعا الناس إلى نصرة مالك وقال لهم: (يا أهل الكوفة انتدبوا إلى أخيكم مالك بن كعب، فإن النعمان بن بشير قد نزل به في جمع ليس بكثير فانهضوا إليهم لعل الله أن يقطع بكم من الظالمين طرفا) ثم أرسل (ع) عدي بن حاتم مع سرية من جيشه لنصرة مالك وما إن سار عدي حتى وصلت الأخبار إلى أمير المؤمنين بهزيمة النعمان قبل وصول عدي إلى عين التمر.

مخنف بن سليم

لما أحاط النعمان بعين التمر قرر مالك قتاله حتى الموت وراح يشجع أصحابه على القتال ويحثهم على الصبر واليقين والثبات والحق الذي هم عليه مع أمير المؤمنين, وكان مالك من الشجعان الأبطال فلم يبال بكثرة عدوه وقلة من معه, بل حث أصحابه على القتال وهم يواجهون جيشاً يفوق عددهم بعشرين ضعفاً, ثم أرسل أحد أصحابه إلى أطراف عين التمر لعله يجد من أصحاب أمير المؤمنين من ينضم إليهم لمواجهة جيش النعمان فوجد مجموعة من الفرسان فدنا منهم وكان على رأسهم مخنف بن سليم وهو من أصحاب أمير المؤمنين المخلصين وقد جاء على أرض الفرات إلى أرض بكر بن وائل لجمع الصدقات فاستغاثه, وكان مع مخنف رجال كثر فأرسل معه خمسين رجلاً منهم بقيادة ابنه عبد الرحمن فوصلوا سريعاً فوجدوا أن النعمان أحاط بجيشه أصحاب مالك الذين استماتوا في الدفاع عن المدينة رغم قلتهم, وقد أنهكتهم كثرة العدو وقاتلهم مالك بن كعب وأصحابه إلى العصر وقد كسروا جفون سيوفهم واستسلموا للموت, فلما رأى أتباع النعمان عبد الرحمن ومعه خمسون رجلاً ظنوا أن وراءهم جيشاً فانحازوا عنهم وارتعبوا من هذا الهجوم المباغت الذي قام به عبد الرحمن عليهم فلم يشعروا إلا وقد هجمت عليهم الفرسان فاقتتلوا وحجز الليل بينهم وهم يظنون أن هؤلاء الفرسان هم مقدمة لجيش سيأتي بعدهم مدداً فاتخذوا الليل ستارا للانهزام, ولو أبطأ عبد الرحمن بن مخنف عن مالك وأصحابه لقتلوا جميعا فمجيء عبد الرحمن في تلك اللحظة أثار حماس مالك وأصحابه أكثر فهجموا عليهم هجمة رجل واحد وأخرجوهم من القرية وقتلوا منهم وجرحوا وهكذا باءت هذه الغارة وأصحابها بالفشل الذريع ورد الله كيد من دبر لها إلى نحورهم.

إذن ؟؟

إن هذه السيرة السيئة للنعمان تنفي عنه أوصاف اللين والتسامح والمداراة تجاه شيعة أهل البيت نفياً قاطعاً فضلا عن سكوته عن حركة مسلم بن عقيل التي كانت الغاية منها أخذ البيعة للإمام الحسين بن علي (ع) فما هو سر سكوته وتجاهله ؟

رملة

نرى من متطلبات الموضوع ذكر قصة هذه المرأة التي كانت سبباً في النفور ومن ثم العداء بين يزيد والنعمان بن بشير, والذي استفحل ووصل إلى أقصى مداه, وقصتها مع عبد الرحمن بن حسان بن ثابت تدحض المغالطة التي يراها كثير من الكتّاب والمؤرخين, وهي أن النعمان كان متساهلاً مع مسلم بن عقيل حينما دخل إلى الكوفة سفيراً للإمام الحسين (ع), وإنه كان والياً ضعيفاً وليناً وفي قلبه رقة..., وإلى غير ذلك من الأوصاف التي لم تكن تنطبق عليه تماماً.

رملة .. كان هذا الاسم حاضراً وبقوة على أفواه الناس في عهد معاوية وهم يصفونها دون أن يراها أي أحد منهم, كما كان هذا الاسم هاجس الشعراء لكن أحداً منهم لم يجرؤ على التغزّل بها خوفاً من معاوية, أما سبب شهرة هذا الاسم فإنه كان من الأوراق التي استخدمها معاوية في تحقيق مآربه بعرضها الزواج على من أراد منه أن يسدي إليه خدمة ما.

لقد أصبحت رملة حديث الناس دون أن يراها أحد, بل حتى دون أن تذكر عنها أي شيء كل المصادر التاريخية سوى حادثة تغزّل عبد الرحمن بها ومن المرجّح بل من الواضح جداً أن رملة هذه كانت دمية اخترعها معاوية لتحريكها متى شاء أمام كثير من الرجال الذين واعدهم بالزواج منها مقابل إسداء خدمات له, ليتهافتوا على هذا الزواج الموهوم كما تهافت عليه عبد الله بن سلام, ولو كانت موجودة فعلاً لأشارت إليها المصادر أو على الأقل بعضها أو أشارت إلى زواجها وأولادها سوى حادثة تغزل عبد الرحمن بها دون أن يراها ووعد معاوية لابن سلام بالزواج منها دون أن يراها أيضاً.

لقد صيّرها معاوية أضحوكة الناس، وفاكهة تندّرهم، لكثرة الرجال الذين واعدهم بالزواج منها في سبيل تحقيق مآربه، والتاريخ يذكر عبد الله بن سلام القرشي وهو أحد المخدوعين التعساء الذين خُدعوا بهذا الزواج الوهمي.

كان هذا الرجل واليه على العراق وجاء لزيارته لتهنئته على سلامته من الضربة التي نجا منها وجاءت معه زوجته (أرينب بنت اسحق)، وكانت من أجمل النساء، فرآها يزيد وهام بحبها فعمل معاوية على تنفيذ رغبة ابنه المتهتك, فواعد ابن سلام بتزويجه من ابنته رملة، إن هو طلق زوجته فطلقها، ولكن معاوية رفض تزويج هذا المغفل من ابنته بدعوى إنه غير كفؤ ! ولكن هذه المرأة (أرينب) لم تصل إلى يد يزيد بفضل الإمام الحسين (ع)، الذي التقى بالقافلة التي حملتها في طريقها إلى الشام، فأرجع المرأة المغلوبة على أمرها إلى زوجها المخدوع. ونحن نترك التعليق على هذه الحادثة إلى القارئ الكريم، ليرى إلى أي مدى وصل الانحدار والانحطاط الأخلاقي بمعاوية لتحقيق مآربه وتلبية نزوات يزيد، والخلق السامي الذي حمله الحسين في إصلاح الأود والإعوجاج. (5) 

عبد الرحمن بن حسان

وكان من ضمن الذين استهوتهم أوصاف رملة التي زوّقها الناس بمساحيق الثرثرة عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري فتغزل بها بأبيات مشهورة آثرنا عدم ذكرها ومن أراد الاطلاع عليها فهي موجودة في كثير من المصادر, وقد جرت العادة عند الشعراء الجاهليين التغزّل بحبيباتهم وكذلك بالنساء التي يسمعون بجمالها وأوصافها دون أن يروها وحتى أنهم يختلقون أسماء لنساء لا يوجدن إلا في مخيلاتهم ليفتتحوا بالتغزل بها قصائدهم مثل دعد وسعاد وخولة وغيرها وقد استمرت هذه العادة عند الشعراء الأمويين.

وقد أثار هذا الغزل يزيد, ومن الطبيعي أن يثيره ليس لغيرته عليها فهو كان فاسقاً ماجناً سكيراً عربيداً فاقداً للغيرة، بل لأمور منها أن رملة حتى وإن كانت غير موجودة فعلاً فإنها أصبحت في أذهان الناس أخته ولا يستطيع إنكارها بعد أن رغّب أبوه بالزواج منها كل من تطلبت سياسته أن يسدي له أمراً, وأصبح اسمها شائعاً ومشهوراً بين الناس, والسبب الرئيسي الذي جعل يزيد يثور هو أنه كان يرى أن الأنصار هم دون قريش في النسب والشأن, وأن قريشاً وبني أمية أرفع مكانة منهم وإلّا لِمَ لَمْ يَثر يزيد عندما تغزّل أبو دهبل الجمحي (القرشي) بعاتكة بنت معاوية ؟ لقد اتخذ يزيد من هذا التغزل ذريعة للإيقاع بالأنصار كلهم, وحاول تحريض معاوية عليهم, فقد كان يكره الأنصار كرهاً لا هوادة فيه لأنهم نصروا النبي (ص) وآووه ودافعوا عنه وقاتلوا قريشاً وأذلوا جبروتها وهذه النظرة الجاهلية للأنصار ورثها عن أبيه وجده وهي نظرة قريش التي كانت تنظر بها إلى الأنصار على أنهم أدنى منهم, وسيتضح ذلك جلياً من خلال حواره مع أبيه وطلبه من الأخطل هجاء الأنصار.

عندما بلغ أبيات عبد الرحمن بن حسان التي شبب بها برملة غضب ودخل على معاوية، فقال: ألا ترى إلى هذا (العلج من أهل يثرب)، يتهكم بأعراضنا، ويشبب بنسائنا ؟ فقال معاوية: ومن هو ؟ قال له يزيد: عبد الرحمن بن حسان. وأنشده ما قال.

إنه يشبِّه عبد الرحمن بـ (العلج) وهذا رأيه ليس في عبد الرحمن فحسب, بل هو رأيه في جميع الأنصار ويدل على ذلك قوله (من أهل يثرب) مدينة الرسول (ص), ولكن معاوية امتص غضبه واستمهله حتى يأتي إليه وفد الأنصار ليعالج الموقف.

فلما جاء وفد الأنصار ذكره يزيد بقول عبد الرحمن ولكن معاوية كان قد أعدّ بدهائه خطة لكي يتجنب غضب من هم معه من الأنصار وهما النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد إذا ارتكب يزيد حماقة لا يُحمد عقباها فهو يعرف ابنه جيداً فأراد أن يرضيه دون أن يُغضِب النعمان ومسلمة الرجلين الوحيدين الذين كانا معه من الأنصار وأن يتحاشى انقلاب الرأي العام ضده إذا أغضب الأنصار وهم صحابة الرسول وأنصاره.

ودخل وفد الأنصار وفيهم عبد الرحمن بن حسان وما إن رآه معاوية حتى قال له: يا عبد الرحمن، ألم يبلغني أنك شببت برملة ؟ قال: بلى، ولو عملت أن أحداً أشرف لشعري منها لذكرته. فقال: فأين أنت عن اختها هند ؟ قال: وإن لها لأختاً يقال لها هند ؟ قال: نعم. وقد أراد معاوية بهذه الحيلة أن يقول ليزيد وغيره أن عبد الرحمن لم ير رملة بل تغزّل بها وفقاً لأقوال الناس باختراعه لدمية أخرى تسمى هنداً.

ولكن يزيد لم يكن يرضى بهذا الحل دون ارتكاب حماقة فأرسل إلى الشاعر كعب بن الجعيل وقال له: اهج الأنصار. فقال ابن الجعيل: أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام ؟ أأهجو قوماً آووا رسول الله (ص) ونصروه ؟!

وفي الحقيقة إن ابن الجعيل لم يكن بذلك الإنسان الذي يتورّع عن هجاء الأنصار وقد باع دينه ليزيد ومعاوية ولكنه خشي أن يكون في موقع لا يُحسد عليه, وأن يجعله يزيد في فم المدفع وخاف عاقبة ذلك وعقابه من معاوية والأنصار, وإلا لما أرشد يزيد على من يلبي له هذا الطلب ــ والدال على الشيء كفاعله ــ

فعندما قال له يزيد: أما إذا كنت غير فاعل فأرشدني إلى من يفعل ذلك. قال له كعب: غلام منا خبيث الدين كافر ماهر، يقال له الأخطل فاستدعاه يزيد، وقال له: أهج الأنصار. فقال: أخاف من معاوية فقال له يزيد: لا تخف شيئاً، أنا بذلك لك. فهجاهم بهذه الأبيات:

وإذا نسبتَ ابن الفريـــــعةِ خلتـه   ***   كـالجــحشِ بين حمارةٍ وحمارِ

لعنَ الإلهُ من اليهـــــودِ عصـابةً   ***   بالجـزعِ بين صليصلٍ وصدارِ

قومٌ إذا هدرَ العصيـــــرُ رأيتهـم   ***   حــــمراً عيونهمُ من المسطـارِ

خلّوا المكارمَ لستمُ مـــــن أهلهـا   ***   وخـــذوا مساحيكم بني النجـارِ

إن الفوارسَ يعرفونَ ظهوركم    ***   أولاد كــــــــــــل مـقـبِّـح أكّـارِ

ذهبتْ قريشٌ بالمـــكارمِ والعلا   ***   واللؤمُ تحتَ عمــــائمِ الأنصـارِ

لقد قرن هذا الشاعر الكافر الأنصار الذين آووا رسول الله ونصروه وضحوا بأنفسهم من أجل الإسلام باليهود ووصفهم باللؤم والجبن بأمر يزيد !!

موقف النعمان

رغم أن المصادر التاريخية قد أظهرت موقف النعمان بأنه كان موقف المدافع عن الأنصار عندما دخل على معاوية ولكن هناك بعض الإشارات في القصة تشير إلى العكس فلم يكن يهمه مدح أو هجاء الأنصار أو حتى قتلهم وقد وقف أبوه ضدهم في السقيفة ووقف هو ضدهم في صفين.

عندما بلغ النعمان بن بشير هجاء الأخطل للأنصار، دخل على معاوية ونزع عمامته عن رأسه، وقال: أترى لؤماً ؟ فقال معاوية: بل أرى كرماً وخيراً. فما الذي جرى ؟ فقال له النعمان: زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار. فقال معاوية مستفهماً: أو فعل ذلك ؟ فأكد له النعمان ذلك وقال: نعم. فقال معاوية: لك لسانه.

وكتب معاوية فيه أن يُؤتي به إليه. فلما بلغ الأخطل طلب معاوية بإحضاره لاذ بيزيد، وسأل الرسول أن يدخله إلى يزيد أولاً، فأدخله عليه. فقال له: هذا الذي كنت أخاف. فطمأنه يزيد وقال له: لا تخف شيئاً. ودخل يزيد معه على معاوية فقال: علامَ أرسلت إلى هذا الرجل الذي يمدحنا، ويرمي من وراء جمرتنا ؟ فقال معاوية: إنه هجا الأنصار. لكن يزيد مارس الخداع والمكر وقال: ومن زعم ذلك ؟ فقال معاوية: النعمان بن بشير. فأراد يزيد تحقير النعمان ورد قوله وشكواه فقال: لا تقبل قوله عليه، وهو المدعى لنفسه، ولكن تدعوه بالبينة، فإن أثبت شيئاً أخذت به له. فدعاه معاوية بالبينة، فلم يأت بها فترك معاوية الأخطل يرجع من حيث أتى، وراح الأخطل يفخر بدفاع يزيد عنه ويشمت بالنعمان ويسخر منه ويهينه في شعره ويمدح يزيد فبلغ غضب النعمان مبلغه فدخل على معاوية وهو يقول:

معاويَ إلاّ تعطنا الـــــــحق تعترفْ   ***   لِحَي الأزد مــــــــــشــدوداً عليها العمائمُ 

أيشتمـــــــــنا عبـــــــدُ الأراقمِ ضَلّة   ***   وماذا الذي تجــــــــــــــدي عليكَ الأراقمُ 

فماليَ ثأر غيـــــرَ قــــــــطعِ لسانِهِ   ***   فدونكَ من يرضيهِ عــــــــــــــنكَ الدراهمُ

وَأَرْعِ رويــــــداً لا تَسُـــــــــمنا دَنِية   ***   لعلّكَ في غِــــــــــــــــــبِّ الحوادثِ نادمُ

متى تــــــلقَ منّا عــصبةً خــزرجيةً   ***   أو الأوسَ يوماً تختــــــــــرمكَ المخارمُ

وتلقاكَ خيلٌ كالقـطا مسبـــــــــــطِرّةٌ   ***   شــــــــــــــماطيطُ أرسالٍ عليها الشكائمُ 

يسوِّمِها العَمْرانِ عمرو بن عامـــــر   ***   وعِمرانُ حــــــــــــتى تُستباحُ الـمحارمُ 

ويبدو من الخَودِ الغريرةِ حِجــــــلـها   ***   وتبيضُّ من هــــــــولِ السيوفِ المَقادمُ 

فتطلبُ شَعْبَ الصدعِ بعد انفتــــــاقِهِ   ***   فتعيا به فالآنَ والأمــــــــــــــــــرُ سالمُ 

وإلا فبَزِّي لأْمـــــــــــــــــة تُبَعـــــِية   ***   مـــــــــــــواريـثُ آبائي وأبيضُ صارمُ 

وأجردُ خوّارُ العِنان كـــــــــــــــــأنّه   ***   بدُومــــةَ مــــــــــوشيّ الذراعينِ صائمُ 

وأسمرُ خَطِّيٌّ كأنّ كــــــــــــــــعوبه   ***   نوى القَــــسْـبِ فيــــــها لَهْذميّ ضُبارِمُ

فإن كنتَ لم تشهدْ ببدرٍ وقيــــــــــعةً   ***   أذلت قريـــــشاً والأنــــــــــوفُ رواغمُ 

فسائلْ بنا حَيَّيْ لؤيِّ بن غـــــــــالب   ***   وأنتَ بما تـخــــفي من الأمـــــــرِ عالمُ 

ألم تبتدركمْ يومَ بدرٍ سيوفُـــــــــــــنا   ***   ولـــــــــــــــــــيلكَ عما ناب قومَكَ نائمُ 

ضربناكُم حتى تـــــــفـرّقَ جمعـــكم   ***   وطارتْ أكـــــــــــــــــفُّ منكُمُ وجماجمُ 

وعاذتْ على البيتِ الحـرامِ عـوانِسٌ   ***   وأنتَ على خـــــــــــــــوفٍ عليكَ تمائمُ 

وعضَّت قريشٌ بالأنـــــــاملِ بِغضةً   ***   ومن قبلُ ما عُــضــــــتْ علينا الأباهمُ 

فــكنا لها في كلِّ أمرٍ تـكــــــــــــيدُه   ***   مكـــــــان الشَّجا والأمــــــــرُ فيه تفاقمُ 

فما إن رمى رامٍ فأوهى صَــــــفاتَنا   ***   ولا ضــــــامناً يوماً من الدهـــرِ ضائمُ 

(وإني لأغضي عن أمور كثــــيرةٍ)   ***   ستُرقَى بها يومــــــاً إليكَ الســــــــلالمُ 

أصـــانعُ فيها عبدَ شمسٍ وإنــــــني   ***   لتلكَ التي في النفـــــــسِ مني أكــــــاتمُ 

فلا تشتُمنّا يا ابـــــــــنَ حربٍ فإنما   ***   ترقَّي إلى تلك الأمـــــــورِ الأشـــــــائم 

(فما أنتَ والأمرَ الـــذي لستَ أهله   ***   ولكنْ وليَّ الحــقِّ والأمرِ هــــــــــاشمُ)

(إليهمْ يصيرُ الأمرُ بعد شتـــــــاتِهِ   ***   فمن لكَ بالأمــــــــــــــرِ الذي هو لازمُ)

(بهم شرَّع الله الهدى واهتــدى بهم   ***   ومنهمْ له هادٍ إمـــــــــــــــــــــامٌ وخاتم)

كم هو منافق ودنيء وذليل هذا النعمان ؟ إن كل حرف من هذه الأبيات يلعنه ويؤكد نفاقه وجبنه وخسته ومعدنه الوضيع,  فهو لم يكن ساكتا فقط على جرائم معاوية بل كان مشاركا إياه (وإني لأغضي عن أمور كثيرةٍ), وهو يعترف كذلك بحق أمير المؤمنين (ع) بالخلافة من معاوية ومن غيره:

(فما أنتَ والأمرَ الذي لستَ أهله   ***   ولكنْ وليَّ الحقِّ والأمرِ هـاشمُ) 

وإن معاوية كان على باطل في حربه له، وقد شاركه في باطله من أجل (الدراهم), التي كان يعطيها إيّاه فما أذله وما أشد نفاقه ؟

اعترف بالحق عندما أذله الباطل وعندما شعر بتفاهته وهو يرى الأخطل الكافر يهجو الأنصار ويهجوه ويشمت به ويسخر منه في شعره.

أحسّ بصِغّرهِ فتفاخر بالقوم الذين ينتسب إليهم ظلماً, وقد شذّ عنهم وعاداهم وحاربهم وسبّهم في صفين ونعتهم بالباطل !!

إنه يتبجّح بهم الآن ويتشدّق بانتسابه إليهم بل ويهدّد معاوية بصولاتهم وبطولاتهم عندما أذله يزيد وخذله معاوية, ولكنه في صفين كان ينعتهم بالضلالة وهو من أصاغرهم ولم تكن فيه خصلة واحدة مما كانوا عليه من الشجاعة والحمية والنجدة والحق, بل كان جباناً ذليلاً منافقاً.

فلما سمع معاوية بهذه الأبيات جهد على إرضاء النعمان وأسكته بالأموال (حتى رضي وكف عنه).

موقف النعمان من واقعة الحرة

إن هذه القصة لا تدل على أن النعمان كان يحب الأنصار بل توضح العكس فالنعمان كان يكره الأنصار وإن تشدّقه وتبجّحه بانتسابه إلى الأنصار لم يكن عن حب لهم ولا شعور بالانتماء الروحي والاجتماعي فلا يجمعه بالأنصار سوى الصفة التي فقدت معناها ومحتواها حينما صاحب معاوية ولازمه, وحينما هجا الأخطل الأنصار لم يكن اعتراض النعمان من أجلهم وانتصارا لهم، بل لأنه يعتبر نفسه منهم وعندما كشف عن رأسه وقال لمعاوية هل ترى من لؤم فهو بذلك قد جمع معنى الأنصار في نفسه, وهو الوحيد منهم مع صاحبه ــ مسلمة بن مخلد ــ من تجسّد فيهما هذا اللؤم, ولم يمتلك النعمان الشجاعة الكافية لكي يواجه يزيد ويقابله بالهجاء, بل إن السخرية في الموضوع أنه يشكوه إلى أبيه معاوية وهذا من سلوك العاجز الذليل فهو يشكو من الخصم إلى الخصم ! ونستطيع القول إنه كان يكره الأنصار لوقوفهم مع أمير المؤمنين ويدل على ذلك سكوته وربما فرحه في واقعة الحرة التي أباح بها يزيد أرواح وأعراض الأنصار لجيش الشام ثلاثة أيام جرى فيها من الفجائع والفظائع ما يشيب منها الولدان ولكن النعمان لم تبدر منه أية بادرة بل لم يعترض كما اعترض وغضب عندما هجاء الأخطل الأنصار, بل إنه اشتاق للطرب والغناء فقال وهو في المدينة: والله لقد أخفقت أذناي من الغناء فأسمعوني فأشاروا عليه بعزة الميلاء المغنية فاستدعاها وغنت له مع القيان والجواري وله أكثر من قصة في ذلك (6)

الطمع بالخلافة

كان النعمان يمد عنقه للخلافة ويطمع بها بعد معاوية وكان معاوية يعرف منه ذلك ولكنه لن يعدل ألف نعمان بيزيد فهو يريد تنصيب يزيد لا غيره ولا يريد أن يخسر من له أدنى صفة بالصحبة وخاصة من الأنصار الذين كانوا كلهم مع أمير المؤمنين سوى النعمان ومسلمة بن مخلد, وهو لا يريد أن يفقد هذا الثقل الزائف ــ صحبة النعمان ومسلمة ــ ولا أن يغضبها فهما ورقتاه الوحيدتان من الأنصار والتي يتبجح بهما رغم أن هذين المنافقين قد خرجا من مفهوم الصحبة المقدّس بمجرد انحرافهما عن أمير المؤمنين ولزومهما معاوية رأس الكفر والنفاق, وكان معاوية يعرف إن النفور قد استحال إلى كره وحقد بين النعمان وابنه يزيد منذ حادثة الأخطل, فأراد أن يبعد النعمان عن الشام ولو إلى أن يستقيم الأمر ليزيد فولاه على الكوفة فلما مات معاوية وتقلد يزيد الخلافة لم يعد النعمان يفكر بأمر الكوفة بقدر تفكيره بأمر الشام.

تفسير سلوك النعمان مع مسلم بن عقيل

إن هذه الحوادث تفسر تغافل النعمان عن حركة سفير الحسين مسلم بن عقيل (عليهما السلام) وتجاهله لها لما قدم (ع) إلى الكوفة حيث لم يعارضها أو يعاديها وفي نفس الوقت لم يؤيدها ولم يكن ذلك بسبب تسامحه وتساهله تجاه قيادات الحركة أو تعاطفاً معهم وهو من عرف بعدائه لعلي وآل علي بل لنفوره وكرهه ليزيد الذي أشرنا إليه بسبب الأخطل, ثم أن النعمان لم يكن واثقاً من نتائج الثورة وكذلك من الأحداث السياسية المتأزمة منذ تولى يزيد الخلافة، وقد أصبحت حركة مسلم في الكوفة قوية وهو لا يستطيع مجابهتها بعد أن انضم كبار زعماء القبائل إليها فآثر السكوت وترقب الأحداث وما سيأتي به الغد ... 

إذن فلم يكن النعمان بلين الجانب ولا المتسامح وخاصة مع الشيعة الذين يكن لهم حقداً أعمى توارثه من أبيه ونمّاه معاوية بأمواله وقد كان له موقف أوضح فيه مدى كرهه لأهل الكوفة وهو أن معاوية أمر لأهل الكوفة بزيادة عشرة دنانير في أعطياتهم، وأرسل إلى النعمان بذلك ولكن النعمان أبى أن يصرفها لهم لبغضه إياهم بسبب نصرتهم لعلي, ورغم أنهم كلموه وسألوه بالله أن يعطيها إياهم ولكنه أبى أن يفعل فقال عبد الله بن همام السلولي:

زيادتنا نعمان لا تحـبـســـــــــنّـهـا   ***   خِفِ اللهَ فـينا والكــتابَ الذي تتلـو

فإنكَ قد حمِّـلـتَ مـنـا أمـــــــــــانة   ***   بما عجزتْ عنه الصلاخمةُ البزلُ

فلا يكُ بابُ الشرِّ تحسنُ فتـحـــــه   ***   وباب الندى والــــخيرات له قـفـل

وقد نلتُ سلطاناً عظيماً فلا يكـــن   ***   لغيركَ جمّــات الـندى ولكَ البخـل

وقبلكَ قد كانـوا عـلـينـا أئــــــــمة   ***   يهمهم تقويــــــــمنـا وهـمُ عـصـلُ

إذا نصبوا للقول قــالوا فأحسـنـوا   ***   ولكنّ حـسنَ القــــولِ خالفه الفعـلُ

يذمّون دنيــاهم وهم يرضعونـهـا   ***   أفاويــــــقَ حـتى ما يدرُّ لهم ثـعـلُ

فيا معشر الأنصار إني أخــوكـم   ***   وإني لمــــــــعروفٍ أنا منكـم أهـل

ومن أجل إيواءِ النبيِّ ونـــصـره   ***   يحبّـكم قلبي وغـــــــيركـم الأصـلُ

ولكن ظن ابن همام خاب بهذا اللئيم, فقد حسب أن له أخلاق الأنصار وكرمهم ولم يكن يظن أنه قد انسلخ من آدميته وأصبح مسخاً زنيماً, فرد عليه النعمان: لا عليه ألا يتقرّب، فواالله لا أجيزها ولا أنفذها أبداً.

عين على الشام

لقد كان النعمان يمدّ بطرفه إلى الشام ويترقب مصير معاوية ويتخيّل نفسه في أي موضع سيكون وما سيؤول إليه مصيره عندما يتولى يزيد الخلافة, ولم يكن تجاهله عن لين وعاطفة بقدر ما كان هدنة وترقباً للأحداث وما سيؤول إليه مصير الأمة, وهو بذلك أوجد له مكاناً في حال نجاح حركة مسلم وانقلاب الكوفة عليه فإنه سيلوذ بصهره المختار أحد رؤوس حركة مسلم بن عقيل (ع) وأحد وجوه الشيعة الكبار, أو لعله سيجد فيه معيناً فقد كانت رغبته وأطماعه لنيل الخلافة تزداد يوماً بعد يوم وقد ذكر كل من تحدث عن سيرته من المؤرخين ــ قديماً وحديثاً ــ عن حرصه وسعيه للوصول إلى الخلافة بشتى الوسائل, وكان معاوية ــ وهو الداهية الماكر ــ يعلم ما في نفس النعمان من طمع وهذا من أهم الأسباب التي دفعته إلى إبعاده عن الشام عندما أحس بدنو أجله, وقد مات النعمان وهو يسعى للحصول على كرسي الحكم.

ثم هل تنطلي هذه اللعبة على الكوفيين وهم يعرفون النعمان جيداً منذ أن حمل معه أصابع نائلة بنت الفرافصة المبتورة وقميص زوجها عثمان إلى الشام ليوقد الفتنة ويحرّض أهل الشام على قتال أمير المؤمنين, فهم كانوا يعرفون كل ذلك وإن سكوت النعمان كان كالجمرة تحت الرماد فهي تنتظر الريح التي تشبها, وهو لن يتوانى إذا سنحت فرصة يجد فيها موطأ قدم له من القيام بحركة مناوئة لهم تقضي عليهم.

كما كان سلوكه مع حركة مسلم مثار استنكار الأمويين وأتباعهم في الكوفة حيث طالبوه باتخاذ موقف يوضح فيه موقفه من الأحداث ويعلن فيه ولاءه ليزيد ولما ألحوا عليه قال: (ما كنت لأهتك ستراً ستره الله) !! إنه بدلاً من أن يوضح موقفه حول الأحداث بولائه ليزيد فقد قال هذا الكلام المبهم الذي لا يؤيد أحد الفريقين, إذ تأكد كل من سمع كلامه أنه ينوي الخروج عن طاعة يزيد وإن وراءه أمر ما ؟ وهل هذا الأمر غير الخلافة ؟ ولكي يظهر للناس إنه لا زال أميراً ذا نفوذ على الناس ــ رغم خروجه عن طاعة يزيد ــ ويمتلك السلطة الفعلية على أرض الواقع في الكوفة كان لزاماً عليه أن يمارس دوره كحاكم ويخطب بالناس فصعد المنبر وقال:

(اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال، إنني لم أقاتل من لم يقاتلني ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم فو الله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن منكم ناصر، أما أني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل)

ولكن هذا الخطاب لم يكن ليُرضي أتباع الأمويين الذين استضعفوه وشكوا في ولائه فهو لم يتطرّق بل لم يشر ولو إشارة إلى أعظم حدث يجري في الكوفة يهدد السلطة الأموية وهو حركة مسلم بن عقيل مما يؤكد خروجه عن طاعة يزيد والعمل على طلب الخلافة لنفسه فقوله: (ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم) يعني نفسه لا غير! لقد أعلن نفسه خليفة مستغلاً انشقاق الكوفة عن الدولة الأموية بدخول مسلم بن عقيل, فكتب بعض أعوان الأمويين إلى يزيد يحثونه على تبديل النعمان برجل (قوي) !! وقوي وفق مفهوم الأمويين هو أن يكون مجرماً سفاحاً يقتل على التهمة والظنة ويسوم الناس سوء العذاب يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم, ومن ضمن الذين كتبوا إلى يزيد عمارة بن عقبة بن أبي معيط أخو الوليد الفاسق بنص القرآن وعمر بن سعد بن أبي وقاص.

النعمان وابن زياد

لم يعبأ النعمان كثيراً بما يجري في الكوفة فقد كان يوجّه نظره بعيداً إلى ما هو أكبر وأعظم من منبر الوالي وحكم الكوفة أو غيرها من الأمصار, وبقي يترقب اليوم الذي سيجلس فيه على كرسي الخلافة, فالكوفة لم تعد تهمّه والهدف الذي طالما سعى إلى تحقيقه هو في الشام, وفجأة يطرق سمعه خبر هدّ كيانه ونزل عليه كالصاعقة !! أحس أن آماله تبددت وإن حكم الكوفة الذي استصغره سيخرج من يديه !!

لقد ساءه ما سمع, ورأى الناس علامات الإستياء واضحة على ملامحه, حينما أخبروه أن الحسين دخل الكوفة !! وما إن أفاق من وجومه حتى أمر بإغلاق أبواب قصر الإمارة, لم يكن يحسب لهذا الأمر حساباً, فهو الوالي ويجب أن تكون كلمته هي العليا أما بوجود الحسين فلا كلمة له بل لا وجود ...

ويسمع قرع باب القصر وفي باله إن القادم هو الحسين فيكلمه من وراء الباب: (أنشدك الله إلا تنحّيت عني, ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من أرب), لقد مثل هنا دور الوالي الحريص والموالي الأمين ليزيد عندما سمع باسم الحسين فذابت أحقاده وكرهه ليزيد ليحل محلها كرهه للحسين ! ولكن الطارق زاد من قرعه الباب بشدّة وطلب منه بصوت منخفض أن يدنو ويصغي لئلا يسمعه أحد وما إن دنا حتى قال له: (إفتح لا فتحت، فقد طال ليلك) !! لقد اتّضح الأمر فالطارق لم يكن الحسين, بل كان عبيد الله بن زياد وقد أتى ليحل محله, ففتح الباب وسلّم القصر الذي رفض تسليمه حينما ظنّ أن القادم هو الحسين وها هو يسلمه لابن زياد ولينتهي دوره في الكوفة ويخرج منها إلى غير رجعة.

مقتله

كانت نهاية هذا المنافق على يد الأمويين أنفسهم بعد أن أفنى حياته عبداً طائعاً لهم وباع دينه وضميره لمعاوية وها هم يتنكرون لكل ما فعله من أجلهم ويقتلوه, كان النعمان والياً على حمص عند موت يزيد, فاشرأبت عنقه للخلافة, ولكن ابن الزبير كان قد استفحل أمره وطمع أن يتولّى الشام, فلما بويع لمروان في الشام، دعا النعمان إلى ابن الزبير، وخالف على مروان، وذلك بعد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط, فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك. وأرادوا قتله فهرب منهم، وتبعه رجل منهم يدعى خالد بن خلي الكلاعي فأدركه في قرية اسمها بيرين فقتله وذلك سنة خمسة وستين للهجرة.

محمد طاهر الصفار

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

...................................................................................

1 ــ شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 2 ص 304

2 ــ بحار الأنوار , المجلسي ج ٣٩ ص ٢٨٧

3 ــ طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي جزء 2 ص 463

4 ــ الطبقات الكبرى ابن سعد ج 3 ص 532

5 ــ ثمرات الأوراق / ابن حجة الحموي ص 70

6 ــ الأغاني / أبو الفرج الأصفهاني ج 3 ص 558 / ج 16 ص 23 / 24 

gate.attachment

: محمد طاهر الصفار