أبو طالب بن عبد المطلب .. سور الإسلام المنيع

يا شاهدَ الخلقِ عليَّ فاشهدِ   ***   إني عـــــــــلى دينِ النبيِّ محمدِ

************************************

ألا أن خيرَ النـاسِ أمّاً ووالداً   ***   إذا عُدَّ ســــاداتُ البريةِ أحمدُ

نبيُّ إلهي والــــــكريمُ بأصلهِ   ***   وأخلاقِه وهــو الرشيدُ المؤيّدُ

حزيمٌ على جلّى الأمورِ كأنهُ   ***   شهابٌ بكفّي قـــــــابسٍ يتوقّدُ

*************************************

ألا أبلغا عني على ذاتِ بينها   ***   لؤياً وخُصّا من لــــــؤيّ بني كعبِ

ألمْ تعلموا إنّا وجـــدنا محمداً   ***   رسولاً كموسى خُطّ في أولِ الكُتبِ

وأن عليه في العبادِ مــــحبّةٌ   ***   ولا حيفَ فيمن خصّــــه اللهُ بالحبِّ

***************************************

وإن كان أحمدُ قد جاءهم   ***   بحقٍ ولم يأتهم بالكَذِبْ

بِمَ يستدل المؤرخ أو المحقق على إيمان شخص بالله وبرسوله وبالإسلام أكثر قوة من هذه الأشعار ؟ وهل يستطيع أحد (جهابذة) المُقتاتين على الموائد الأموية و(عباقرة) المتزلفين للنواصب والوهابية من وعاظ السلاطين وفقهاء الطواغيت أن يثبت لنا فيها وفي غيرها من ديوان أبي طالب وجهاً للتأويل يتعارض مع المعنى الواضح كوضوح الشمس في مضمونها لا تدركه عقولنا ؟ إذن فليأتِ به لكي يستدل على صحة الحديث الذي وضعه أبو هريرة لمعاوية بأن: (أبا طالب في ضحضاح من نار)؟!! وإلا فليضرب به عرض الحائط.

وهل تحتاج هذه الأشعار إلى تأويل ؟ أم هل يراود أي شخص مهما كانت ثقافته أدنى شك في عميق إيمان قائلها بما جاء به الرسول محمد ؟ فلو كانت هذه الأبيات نصاً مترجماً لما فقدت معناها فكيف وهي بلسان عربي مبين.

حاولت أن استقرأ ديوان أبي طالب قراءة تاريخية بعيداً عن أقاويل المرتزقة والمأجورين الذين باعوا دينهم وضمائرهم لبني أمية ودسّوا الأحاديث الموضوعة للنيل من هذه الشخصية العظيمة التي كان لها دور كبير وعظيم في الدفاع عن الإسلام ونبيه الكريم, ولكنني وجدت أنه لا بد أن لي بل لكل من يتناول شخصية أو حدثا في تاريخنا الإسلامي في بحث أو دراسة أن ينقّي صفحات البحث أو الدراسة من الفيروسات الأموية والشوائب والطفيليات الوهابية التي تحاول تشويه وتزييف الحقائق التاريخية وأن يكشف بالدلائل والبراهين العقلية والنقلية والمنطقية جريمتهم في وضع تلك الأحاديث المسمومة التي شوّهت صفحات التاريخ الإسلامي.

ولنا أن نسأل ماذا لو كان أحد (سلفهم) قد قال هذه الديوان أو بعضه ؟ بالتأكيد سترى الدراسات والبحوث تُكتب وتُجرى الحوارات والنقاشات عبر الفضائيات حول هذا الموضوع ويستضاف فيها فطاحل اللغويين والباحثين للحديث عن فضائل ذلك (السلف) الذي سيرتقي إلى مصاف الملائكة والأنبياء ولكن ....

إنهم يحاولون بشتى الوسائل تهميش وطمس التاريخ العظيم لشخصيات إسلامية عظيمة كشخصية أبي طالب وتزويق الماضي الوحشي والمخزي لـ (سلفهم) وخلق التبريرات غير المنطقية واعتماد الروايات الموضوعة لتنزيههم عما ارتكبوه من جرائم بحق الإسلام والمسلمين حتى جعلوا ألد أعداء الإسلام من أمثال أبي سفيان ومعاوية ومن لف لفهم من (الصحابة الأجلاء) !!!! ولو وجدوا لهؤلاء بيتاً واحداً مثل أبيات أبي طالب في نصرته للرسول لجعلوه أول المسلمين وبطل الإسلام بلا منازع ولكنهم كما قال الشاعر:

وعينُ الرضا عن كل سوءٍ كليلةٌ   ***   ولكن عينَ السوءِ تُبدي المسَاويا

ورغم كل تلك المحاولات فإنهم لم ولن يستطيعوا إخفاء الشمس فنور شيخ البطحاء وسيدها هو من نور الإسلام الذي عم وانتشر رغم أنوف الكافرين (ويأبى الله إلا ان يتم نوره ولو كره الكافرون) وكما قال المتنبي:

وإذا استطالَ الشيءُ قامَ بنفسهِ   ***   وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا

أجل أن من ينكر أيمان أبي طالب كمن ينكر ضوء الشمس: ( فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا).

فأي قول أروع من قول أبي طالب في توحيد الله وتنزيهه عن الشرك:

مليكُ الناسِ ليـس له شريكٌ   ***   هو الوهّابُ والمبدي المعيدُ

ومن تحتَ السـماءِ له بحقٍ   ***   ومن فوقَ السمـــاءِ له عبيدُ

وهل يقول مثل هذا القول من لم يؤمن بالله ؟!!!!

أم هل يحذّرُ من يشرك بالله قومه من مغبة كفرهم وينذرهم بنزول العذاب من الله كما نزل على الأمم السابقة التي كذبت الأنبياء ويروي لهم أخبارها قبل نزولها في القرآن كما في قوله:

أفيقوا بني غـــالبٍ وانتهوا   ***   عن البغي في بعضِ ذا المنطقِ

وإلّا فــــــــــإني إذاً خائفٌ   ***   بوائقَ فـــــــــــــي داركم تلتقي

تكونُ لغيـــــــــــركم عبرةً   ***   وربِّ المغــــــــاربِ والمشرقِ

أما نال من كان من قـبلكم   ***   ثمــــــــــــودٌ وعادٌ فمن ذا بقي

فحلَّ عليـــهم بها سخطه   ***   من الله فـــــــــي ضربةِ الأزرقِ

غداةَ أتتهم بها صرصـرٌ   ***   ونــــــــاقة ذي العرش إذ تستقي

غداة يعضُّ بعرقــــوبها   ***   حســـــــــــاماً من الهندِ ذا رونقِ

أم هل يكذب برسالة النبي (ص) من يقول فيه:

لقد أكرمَ اللهُ النبيّ محمداً   ***   فأكرم خلقِ اللهِ في الناسِ أحمدُ

وشقَّ له من إسمه ليجلّه   ***   فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ

أم كيف يجحد برسالته وهو يفضله على أولاده:

إن الأميــــــنَ محمدٌ في قومهِ   ***   عندي يفوقُ منـازلَ الأولادِ

لما تعلّقَ بالزمـــــــامِ ضممتُه   ***   والعيسُ قد عُـــلّقنَ بالأزوادِ

فارفضَّ من عينيَّ دمعٌ ذارفٌ   ***   مثلَ الجُمــــــانِ مفرّقٌ ببدادِ

راعيتُ فيه قــــرابةً موصولةً   ***   وحفظتُ فيه وصيةَ الأجدادِ

وهل يُعقل أن يرفض إنسان عاقل دعوة النبوة وهو يرى الدلائل الباهرة عليها كما في قوله:

ظهرت دلائــــــــلُ نورهِ فتزلزلت   ***   منها البسيـــــطةُ وازدهت أيامُ

وهوت عروشُ الكفرِ عند ظهورهِ   ***   وبسيــــــــــــفهِ سيشيّدُ الاسلامُ

وأتاهم أمر عظيــــــــــــــــمٌ فادحٌ   ***   وتساقطـــت من حولهِ الاصنامُ

صلى عليكَ الله خــــــلّاق الورى   ***   ما أعقب الصبحُ المضيءُ ظلامُ

وكان أبو طالب شاهداً على آية رسول الله الباهرة في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش وقاطعت فيها بني هاشم فأكلتها الأرضة وفيها يقول:

وقد كان من أمر الصحيفةِ عبرةُ   ***   متى ما يخبر غــــائب القوم يعجبِ

محا الله منــــها كفرهم وعقوقهم   ***   وما نطقوا مــن ناطقِ الحقِ معربِ

فأصبحَ ما قالوه في الأمرِ باطلاً   ***   ومن يختلق ما ليس في الحقِ يكذبِ

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً   ***   على سخــــــطٍ من قومنا غير متعبِ

فلولا مواقف أبي طالب في حماية النبي (ص) والمسلمين لما قامت للإسلام قائمة وإن فضله على كل مسلم ومسلمة لذلك قال ابن أبي الحديد:

ولم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت:

فلولا أبو طـــالبٍ وابـنه   ***   لما مثُلَ الدينُ شخصاً فقــــــــاما

فهذا بمكةَ آوى وحــامى   ***   وهذا بيثربَ شامَ الحــــــــــساما

تكفّل عبدُ منــــــــافٍ بأمـــــــــــــــرٍ وأودى وكان عليٌ تمـــــــاما

فللهِ ذا فــــــــاتـحاً للهدى   ***   وللهِ ذا للمعـــــــــــــــالي ختاما

وما ضرّ مجدَ أبي طالبٍ   ***   جهولٌ لغى أو بصيـــــرٌ تعامى

كما لا يضرُّ إيـابَ الصبـــــــــــــــاحِ من ظنَّ ضوءَ النهارِ ظلاما

سور الإسلام

سور الإسلام المتين وحصن الرسول المنيع, وقاهما بنفسه وولده وكل ما يملك من كيد الكافرين وخطر المشركين, كفل محمداً (ص) صغيراً وآمن به ونصره على مشركي قريش وكان وصي أبيه سيد مكة عبد المطلب في كفالة النبي حيث عهد إليه تربيته ورعايته بقوله:

أوصيكَ يا عبد منـاف بعدي   ***   بواحدٍ بعـد أبيــــــهِ فردِ

فارقه وهو ضجـيــــعُ المهدِ   ***   فكنتُ كالأمِ له في الوجدِ

فقام أبو طالب بمهمته على أكمل وأحسن وجه ولم يترك نصرة الرسول حتى فارق الحياة, (وكان من شدة حرصه على النبي (ص) يُضجع ابنه علياً مكانه وقاية له بولده وخوفاً عليه فقال له علي (ع) يوماً: يا أبه إني لمقتول ؟ فقال له أبو طالب:

اصبرن يا بني فالصبرُ أحجى   ***   كل حيٍّ مصـيـــرُه لشعوبِ

قد بذلنـــــــــــاكَ والبلاءُ شديدٌ   ***   لفداءِ الحبـيبِ وابن الحبيبِ

لفداءِ الأغـــــرِّ ذي الحسبِ الثــــــــــــــاقبِ والباعِ والكريمِ النجيبِ

إن تصبكَ المنونُ فالنبلُ تترى   ***   فمصيبٌ منها وغيرُ مصيبِ

كل حيٍّ وإن تملّــــــــى بعمرٍ   ***   آخذ من مذاقِــــــــها بنصيبِ (1)

وكان ذلك السؤال من علي (ع) هو لأجل أن يؤكد لأبيه إنه على نهجه في نصرة الرسول والذود عنه والتضحية دونه كما جاء في جوابه لأبيه بقوله: 

أتأمرني بالصبــرِ في نصرِ أحمدٍ   ***   وواللهِ مـا قلتُ الذي قلتُ جازعا

ولكنني أحببـــــتُ أن ترَ نصرتي   ***   وأعـــــــلمُ أني لم أزل لكَ طائعا

سأسعى لوجـهِ اللهِ في نصرِ أحمدٍ   ***   نبيَّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا

الشيخ

اجتمعت في أبي طالب من الخصال النادرة والفضائل العظيمة ما لم تجتمع في رجل في كل قريش والعرب, فقد كان شخصية فذّة يتمتع بصفات نبيلة تزعّم بها قريش وسادها, فكان عالماً حكيماً سديد الرأي كريم الصفات عظيم المفاخر جميل المأثر شجاعاً يهرع إليه الملهوفون في المحن والشدائد.

ويدلنا قول أخيه العباس بن عبد المطلب على مكانته العظيمة في قريش حينما قال:  

ننتظر رأي الشيخ أبي طالب فنحن في ترقب ومتى أستظهرنا رأيه تابعناه، وما كان لأي منا أن يتخلّف أبداً.

وكانت قريش تلقبه بـ (الشيخ) لعلو مقامه وسمو منزلته عندها, وشجاعته التي لم يدانيه أحد بها كما يدلنا على ذلك قول رسول الله (ص): رحم الله عمي أبا طالب فلو ولد الناس كلهم لولدوا شجعانا.

ناصر أبو طالب الدعوة المحمدية الشريفة وآزرها وذب عنها ولم يصل إلى النبي (ص) مكروه حتى مات أبو طالب فنزل جبرائيل على النبي (ص) وقال له: (أخرج من مكة فقد مات ناصرك) (2)

فكان أبو طالب طوال حياته المجاهد بيده ولسانه في سبيل الله ولم تقتصر نصرته للرسول بردع مشركي قريش عن إلحاق الأذى بالنبي والمسلمين, بل ناصر الدعوة بيده ولسانه وشعره الذي يدلنا على مدى إيمانه العميق بالإسلام وبما جاء به النبي محمد (ص) من ربه.

وكان (رض) يتوسّم في ابن اخيه (ص) النبوة قبل أن يُبعث, (فإن في شعره هذا دليل على أنه كان يعرف بنبوة النبي (ص) قبل أن يبعث لما شاهده من أحواله...ومعرفة أبي طالب بنبوته (ص) جاءت في كثير من الأخبار زيادة على شعره). (3)

وعندما شاءت إرادة الله ان يجهر رسول الله بنبوته ويعلن عن بعثته ورسالته ولا سيما بعد نزول الآية الكريمة (وأنذر عشيرتك الاقربين) لم ير رسول الله بداً من أن يفاتح عمه أبا طالب في الأمر ويطلعه على ما هو مقدم عليه, فهو موضع ثقته ومحط أسراره وهو أجل إنسان يمكن أن يعتمد (ص) عليه لما يراه من رأيه السديد.

موقف أبي طالب من الدعوة الشريفة

عندما عرض النبي (ص) أمر الدعوة على أبي طالب قال: بأبي أنت وأمي يا ابن أخي، مُر تُطع واحكم أنفذ انشاء الله.

ثم طلب (ص) منه إحضار أربعين رجلاً من بني هاشم وعرض عليهم الإيمان بنبوته (ص) ولما رأى أبو طالب أنه لم يستجب لدعوة النبي من الحاضرين غيره وغير ابنه علي (ع) ورأى إحجام القوم ووجوههم قال:

يا محمد ما أحب إلينا معاونتك وأقبالنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وأنا واحد منهم فلا أزال أمنعك وأحوطك فأمض لما أمرت به. ثم قال:

والله لن يصـــــــــلوا إليكَ بجمعهم   ***   حتى أوسّـدَ في الترابِ دفينا

فاصدعْ بأمركَ ما عليكَ غضاضةٌ   ***   وابشر بذاكَ وقرَّ منكَ عيونا

ودعوتني وزعمـــتَ إنكَ ناصحي   ***   ولقد صــدقتَ وكنتَ ثمَّ أمينا

وعرضتَ ديناً قد عــــــــلمتُ بأنه   ***   من خيرِ أديـــــانِ البريةِ دينا

ولم تقتصر نصرة أبي طالب للنبي على نفسه بل أنه كان يوصي ولده علي (ع) باتباع النبي ومؤازرته فمن ذلك قوله:

أن الوثيقةَ في لزومِ محمدٍ   ***   فاشدُد بصحبتهِ عليُّ يديكا

أجل إنها الحقيقة التي يحملها هذا المؤمن المجاهد الذي فدى الرسول بنفسه وولده وآثر مضايقة قريش له ولقومه وحصارهم في الشعب وتحمّل الجوع والعطش على تسليم النبي (ص) والتخلي عنه.

وبعد أن أعلن رسول الله (ص) دعوته بدأت قريش بنصب العداوة له وصار أبو طالب يخاف عليه منهم, وذات يوم يفتقد أبو طالب محمداً فيضطرب لذلك ويأمر فتيان بني هاشم بالتسلح والخروج إلى نادي قريش فيقف كل واحد منهم على رأس رئيس وزعيم من العرب وقريش حتى يعود إليهم النبي (ص) فأن جاءهم محمد فذاك وألا عمدوا إلى الزعماء فقتلوهم عن آخرهم فيأتي رسول الله (ص) فيأخذ أبو طالب بيده ويشرف على الحضور ثم يأمر فتيانه أن يخرجوا ما أخفوه من السيوف ليرهبوا عدو الله وعدو رسوله ثم أنشأ يقول:

ألا أبلغْ قريــــــشاً حيثُ حلّت   ***   وكل سرائرٍ منـــــها غرورُ

فإني والضـــوابـــــحُ عادياتٍ   ***   وما تتلو السفــاسرةُ الشهورُ

فلستُ بقـــاطعٍ رحمي وولدي   ***   ولو جرّتْ مظالمُها الجرورُ

أنا لمحـــمدٍ راعٍ حفيــــــــــظٍ   ***   وود الصدرِ مني والضمــيرُ

أيامرُ جمـــعهم أفنــــــاءُ فهرٍ   ***   لقتلِ محـــــــمدٍ والأمرُ زورُ

فلا وأبيـــكَ لا ظفرتْ قـريشٌ   ***   ولا لقيتْ رشــــــاداً إذ تُشيرُ

بنيَّ أخـــي ونوطُ القلبِ مـني   ***   وأبيضُ ماؤه غَـــــــدِقٌ كثيرُ

ويشـــربُ بعده الولدانُ ريّـــاً   ***   وأحمدُ قد تضـــــــمّنه القبورُ

أيا ابنَ الأنفِ أنف بني قصي   ***   كأنَ جبينكَ القمــــــــرُ المنيرُ

ويخرج من بينهم مرفوع الرأس.

الغضبة الهاشمية

في شدة أيام الحصار حيث ألمت بالمسلمين الآلام والأحزان وطغى عليهم الضعف من شدة الجوع خرج أبو طالب متقلداً سيفه مُستأسداً مُغضباً وحفّ به بعض أشباله من بني عبد المطلب ودخل البيت الحرام وقد هال الناس استبساله فصاح بهم:

ترجّـــــــونَ منّـــا خطةً دون نيلِها   ***   ضرابٌ وطعــــــنٌ بالوشيجِ المقوّمِ

ترجّــــونَ أن نـــسخي بقتلِ محمدٍ   ***   ولم تختضب سمرُ العوالي من الدمِ

كذبتم وبـيــــــــتَ اللهِ حتى تعرفوا   ***   جماجم تُلقى بالحـــــــــطيمِ وزمزمِ

وتقطعُ أرحــــــــــامٌ وتَنسى خليلةٌ   ***   خليلاً ويَفشى محرمٌ بعـــــــد محرمِ

وظلمُ نبيِّ جــــاء يدعو إلى الهدى   ***   وأمرٌ أتى من عند ذي العـــرشِ قيّمِ

هم الأسْدُ أســدُ الـزارتين إذا غدت   ***   على حنــــــــقٍ لم يخش إعلام معلمِ

فيا لبني فـــــــــــهرٍ أفيقوا ولم نقم   ***   نوائحَ قتـــــــــــــــــلى تدّعي بالتندمِ

على ما مضى من بغيكم وعقوقكم   ***   وغشيـــــــــــانكم من أمرنا كل مأثمِ

فلا تحسبــــــــــــونا مسلميه ومثله   ***   إذا كان في قـــــــــــومٍ فليسَ بمسْلَمِ

فهذي معاذيرٌ وتقــــــــــــــدمةٌ لكم   ***   لكي لا تكون الحــــــربُ قبل التقدّمِ

ثم دخل الكعبة وتعلّق بها فدعا الله عز وجل وسأله النصر والتأييد للإسلام ونبيه ثم قال مخاطباً قريش:

وما ذنبُ مـــن يدعو إلى اللهِ وحده   ***   ودينٍ قويمٍ أهلُه غيـــــــــــر خيّبِ

وقد جرّبوا فيما مضى غبَّ أمرِهم   ***   وما عالمٌ أمراً كـــــــمن لم يجرّبِ

فلا تحسبـــــــــونا مسلمين محمداً   ***   لذي غربةٍ منّـــــــــــا ومن متقرّبِ

ستمنعه منّا يدٌ هـــــــــــــــــاشميةٌ   ***   فمركبُها في الناسِ من خيرِ مركبِ

دعوة القربى

وكان أبو طالب لا ينفك يدعو أقرباءه إلى الإيمان بالنبي (ص) ومؤازرته في دعوته فكان له دور كبير في إسلام أخيه الحمزة الذي كان يخضع لزعامة أخيه الكبير وقد أجابه حينما طلب منه ذلك وكانت دعوة أبي طالب مضاعفة بقالب الشعر:

فصبراً أبـــا يَعلى على دينِ أحمدٍ   ***   وأن مُظهراً للدينِ وفِّقـتَ صابرا

وحطَّ من أتى بالحقِ من عند ربهِ   ***   بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمزُ كافرا

فقد سرّني إذ قلـــــتَ: إنكَ مؤمنٌ   ***   فكنْ لرســــولِ اللهِ في اللهِ ناصرا

ونادِ قريـــــــشاً بالــــذي قد أتيته   ***   جهاراً وقلْ: ما كانَ أحمدُ ساحرا

ويوصيه ويحثه على نصرة محمد:

إعلم أبا أروى بأنـــــــكَ ماجدٌ   ***   من صلبِ شيبةَ فــانصرنَ محمدا

لله درّكَ إن عـــــــرفتَ مكانه   ***   في قومهِ ووهـبـــــتَ منكَ له اليدا

كما يوصي طالباً ابنه في نصرة الرسول:

أبنيَّ طــالبُ إن شيــــخَكَ ناصحٌ   ***   فيما يقــــــــــولُ مسددٌّ لكَ راتقُ

فاضربْ بسيـفِكَ من أرادَ مساءَة   ***   حتى تكــــــــــونَ له المنية ذائقُ

هذا رجـــــــــائي فيكَ بعد منيتي   ***   لا زلتُ فيـــــــكَ بكلِ رُشدٍ واثقُ

فاعضدْ قـــــــواهُ يا بنيَّ وكُن له   ***   أنّى يجـــــــــــدكَ لا محالةَ لاحقُ

كهلاً أرددُّ حــســــــــــرةً لفراقهِ   ***   إذ لا أراهُ وقد تطــــــــاولَ باسقُ

أترى أراهُ والـــــــــــلواءُ أمامَه   ***   وعليٌّ ابنــــــــــــــي للواءِ معانقُ

أتراهُ يشفـعُ لـي ويـرحمُ عبرتي   ***   هيهاتَ إني لا مـحــــــــالةَ زاهقُ

وكما فرح بإسلام الحمزة فأنه يشجع ولديه علياً وجعفراً على نصرة النبي (ص) ومعاضدته والذب عنه:

إن عليـــــــــــاً وجعفراً ثقتي   ***   عند احتدامِ الأمورِ والكربِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما   ***   أخـي لأمي مــن بينهم وأبي

والله لا أخـــــــذلُ النبي ولا   ***   يخذله من بنــــــيّ ذو حسبِ

فكان له من الولدين البارين ما يبهجه ويسرّه فكان علي فتى الإسلام وبطله ووصي رسوله, كما كان جعفر من أبطال الإسلام هاجر في الله إلى الحبشة مع المسلمين وهم بقيادته, ودافع عن النبي باللسان واليد حتى استشهد في معركة مؤتة.

مع أبي لهب

وكان أبو طالب يأمل حتى من أخيه أبي لهب أن ينحاز إلى جهة النبي (ص) وقافلته الخيرة فوجه إليه رسالة أكثر فيها الإرشاد والنصح وختمها بهذه الأبيات:

وإن امرأ أبو عتيبــــــــــــــــــة عــمُّه   ***   لفي روضةٍ ما إن يسامَ المظــــــــالما

فلا تقبلنّ الدهر ما عشت خـــــــــــطةً   ***   تسبُّ بها ما إن هبطتَ المــــــــواسما

أقولُ له: بل أين منه نصيــــــــــحتي؟   ***   أبا عتبة ثبّت ســـــــــــــــــوادكَ قائما

وولِ سبيـــــــــــلَ العجزِ غيركَ منهم   ***   فأنكَ لم تُخــــــــــلق على العجزِ دائماً

وفيها يستثيره للوقوف إلى جانب بني هاشم ضد كفار قريش:

وحارب فإن الحربَ نَصفٌ ولن ترى   ***   أخا الحربِ يُعطي الخسفَ حتى يسالما

جزى اللهُ عنــــــــا عبد شمسٍ ونوفلاً   ***   وتيماً ومخـــــــــــــــزوماً عقوقاً وآثما

بتفريقهم من بعـــــــــــــــــد ودٍ وإلفةٍ   ***   جماعتنا كيما ينالوا المحـــــــــــــــارما

كذبتم وبيتِ اللهِ نبزى محمـــــــــــــداً   ***   ولما تروا يوماً لـــــــــدى الشعبِ قائما

ورغم ان أبا لهب لم يستجب لنصائح أخيه إلا أن أبا طالب ظل يقدم له النصح والإرشاد باتباع دين النبي (ص) ومن ذلك قوله:

عجبتُ لحلـــــــــمٍ يا ابنَ شيبةَ عازبٌ   ***   وأحلامُ أقوامٍ لــــــديكَ سخافِ

يقولونَ: شـــــــــــايعْ من أرادَ محمداً   ***   بظلمٍ, وقُمْ فـــــي أمرهِ بخلافِ

أضاميمُ إمّا حــــــــــــــاسدٌ ذو خـيانةٍ   ***   وإمّا قريبٌ مــنكَ غيرُ مُصافِ

فلا تركبنّ الدهرَ منــــــــــــكَ ذمـامةً   ***   وأنتَ امرؤٌ من خيرِ عبدِ مُنافِ

ولا تتركنه ما حييــــــــــــتَ لمعــظمٍ   ***   وكُنْ رجــــــلاً ذا نجدةٍ وعفافِ

يذودُ العِدا عن ذروةٍ هاشمــــــــــــيةٍ   ***   إلافهـــــــمُ في الناسِ خيرُ إلافِ

فإنّ له قُربــــــــــــــــى إليكَ قريـــبةٌ   ***   وليـــس بذي حِلفٍ ولا بمُضافِ

ولكنه من هاشمٍ ذو صميــــــــــــمِها   ***   إلى أبحرٍ فوقَ البحورِ طــــوافِ

وزاحمْ جميعَ الناسِ عنه وكُــــــنْ له   ***   وزيراً على الأعداءِ غـيرُ مُجافِ

وإن غضبتْ منه قريشٌ فقلْ لـــــها:   ***   بني عمِنا ما قــــــومُـكمْ بِضِعافِ

وما بالكم تخشـــــــــونَ منه ظلامةً   ***   وما بالُ أحقادٍ هنــــــــــاكَ خَوَافِ

فما قومُنا بالقومِ يغشــــــــونَ ظلمَنا   ***   وما نحنُ فيما ساءَهــــــــم بخِفَافِ

ولكننا أهلُ الحفائظِ والنُــــــــــــهى   ***   وعزّ ببطحاءِ المشـــــــــاعرِ وافِ

مواجهة قريش

لمّا بلغ أبا طالب تعريض طائفة من لوي بن كعب بالنبي (ص) وإنهم ينالون منه (ص) ويخدشون ببعثته قال يخاطب بني لؤي في أبيات يحذّرهم فيها من مغّبة كفرهم بما جاء به محمد من الهداية, أو أن يتعرّضوا لمحمد بسوء فيقول:

أفيقوا أفيقوا قبل أن يُحفرَ الثرى   ***   ويصبحُ من لم يجنِ ذنباً كذي الذنبِ

ولا تتبـعوا أمرَ الوشاةِ وتقطعوا   ***   أواصـــــــــــرَنا بعد المودّةِ والقربِ

وتستجلـــبوا حرباً عواناً وربّما   ***   أمـــــــرّ على من ذاقه جلبَ الحربِ

ويقول في تمسّكه بموقفه الذي لا ينثني في حماية محمد ونصرته:

فلا والذي يُــــحدي له آلُ مريمٍ   ***   طليحاً بجنبي نخـــــلةٍ فـالمُحصَبِ

يميـــناً صدقنا الله فيها ولم نكن   ***   لنحلفَ بطلاً بالعــــقــيقِ المحجبِ

نفـــــــارقه حتى نُصرّعَ حوله   ***   وما بالُ تكذيــــــبِ النـبيّ المقرّبِ

فيا قومنا لا تظلمـــــــونا فإننا   ***   متى ما نخف ظلمَ العشيرةِ نغضبِ

ويقطع عليهم أمراً وهو أنه ليس بتارك محمداً حتى يموت دونه:

فلسنا وربّ البيتِ نسلمُ أحمداً   ***   لعزاء من عضّ الزمــانِ ولا أربِ

أما إذا لم ينتهوا عن أذاهم للنبي فبنو هاشم هم فرسان الحرب وأبطال الوغى ولا يملون الحرب حتى تملهم:

أليـــــسَ أبونا هاشمٌ شدّ أزرَه   ***   وأوصى بنيــه بالطعانِ وبالضربِ

ولسنا نملُّ الحربَ حتى تملنا   ***   ولا تشتــكي ما قد ينوبُ من النكبِ

ولما سمع أبو طالب أن أبا جهل قد أسمع رسول الله (ص) كلمات نابية ونال من مقام النبوة وأن رسول الله تألم وتأثر لذلك قام من مجلسه وأهان أبا جهل وقال يخاطب الرسول (ص) أمام الجماهير من قريش:

 لا يمنعنــكَ من حقٍ تقومُ به   ***   أيدٍ تصــولُ ولا سلقٍ بأصواتِ

فأنّ كفّكَ كفي إن أصبتَ بها   ***   ودون نفسكَ نفسي في المُلماتِ

الملحمة اللامية

هذه اللامية الملحمية الشهيرة لأبي طالب هي من عيون الشعر العربي تبلغ (111) بيتاً قال عنها ابن جني: إنها أبلغ من المعلقات. وقد ضمّنها حادثة استسقائه حينما لاذ الناس به وقد أمسكت السماء فخرج مستصحباً النبي (ص) وتوسّل برسول الله فهطل المطر فذكر هذه الحادثة في لاميته فقال:

 وأبيضُ يستسقى الغمامُ بوجههِ   ***   ثمالُ اليتــامى عصمةٌ للأراملِ

تلوذُ به الهلّاكُ مـــــن آلِ هاشمٍ   ***   فهم عنــــده في نعمةٍ وفواضلِ

ومطلع هذه القصيدة هو:

خليــــــليَّ ما أذني لأولِ عاذلِ   ***   بصغواءَ في حقٍ ولا عندَ باطلِ

وفيها يستعرض حال قريش وما أكنوا في أنفسهم من العداوة والبغضاء لرسول الله فيقول:

ولما رأيـــتُ القومَ لا ودَّ عندهم   ***   وقد قطعوا كل العُرى والوسائلِ

وقد صارحونا بالعـداوةِ والأذى   ***   وقد طـاوعوا أمرَ العدوِّ المزايلِ

وقد حالفوا قــــوماً علــينا أظنّةً   ***   يعضّـــــونَ غيظاً خلفنا بالأناملِ

ولكن أبا طالب لم يكن بذلك الشخص الذي ترهبه كثرة الأعداء (الأقربون) بعد أن قطعوا الرحم وجاهروا بالبغضاء فقد أعدّ عدّته للمواجهة:

صبــــــــرتُ لهم نفسي بسمراءَ سمحةٍ   ***   وأبيضَ عضبٍ من تراثِ المقاولِ

وأحضرتُ عند الـبيتِ رهطي وأخوتي   ***   وأمســـــكتُ من أثوابهِ بالوصائلِ

قيامـــــــــــــــــــاً معاً مستقبلين رتاجَه   ***   لدى حيـــثُ يقضي نسكَه كلُّ نافلِ

وهذه الأمور التي يقولها أبو طالب لا تقال إلا لأمر عظيم :

وبالبيــــــــتِ ركنِ البيتِ من بطنِ مكةٍ   ***   وباللهِ إن اللهَ ليـــــــــــــــــسَ بغافلِ

وبالحجرِ المســـــــــــــودّ إذ يمسحونه   ***   إذ اكتنفوه بالضحــــــــى والأصائلِ

وموطئُ إبراهيمَ في الـصــــخرِ رطبة   ***   على قدميه حــــــــــــافياً غير ناعلِ

ويحلف أبو طالب بكل تلك الشعائر المقدسة من منازل منى إلى رمي الجمرات ولكن على ماذا ؟:

كذبتــــــــــــــم وبيتِ اللهِ نبزى محمداً   ***   ولما نطـــــــــــاعــن دونـه ونناضلِ

ونسلمهُ حتــــــــــــــــى نصرّعَ حوله   ***   ونذهلُ عن أبنــــــــــــــائنا والحلائلِ

وينهضُ قومٌ في الحديـــــــــــــدِ إليكم   ***   نهوضَ الروايا تحت ذاتِ الصلاصلِ

ثم يعدد صفات الرسول التي هي صفات النبوة ويمدحه ويدعو له بالنصر والتأييد من الله والغلبة في دينه:

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غيرُ طائشٍ   ***   يوالي إلـــهـاً ليس عنه بغافلِ

فأيّــــــــدهُ ربَ العبادِ بنصرهِ   ***   وأظهر ديــناً حقه غير باطلِ

لقد علمــوا إن ابننا لا مكذّبٌ   ***   لديهم ولا يعنى بقولِ الأباطلِ

وبقول في شباب المسلمين من بني هاشم وغيرهم الذين نصروا النبي وآزروه في الدعوة إلى الإسلام:  

رجالٌ كـــــرامٌ غير مِيلٍ نماهم   ***   إلى الغرِّ آباءٌ كـــــــرامٌ المخاصلِ

شبابٌ من المطّيــــــبين وهاشمٌ   ***   كبيضِ السيوفِ بين أيدي الصياقلِ

بضربٍ ترى الفتيـان فيه كأنهم   ***   ضواري أسودٍ فـــوق لحمِ خرادلِ

مدح النبي (ص)

شعر أبي طالب مفعم بتعظيم النبي (ص) والإرشاد إلى دينه الحق. (ولولا خاصّة النبوة وسرّها لما كان مثل أبي طالب ــ وهو شيخ قريش ورئيسها وذو شرفها ــ يمدح أبن أخيه محمداً وهو شاب صغير قد رباه في حجره وهو يتيمه ومكفوله وجارى مجرى أولاده (4) فيقول فيه:

وتلقوا ربيعَ الأبطحينِ محمداً   ***   على ربوةٍ في رأسِ عيطاءِ عيطلِ

وتأوي إليــه هاشمٌ إن هاشماً   ***   عرانينَ كعبــــــــــــاً آخراً بعد أوّلِ

ويوجه في هذه القصيدة رسالة شديدة اللهجة إلى قريش بقوله:

يقولون: إنا إن قتلنا محمـــداً   ***   أقرّت نواصـــــــــــي هاشمٍ بالتذلّلِ

كذبتم وبيــــتِ اللهِ يثلمُ ركنَه   ***   ومكةَ والأشـــــــــعارِ في آلِ معملِ

ومن مدائحه للنبي قصيدته التي يقول فيها:

أنتَ النبي محــــــــمدٌ   ***   قرمٌ أعـــــــــزُ مسوّدُ

لمسودينَ أكـــــــــارمٌ   ***   طابوا وطـابَ المــولدُ

نعمَ الأرومـــةِ أصلها   ***   عمرو الخضمُ الأوحدُ

هشمَ الربيكةَ في الجفــــــــــــــــانِ وعيشُ مكــةَ أنكدُ

وبعد أن يعدد مآثر بني هاشم ومالهم من الفخر على سائر قريش يخاطب النبي ويؤكد له بأنه لن يمسه سوء من قريش ولا غيرها ما دام فيه عرق ينبض فيقول:

أنّى تُضـامُ ولم أمُتْ   ***   وأنا الشجاعُ العربدُ

وبطاحُ مكةَ لا يُرى   ***   فيها نجـــــيعٌ أسـودُ

وبنو أبيـــــكَ كأنهم   ***   أسدُ العريــــنِ تـوقّدُ

ولقد عهدتكَ صادقاً   ***   في القولِ لا تتـــرددُ

وله أيضاً في مدح النبي:

إذا اجتمعــت يوماً قريشٌ لمفخرٍ   ***   فعبدُ منافٍ ســـــــرُّها وصميمُها

فإن حصلـت أشرافُ عبد منافها   ***   ففي هـــــــــاشمٍ أشرافُها وقديمُها

فإن فخــــــرت يوماً فإنّ محمداً   ***   هو المصطفى من سرِّها وكريمُها

ويقول في حماسته وتفانيه في الدفاع عن رسول الله هذه الأبيات الملحمية:

فبلّغ على الشحنـــــاءِ أفناءَ غـــالبٍ   ***   لويّاً وتيـــــــــماً عند نصرِ الكرائمِ

بأنّا سيــــــــــــوفُ اللهِ والمـــجدُ آله   ***   إذا كان صوتُ القومِ وحيَ الغمائمِ

ألم تعلموا أن القطيــــــــــعة مــــأثمٌ   ***   وأمرّ بــــــــــــلاءٍ قائمٍ غيرُ حازمِ

وأن سبيلَ الرشـــدِ يعـــلمُ فــــي غدٍ   ***   وأن نعيــــــــــــمَ الدهرِ ليسَ بدائمِ

فلا تسفهن أحلامــكـــم فــــي محمدٍ   ***   ولا تتبعوا أمــــــــرَ الغواةِ الأشائمِ

تمنيتم أن تقتـــــــــــــــــــــلوه وإنما   ***   أمانيــــــــــــــكم هذي كأحلامِ نائمِ

فإنّكم والله لا تقـــــــــــــــــــــــتلونه   ***   ولما تروا قطفَ اللحـى والغلاصمِ

ولم تبصرِ الأحـــــياءُ منـكم ملاحماً   ***   تحومُ عليها الطـــــــيرُ بعد ملاحمِ

وتدعو بأرحـــــامٍ أواصـــــــرَ بيننا   ***   وقد قطعَ الأرحــــامَ وقعُ الصوارمِ

ونسمـــــــــــو بخيلٍ بعد خيلٍ يحثّها   ***   إلى الروعِ أبنـــــاءُ الكهولِ القماقمِ

من البيضِ مفضالٌ أبيُّ على العدى   ***   تمكن في الفرعينِ فــــي حيِّ هاشمِ

أمينٌ محبٌّ في العبـادِ مســـــــــــوّمٌ   ***   بخــــاتمِ ربٍّ قــــــــــــاهرٍ للخواتمِ

يرى الناس برهــــــــاناً عليه وهيبةً   ***   وما جــــاهلٌ أمراً كــــــــآخرَ عالمِ

نبيٌّ أتاهُ الوحي من عنـــــــــــدِ ربهِ   ***   ومن قال: لا يـــقرع بـــها سن نادمِ

مع النجاشي

ولم تقتصر دعوة أبي طالب للأيمان بالنبي (ص) على قريش والعرب فقد دعا النجاشي ملك الحبشة إلى الإيمان بنبوة محمد (ص) وكرر كتبه إليه يدعوه إلى الاسلام وكان قد ختم رسائله بمقطوعتين يقول في الأولى:

أتعلمُ ملك الحبـشِ إن محمداً   ***   نبيٌّ كموسى والمسيحِ بن مريمِ

أتى بالهدى مثلَ الذي أتيا به   ***   وكلٌ بأمــــرِ اللهِ يَهدي ويَعصمِ

وإنكمُ تتـــــــلونُه في كتابِكم   ***   بصدقِ حديثٍ لا بصدقٍ الترجّمِ

فلا تجعلوا للهِ نــدّاً وأسلموا   ***   وإن طريقَ الحــــقِ ليسَ بمُظلمِ

أما المقطوعة الثانية فقد أرسلها عندما كان المسلمون مهاجرين إلى الحبشة بقيادة ابنه جعفر وفيها يوصيه بهم ويحذره من كيد عمرو بن العاص وجماعته الذين أرسلتهم قريش للكيد بالمسلمين والوشاية بهم عند النجاشي يقول أبو طالب:

إلا ليتَ شعري كيف في الناسِ جعفرٌ   ***   وعمرو وأعداء النبيِّ الأقاربُ

تعلمُ أبيـــــــــــــــــتَ اللعنَ أنكَ ماجدٌ   ***   كريـمٌ فلا يشقى اليكَ المجانبُ

تعلّم بأن الله زادكَ بســــــــــــــــــطةً   ***   وأسبـــابَ خيرٍ كلها بكَ لازبُ

نصرة أصحاب النبي (ص)

ويغضب لأحد الصحابة الأجلاء وقد انهال عليه الكفار بالضرب ففقأوا عينه وأجروا دمائه وهو يدعوهم إلى الإسلام وهذا الصحابي هو عثمان بن مظعون رضي الله عنه فمر أبو طالب ورآه على تلك الحالة من التعذيب فانتفض في وجه القوم وسبهم وفرقهم عنه وفقأ الذي فقأ عينه ثم قال:

أمن تذكّـر دهـراً غيــــــرَ مأمونِ   ***   أصبــــحتُ مكتئباً تبكي كمحزونِ

أم من تـــــــذكّر أقواماً ذوي سفهٍ   ***   يغشونَ بالظلمِ من يدعو إلى الدينِ

لا ينتهـونَ عن الفحشاءِ ما أمروا   ***   والغدرُ فيـهم سبيلٌ غيرِ مأمــــــونِ

ألا يــــرونَ ـ أذلّ اللهُ جمعهموا ـ   ***   إنا غضبنـا لعثمانِ بن مـــــــظعونِ

إذ يلطمـونَ ـ ولا يخشون ـ مقلته   ***   طعناً دِراكـــاً وضرباً غير مرهونِ

فسوفَ نجزيهم إن لم يمت عجلاً   ***   كيلاً بكيلٍ جـــزاءً غيرِ مـــــــغبونِ

أو ينتهونَ عن الأمرِ الذي وقفوا   ***   فيه ويرضــــــــــونَ منّا بعدُ بالدونِ

ونمنعَ الضيمَ من يبغي مضامتنا   ***   بكل مطّرِدٍ في الـــــــــــكفِ مسنونِ

ومرهفـــــاتٍ كأن الملحَ خالطَها   ***   يُشفى بها الداء من هــــــامِ المجانينِ

حتى تقرّ رجــــــالٌ لا حلومَ لها   ***   بعد الصعوبةِ بــــالأسمــــــاحِ واللينِ

أو يؤمنوا بكتابٍ مـــنزلٍ عجبٍ   ***   على نبيٍّ كموسى أو كـــــــذي النونِ

يأتي بأمرٍ جليٍّ غيــر ذي عوجٍ   ***   كما تبيّــــــــــــن في آيــــــاتِ ياسينِ

وهذا الصحابي الجليل ـ عثمان بن مظعون ـ هو الذي سمى أمير المؤمنين (ع) أحد أبنائه تيّمناً باسمه لجلالته ومكانته في الإسلام ودوره في الدفاع عنه.

ولأبي طالب من أمثال هذا الموقف مواقف كثيرة مشرّفة وقفها في نصرة المسلمين في بداية الدعوة منها موقفه في إجارة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي الذي كان من أوائل المسلمين وعندما أراد كفار قريش أن يعذبوه استجار بأبي طالب فأجاره وحماه منهم ومنعهم من أخذه.

الوصية

وهكذا يقدر لعم رسول الله (ص) أن يحيا حياة ملؤها البطولة والجهاد في سبيل الله (ص) والمفاداة والذبّ عن رسول الله وتشاء له إرادة الله أن يرحل عن هذه الدنيا في نفس العام الذي توفيت فيه أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) فكان الحزن مضاعفاً في قلب النبي (ص) وسُمِّي ذلك العام بعام الحزن.

لقد ذهب أبو طالب إلى الفردوس الأعلى ومجاورة النبيين والأولياء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ولكنه لم ينس ابن أخيه.

يستشعر أبو طالب بدنو أجله واقتراب وفاته فيبعث بدعوة بني هاشم إلى بيته فلما حضروا كلهم أوصاهم برسول الله واتباع شريعته ومبادئه, وقال لهم: يا بني عبد المطلب, لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد ابن أخي وما اتبعتم أمره فأطيعوا محمداً وصدّقوه واتبعوا أمره تفلحوا وترشدوا. ثم قال:

قل: لعبد العزى أخي وشقيقي   ***   وبني هاشمٍ جــميـعاُ عزينا

وصديــقي أبي عمـارة والأخـــــــــــــــوان طُراُ وأسرتي أجمعينا

فاعلموا بأنــــــــني له ناصرٌ   ***   ومجرٍ بصــــولتي الخاذلينا

ثم يختص بوصية أخرى نفراً من أبطال بني هاشم الأفذاذ وهم أربعة يقول فيها:

أوصي بنصرِ نبيِّ الخيرِ أربعةً   ***   أبني علـــــــــياً وعمَّ الخيرِ عـبّاسا

وحمزةَ الاسـدَ المخشيَّ صولته   ***   وجعفراً فذوداً دونـــــــــــــه الناسا

وهاشماً كلها أوصــي بنصرته   ***   أن يأخذوا دون حربِ القومِ أمراسا

كونوا فداءً لكم أمي وما ولدت   ***   في نصرِ أحمدَ دونَ الناسِ أتـــراسا

بكلِ أبيضَ مصقولٌ عوارضُه   ***   تخالَه في ســــــــــــوادِ الليلِ مقباسا (5)

رثاء أمير المؤمنين (ع)

كانت حياة هذا الرجل العظيم ملؤها الأيمان والجهاد في سبيل الدعوة المحمدية, كما زخرت بالكثير من المواقف المشرفة في نصرة الإسلام باليد واللسان ولم يفتأ طوال حياته الشريفة يدعو إلى الإيمان بالنبي عن طريق الشعر والخطب والنصائح الغر والتي سجلتها له كتب الحديث والسيرة والتاريخ إضافة الى ديوانه الذي قدمنا نماذج منه وقد احتوى على شعر رائق وعلم غزير وحكمة بالغة.

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كان أمير المؤمنين (ع) يعجبه أن يروى شعر أبي طالب، وأن يدوَّن، وقال تعلموه وعلموه أولادكم، فانه كان على دين الله وفيه علم كثير.  

وقد رثى أمير المؤمنين (ع) أباه بمراثٍ عديدة منها قوله:

أبا طالبٍ عصمة المستجير   ***   وغيث المـحولِ ونور الظلمْ

لقد هزّ فقدكَ أهـــلَ الحفاظِ   ***   فصلّــــــى علـيكَ وليُّ النعمْ

ولقــــــــاكَ ربّكَ رضوانَه   ***   فقد كنتَ للمصطفى خيرَ عمْ

ورثاه بأبيات أخرى هي:

أرقتُ لطيــــــــــرٍ آخرَ الليلِ غرَّدا   ***   يذكّرني شجواً عظيــــماً مُجددا

أبا طالبٍ مأوى الصعاليك ذا الندى   ***   جواداً إذا ما أصدر الأمر أوردا

فأمستْ قريشٌ يفرحــــــــونَ بموتِهِ   ***   ولستُ أرى حياً يـــــكونُ مُخلّدا

أرادوا أموراً زيَّنتها حلــــــــــومُهم   ***   ستورِدهم يوماً مـن الغيِّ مَوردا

ويرجونَ تكذيــــــــــبَ النبيِّ وقتله   ***   وأن يُفـترى قدمـــاً عليه ويُجحدا

كذبتم وبيتِ اللهِ حـــــــــــتى نذيقكم   ***   صـدورَ العوالي والحسامَ المهنّدا

فإما تبيدونا وإما نبيـــــــــــــــــدكم   ***   وإما تروا ســـــلم العشيرة أرشدا

وإلا فإنَّ الحـــــــــــــي دون محمدٍ   ***   بني هـــــــاشمٍ خير البرية محتدا

أبو طالب في أقوال المعصومين

ونرى من الضروري أن نذكر ما جاء في حق أبي طالب من روايات على لسان المعصومين (ع) مما يؤكد إيمانه العميق بالله ودرجته الرفيعة في الإسلام, فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) قوله: قال رسول الله (ص) هبط عليّ جبرائيل فقال لي: يا محمد: إن الله عز وجل مشفعك إلى ستة: بطن حملك آمنة بنت وهب, وصلب أنزلك عبد الله, وحجر كفلك أبو طالب, وبيت آواك عبد المطلب, وأخ لك في الجاهلية قيل يا رسول الله وما كان فعله ؟ قال: كان سخياً يطعم الطعام ويجود بالنواء, وثدي أرضعك حليمة بنت أبي ذؤيب. (6)

كما ورد عن الإمام الصادق (ع) أيضاً قوله: أوحى الله تعالى إلى النبي (ص): (أني حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك وبيت آواك). وقد وردت هذه الرواية في كثير من المصادر وبألفاظ مختلفة وبمضمون واحد (7)

وهناك رواية أخرى ذكرتها المصادر وهي عن أمير المؤمنين أنه قال: والذي بعث محمداً بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق إلا خمسة أنوار: نور محمد ونوري ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ومن ولده من الأئمة لأن نوره من نورنا الذي خلق الله تعالى من قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام. (8)

كما جاء في المصادر عن الإمام زين العابدين وقد سئل عن إيمان أبي طالب فقال: وا عجباه ؟ أتطعنون على أبي طالب أو على رسول الله ؟ وإن الله تعالى نهى رسول الله أن يقر مسلمة على نكاح كافر في غير آية من القرآن وقد كانت فاطمة بنت أسد من المؤمنات السابقات إلى الإسلام ولا يشك أحد في ذلك ولم تزل تحت أبي طالب إلى أن مات). (9)

وجاء عن الإمام الباقر (ع) قوله: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه على إيمانهم ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين كان يأمر بأن يحج عن عبد الله أبي النبي وعن أبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته في الحج عنهم بعد مماته.     

وقال رجل للإمام الصادق (ع): سيدي إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فقال (ع): إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجج إيمان أبي طالب على إيمانهم.

وكتب أبان بن محمد للإمام الرضا (ع): جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب. فكتب له الإمام جواباً نصه: بسم الله الرحمن الرحيم ومن يبتغ عير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى. إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار.

محمد طاهر الصفار

.....................................................................

1 ــ ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 14 ص 64  

2 ــ شرح النهج ج 1 ص 29

3 ــ عبد الواحد السفاقسي السيرة النبوية ج 1 ص 88

4 ــ شرح النهج ج 14 ص 66

5 ــ ابن الجوزي/ تذكرة الخواص ص 8 , الحلبي/ السيرة الحلبية ج 1 ص 372 , السيوطي الخصائص الكبرى ج 1 ص 87

6 ــ السيوطي / التعظيم والمنة ص 25 , ابن أبي الحديد شرح النهج ج 14 ص 67

7 ــ شمس الدين الموسوي / إيمان أبي طالب ص 49

8 ــ  كنز الفوائد/ الكراجكي ص 80 , تفسير أبي الفتوح ج 4 ص 211 , الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة , علي خان المدني ص50 , منية الراغب في إيمان أبي طالب / الشيخ محمد رضا الطبسي النجفي  ص 28 , الغدير / الشيخ الأميني ج 7 ص 387

9 ــ السيد فخار بن معد الحائري / الحجة على الذاهب في تكفير أبي طالب ص 24

 

 

gate.attachment

: محمد طاهر الصفار