الامامية عند الامام زين العابدين (عليه السلام) / دراسة تاريخية

م.م. رنا جبوري موسى

إن سيرة الائمة الاثني عشر من أهل البيت (ع) تمثل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (ص) ، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الاسلام الاصيل الذي اخذ يشق طريقه الى أعماق الامة بعد ان اخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول(ص) ، فأخذ الائمة المعصومون (ع) يعملون على توعية الامة وتحريك طاقتها باتجاه ايجاد وتصعيد الوعي الرسالي للشريعة ولحركة الرسول(ص) وثورته المباركة ، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكم في سلوك القيادة والامة جمعاء.

حيث اختص هذا البحث بدراسة حياة الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع) وهو المعصوم السادس من أعلام الهداية والرابع من الائمة الاثني عشر بعد رسول الله(ص) والذي جسد الاسلام المحمدي بكل ابعاده في حياته الفردية والاجتماعية في ظروف اجتماعية وسياسية عصيبة فحقق القيم الاسلامية المثلى في الفكر والعقيدة والخلق والسلوك وكان نبراساً يشع ايماناً وطهراً وبهاءً للعالمين .

ويتكون البحث من مبحثين : المبحث الاول ( أسمه ونسبه ، ونشأته ، وامه ، والقابه ، وصفاته الجسمية ، وهيبته ووقاره ) ، اما المبحث الثاني فقد تناول موضوع ( الامام زين العابدين(ع) من الولادة الى الامامة ) فقد ركز هذا المبحث على ثلاثة امور وهي 1- النص على امامة الامام زين العابدين(ع) ، و2- الامام زين العابدين (ع) يوم عاشوراء و3- ملامح عصر الامام (ع) . فضلا عن الخاتمة وقائمة المصادر والمراجع . 

المبحث الاول:  الامام زين العابدين بن علي ( عليه السلام)

أسمه ونسبه :

هو الامام علي بن الحسين (ع) رابع أئمة أهل البيت (ع) ، وجده الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وصي رسول الله (ص) ، وأول من اسلم وآمن برسالته ، وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، كما صح في الحديث عنه[1] .

وجدته فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) وبضعته ، وفلذة كبده ، وسيدة نساء العالمين كما كان ابوها يصفها .

وأبوه الامام الحسين (ع) أحد سيدي شباب أهل الجنة ، سبط الرسول وريحانته ومن قال فيه جده (ص) : (( حسين مني وأنا من حسين )) وهو الذي استشهد في كربلاء يوم عاشوراء دفاعا عن الاسلام والمسلمين .

وهو احد الائمة الاثني عشر (ع) الذين نص عليهم النبي (ص) كما جاء في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما ، اذ قال : (( الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش ))[2] .

وقد ولد الامام علي بن الحسين (ع) في سنة ثمان وثلاثين للهجرة ، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين .

وعاش سبعة وخمسين سنة تقريبا قضى ما يقارب سنتين أو أربع منها في كنف جده الأمام علي (ع) ثم ترعرع في مدرسة عمه الحسن وأبيه الحسين (ع) سبطي الرسول الاعظم (ص) ، وارتوى من نمير العلوم النبوية ، واستقى من ينبوع أهل البيت الطاهرين  .

نشأته :

لقد توفرت للاما زين العابدين (ع) جميع المكونات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحد سواه ، وقد عملت على تكوينه وبناء شخصيته بصورة متميزة ، جعلته في الرعيل الاول من أئمة المسلمين الذين منحهم الرسول (ص) ثقته ، وجعلهم قادة لأمته وامناء على أداء رسالته .

نشأ الامام في ارفع بيت واسماه الا وهو بيت النبوة والامامة الذي اذن الله ان يرفع ويذكر فيه أسمه (( في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال ۝ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ))[3] ، ومنذ الايام الاولى من حياته كان جده الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يتعاهده بالرعاية ويشع عليه من أنوار روحه التي طبق شذاها العالم بأسره ، فكان الحفيد بحق صورة صادقة عن جده يحاكيه ويضاهيه في شخصيته ومكوناته النفسية .

عاش الامام (ع) في كنف عمه الامام الزكي الحسن المجتبى (ع) سيد شباب اهل الجنة وريحانة رسول الله (ص) وسبطه الاول ، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه ، ويغرس في نفسه مثله العظيمة وخصاله السامية ، كان الامام (ع) طوال هذه السنين تحت ظل والده العظيم أبي الاحرار وسيد الشهداء الامام الحسين (ع) الذي راى في ولده علي زين العابدين (ع) امتدادا ذاتياً ومشرقاً لروحانية النبوة ومثل الامامة ، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته ، وقدمه على بقية ابنائه في أكثر اوقاته .

        لقد ولد الامام زين العابدين (ع) في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (36هـ )  ، يوم فتح البصرة ، حيث إن الامام علي (ع) لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة الى الكوفة ، وتوفي بالمدينة سنة (94 أو 95هـ ).

        ذكر عدد من المؤرخين انه ولد في سنة (38هـ) وفي مدينة الكوفة حيث كان جده الامام أمير المؤمنين (ع) قد اتخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل ، فمن الطبيعي ان يكون الحسين السبط (ع) مع اهله عن ابيه (ع) في هذه الفترة بشكل خاص  .

أمــه :

اسمها ( شهربانو) أو ( شهر بانويه ) أو ( شاه زنان ) بنت يزدجر آخر ملوك الفرس ، وذكر البعض ان أمه قد اجابت نداء ربها أيام نفاسها فلم تلد سواه[4]

ألقابه :

(( زين العابدين )) و (( ذو الثفنات)) و (( سيد العابدين )) و (( قدوة الزاهدين)) و (( سيد المتقين )) و (( أمام المؤمنين )) و (( الامين )) و(( السجاد)) و(( الزكي )) و (( زين الصالحين )) و(( منار القانتين )) و (( العدل ))  و (( امام الامة )) و (( البكاء )) وقد اشتهر بلقبي (( السجاد )) و (( زين العابدين )) أكثر من غيرهما[5]

ان هذه الالقاب قد منحها الناس للأمام عندما وجدوه التجسيد الحي لها ، والمصداق الكامل ل : (( وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هوناً واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ))[6] .

ان الذين منحوه هذه الالقاب لم يكونوا من شيعته  ، ولم يكونوا يعتبرونه اماماً من قبل الله تعالى ، لكنهم ما استطاعوا ان يتجاهلوا الحقائق التي رأوها فيه .

        فقد ذكر لنا المؤرخون مايبين بعض العلل التأريخية لجملة من هذه الالقاب المباركة :

روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال : كنت جالساً عند رسول الله (ص) والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال (ص) : (( يا جابر يولد له مولود اسمه علي ، اذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم (سيد العابدين ) فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام ))[7] . كان الزهري إذا حدث عن علي بن الحسين (ع) قال : حدثني ((زين العابدين )) علي بن الحسين ، فقال له سفيان بن عيينة : ولم تقول له زين العابدين ؟ قال : لأني سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال ؛ (( إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ أين زين العابدين ؟ فكأني أنظر الى ولدي علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب يخطو بين الصفوف ))[8] ؟ وجاء عن الامام ابي جعفر الباقر (ع) انه قال :(( كان لأبي في مواضع سجوده آثار ناتئة ، وكان يقطعها في السنة مرتين ، في كل مرة خمس ثفنات ، فسمي ذا الثفنات لذلك))[9] . كما جاء عنه عن كثرة سجود ابيه : ما ذكر لله عز وجل نعمة عليه الا وسجد ، ولادفع الله عنه سوءً إلا وسجد ولا فرغ من صلاة مفروضة الا وسجد ، وكان اثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمي بالسجاد[10] .

صفاته الجسمية :  

   اما صفاته وملامحه الجسمية ، فقد ذكر المؤرخون انه كان أسمر قصيراً، نحيفاً ، ورقيقاً ، وكان كلما تقدمت به السن ازداد ضعفاً وذبولاً ، وذلك لكثرة عبادته ، وقد اغرقته في الاحزان والالام مذبحة كربلاء ، فقد ظلت أهوالها تلاحقه حتى لحق بالرفيق الاعلى[11] .

هيبته ووقاره (ع ) :

   أما هيبته فتعنوا لها الوجوه والجباه ، فكانت تعلو على أسارير وجهه أنوار الانبياء وهيبة الاوصياء ، ووصفه شاعر العرب الفرزدق في رائعته هيبة الامام بقوله :

يكـــاد يـــمسكه عــرفان راحـــته             ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم   

يغضي حياءً ويغضى من مهابته              فلا يكـــلم الا حين يبتســـــــم

   ويقول الشيخاني القادري : (( وكان لاتشبع من رؤية صباحة وجهه عين الناظر))[12] .

   لقد كانت هيبته تحكي هيبة جده الرسول الاعظم (ص) ، وقد بهر بها المجرم السفاح مسلم بن عقبة الذي استهان بجميع القيم والمقدرات ، فحينما رأى الامام ارتعدت فرائصه ، وقابله بمزيد من العناية والتكريم ، وقال لمن حوله : (( إن على زين العابدين سيماء الانبياء ))[13] .

المبحث الثاني

الامام السجاد ( عليه السلام ) من الولادة الى الامامة

النص على أمامه زين العابدين (ع) الامام زين العابدين (ع) يوم عاشوراء ملامح عصر الامام زين العابدين

المبحث الثاني

حياة الامام زين العابدين من الولادة الى الامامة

 لقد عاش الامام زين العابدين (ع) في المرحلة الاولى من حياته في ظلال جده الامام أمير المؤمنين ، وعمه الامام الحسن المجتبى ، وابيه الامام الحسين سيد الشهداء (ع) مدة تناهز العقدين ونصف العقد ، حيث قضى في كنف جده الامام علي (ع) ما يزيد قليلاً عن اربع سنوات ، وما لايقل عن سنتين لو كانت ولادته سنة (38هـ) ، بينما قضى عقداً آخر من حياته في كنف عمه وأبيه (ع) حيث استشهد عمه الامام الحسن السبط (ع) سنة 50هـ[14] .

كما قضى عقداً ثانياً في ظل قيادة أبيه الحسين السبط (ع) وهي الفترة الواقعة بين مطلع سنة (50هـ) وبداية سنة (60هـ) ، فقد عاش الامام زين العابدين (ع) فترة المخاض الصعب خلال المرحلة الاولى من حياته وقضاها مع كل من جده وعمه وأبيه (ع) ، واستعد بعدها لتحمل أعباء الامامة والقيادة بعد استشهاد أبيه والصفوة من أهل بيته واصحابه في ملحمة عاشوراء الخالدة التي مهد لها معاوية بن ابي سفيان وتحمل وزرها ابنه يزيد المعلن بفسقه والمستأثر بحكم الله في أرض الاسلام المباركة .  

وأما المرحلة الثانية من حياته الكريمة قد ناهزت ثلاثة عقود ونصف عقد من عمره الشريف ، وعاصر خلالها كلاً من حكم يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان ، ثم اغتالته الايدي الاموية الاثيمة بأمر من الحاكم وليد بن عبد الملك بن مروان واستشهد في 25 من المحرم أو ما يقرب منه سنه 94 أو 95 هـ عن عمر يناهز(57 سنة ) أو دونها قليلاً فكانت مدة امامته وزعامته حوالي (34سنة )[15] .

النص على إمامة زين العابدين(ع) :

    لقد نص رسول الله (ص) على إمامة اثني عشر إماماً من أهل بيته الاطهار ، وعينهم بذكر أسمائهم واوصافهم كما هو المعروف من حديثالصحابي جابر بن عبد الله الانصاري وغيره عند العامة والخاصة .

كما نص كل إمام معصوم على الامام الذي يليه قبل استشهاده في مواطن عديدة بما يتناسب مع ظروف عصره ، وقد كان النص يكتب ويودع عند أحد سراً ، ويجعل طلبه دليلاً على الاستحقاق ، ونلاحظ تكرار هذه الظاهرة في حياة أبي عبد الله الحسين (ع) بالنسبة لابنه زين العابدين (ع) تارة في المدينة واخرى في كربلاء قبيل استشهاده .

ومما روي من النص على إمامة ولده (ع) ما رواه الطوسي عن ابي جعفر الباقر (ع) أن الحسين لما خرج الى العراق دفع الى ام سلمة زوجة النبي (ص) الوصية والكتب وغير ذلك وقال لها (( إذا اتاك أكبر ولدي فادفعي اليه ما قد دفعت اليك )) فلما قتل الحسين (ع) اتى علي بن الحسين (ع) ام سلمة فدفعت اليه كل شي اعطاها الحسين (ع) ، وفي نص آخر أنه (ع) جعل طلبها منها علامة على امامة الطالب لها من الانام فطلبها زين العابدين (ع)[16] .

وذكر الكليني عن ابي الجارود عن الامام الباقر (ع) ان الحسين (ع) لما حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة الكبرى فدفع اليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين (ع) مريضاً لا يرون انه يبقى بعده ، فلما قتل الحسين (ع) ورجع أهل بيته الى المدينة دفعت فاطمة الكتاب الى علي بن الحسين(ع)[17] .

الامام زين العابدين (ع) يوم عاشوراء : 

ان اشد ما يحزن اهل بيت النبوة ومحبيهم ما رواه حميد ابن مسلم، وهو شاهد عيان بعد ظهر اليوم العاشر من المحرم إثر استشهاد الإمام الحسين (ع) إذ قال : لقد كنت أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها من ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها[18] .

    ثم انتهينا الى علي بن الحسين (ع) وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض ، ومع شمر جماعة من الرجالة ، فقالوا له : ألا تقتل هذا العليل ؟ فقلت سبحان الله أيقتل الصبيان ؟! إنما هذا صبي وانه لما به ، فلم أزل حتى دفعتهم عنه .

وجاء بعد ذلك عمر بن سعد فصاحت النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ولا تتعرضوا لهذا الغلام المريض .. من اخذ من متاعهن شيئاً فليرده عليهن ، فو الله ما رد احد منهم شيئاً .

وهكذا شارك الامام زين العابدين (ع) أباه الحسين السبط في جهاده ضد الطغاة ولكنه لم يرزق الشهادة مع ابيه والابرار من اهل بيته واصحابه ، فإن الله سبحانه كان قد حفظه ليتولى قيادة الامة بعد أبيه (ع) ويقوم بالدور المعد له لصيانة رسالة جده (ص) من أيدي العتاة العابثين وانتحال الضالين المبطلين ومن التيارات الوافدة على حضيرة الإسلام التي اخذت رقعتها بالاتساع والانتشار السريع[19]

ملامح عصر الامام زين العابدين(ع)

أن الامام زين العابدين (ع) قد عاش أقسى فترة من الفترات التي مرت على القادة من أئمة أهل البيت(ع) لأنه عاصر قمة الانحراف الذي بدأ بعد وفاة الرسول الاعظم (ص) ، ذلك ان الانحراف في زمن الامام زين العابدين(ع) قد أخذ شكلاً صريحاً لا على مستوى المضمون فقط بل على مستوى الشعارات المطروحة ايضاً من قبل الحكام في مجال العمل والتنفيذ ، وانكشف واقع الحكام لدى الجماهير المسلمة بعد مقتل الامام الحسين(ع) ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الامة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية .

        ووجده (ع) في محنته في خط الجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين ، ومن ثم عاش مع عمه الامام الحسن (ع) في محنته مع معاوية وعماله وعملائه ، ومع أبيه الحسين (ع) وهو في محنته الفاجعة الى ان استقل بالمحنة وجهاً لوجه ، وقد وصلت به المحنة ذروتها عندما رأى جيوش بني أمية تدخل مسجد الرسول (ص) في المدينة وتربط خيولها في المسجد ، هذا المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها الى العالم أجمع ، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الامام زين العابدين (ع) كثيراً من الذل والهوان عل يد الجيش الاموي الذي اباح المدينة والمسجد معاً وهتك حرمات النبي(ص) فيهما جميعاً .

     من الوسائل التي استعملها الامويين مع المعارضين في ذلك العصر هو القتل ، ويعد ابسط الوسائل ، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب على الاشجار وتقطيع الايدي والارجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي[20] .

     وانغمس الامويين في الترف ، حيث ذكر الكثير من المؤرخين نوادر كثيرة من ترفهم وتلاعبهم باقتصاد الامة وثرواتها ، حتى بالغوا في هباتهم للشعراء وأجزلوا العطاء للمغنين ، وسادت حياة اللهو واللعب والعبث والمجون في كثير من انحاء العالم الاسلامي وخصوصاً في مكة والمدينة ، وعمدت السلطات الاموية الى اشاعة ذلك فيهما لإسقاط هيبتهما من نفوس المسلمين ، بينا كانت الشريعة الاسلامية قد حاربت اللهو والمجون ودعت الانسان المسلم الى حياة الجد والاجتهاد والكدح من أجل إعمار حياته الدنيا وحياته الاخرى بالصالحات واستباق الخيرات وتسلق قمم الكمال والحرص على أثمن لحظات عمره في هذه الحياة وصيانتها من الضياع والخسران[21] .

     عمل الامام زين العابدين(ع) وقبل دخوله المدينة على اثارة الرأي والوعي العام الاسلامي وتوجيهه الى محنة الرسالة التي تمثلت في فاجعة الطف ، فقد كان لخطاباته التي القاها على الناس تستبطن هذه المعاني .

     أعطت تجربة كربلاء مؤشراً عملياً على ان الامة المسلمة في حال من الركود وتبلد مما جعل الحالة الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنها كانت معدومة نهائياً ، ومن اجل ذلك فأن الامام السجاد(ع) باعتباره امام الامة الذي انتهت إليه مرجعية الامة ، اخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار ، ولذلك مارس دوره من خلال العمل على تنمية التيار الرسالي في الامة ، وتوسيع دائرته في الساحة الاسلامية ، والعمل على رفع مستوى الوعي الاسلامي والانفتاح العملي في قطاعات الامة المختلفة ، وخلق قيادات  متميزة تحمل الفكر الاسلامي النقي ، لا الفكر الذي يشيعه الحكم الاموي[22] .    

     لقد نجحت خطط الامام(ع) على شتى الأصعدة وحسبما خطط لها ، فهنالك مصداقان عمليان على ذلك :

    ففي المجال الاجتماعي أثمرت خطة الامام (ع) حيث حظي بإجلال القطاعات الواسعة من الامة وولائها ، والمصادر التاريخية مجمعة على ذلك قال ابن خلكان : لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه ، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه ، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام فنصب له منبر وجلس عليه ينظر الى الناس ، ومعه جماعة من اعيان أهل الشام ، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين(ع) وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً ، فطاف بالبيت ، فلما انتهى الى الحجر تنحى له الناس حتى استلم فقال رجل من اهل الشام من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ؟ فقال هشام لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه اهل الشام ، وكان الفرزدق حاضراً فقال أنا اعرفه فقال الشامي من هذا يا أبا فراس ؟ فقال : 

     هذا الذي تعرف البطحاء وطأته            والبيت يعرفه والحل والحرم

   هذا ابن خير عباد الله كلهم                  هذا النقي التقي الطاهر العلم

   إذا رأته قريش قال قائلها                    الى مكارم هذا ينتهي الكرم

   مشتقة من رسول الله نبعته                   طابت عناصره والخيم والشيم

   هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله               بجده أنبياء الله قد ختموا

  الله شرفه قدماً وعظمة                        جرى بذاك له في لوحه القلم

  فليس قولك من هذا بضائره                  العرب تعرف من انكرت والعجم

  من معشر حبهم دين وبغضهم               كفر وقربهم منجى ومعتصم

  إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم                أو قيل من خير أهل الارض قيل هم

  أي الخلائق ليست في رقابهم                لأولـــية هـذا أو لـه نــعم ؟   

  من يعرف الله يعرف أولية ذا               والدين من بيت هذا ناله الأمم

فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق ، وأنفذ له الامام زين العابدين (ع) اثني عشر ألف درهم ، فردها وقال : مدحته لله تعالى لا للعطاء ، فقال الامام (ع) (( إنا آهل بيتٍ إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده )) فقبلها منه الفرزدق[23] .

   إن هذه الحادثة توضح ان الامام(ع) كان قد حظي بولاء جماهيري حقيقي واسع النطاق ، بشك جعل ذلك الولاء يتجسد حياً حتى في أقدس ساعة ، وفي موقف عبادي مشهود .

   وقد تمكن الامام زين العابدين (ع) بعمله الهادئ والمنظم أن يشرف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الاعداد بكل قوة وبحكمة وبسلامة وجد ، وقد اطلق الامام(ع) نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك ، ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعددة :

الجهاد الفكري والعلمي:

من المعلوم أن الفكر السليم هو أحد مقومات كل حركة سياسية صحيحة ، فتثقيف الجماهير وتوعيتها لتكون على علم بما يجري عليها وحواليها وما يجب لها وعليها من حقوق وواجبات هو الركيزة الاولى لصد الانظمة الحاكمة الفاسدة التي تسعى على طول التاريخ في ابعاد الناس عن الحق والتعاليم الاصيلة .

 وقد قام الامام زين العابدين(ع) بأداء دور مهم في هذا الميدان ، حيث تصدى للوقوف بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث ، فأمر برواية الحديث وحث على ذلك ، وكان يطبق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها ، وقد روي عنه قوله (ع)(( إن افضل الاعمال ما عمل بالسنة وإن قل ))[24]  .

ففي الظروف التي عاشها الامام (ع) حيث كان الحكام بصدد اجتثاث الحق من جذوره وأصوله والذي تمثل في حفظة القرآن ومفسريه ، كانت الدعوة الى الاعتصام بالقران من أهم الواجبات آنذاك ، ولقد قام الامام(ع) بجهد وافر في هذا المجال . فقال (ع) (( عليك بالقرآن فإن الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن فمن قرأ منها قال إقرا وارق ، ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ما خلا النبيين والصديقيين ))[25] .

الجهاد الاجتماعي والعملي :

إن أهم أهداف القادة الالهيين هو إصلاح المجتمع البشري بتربيته على التعاليم الالهية ، ولا بد للمصلح أن يمر بمراحل من العمل الجاد والمضني في هذا الطريق الشائك فعليه :

أن يربي جيلاً من المؤمنين على التعاليم الحقة التي جاء بها الدين والاخلاق القيمة التي ينبغي التخلق بها لكي يكونوا له اعواناً على الخير . أن يدخل المجتمع بكل ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ويبلغهم رسالات الله . أن يقاوم الفساد الذي يبثه الظالمون في المجتمع بهدف شل قواه وتفريغه من المعنويات ، وابعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحق والخير[26] .

     ويمكن  الحديث عن أوجه نشاطه (ع) العملي في الجانب الاجتماعي على عدة أوجه منها :

الاخلاق والتربية ( اتباع اهل البيت(ع) )

ضرب الامام (ع) أروع الامثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة وفي سيرته مع الناس ، بل مع كل ما حوله من الموجودات ، فكانت شخصية الامام(ع) شخصية القائد الاسلامي المحنك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية ، والشرف السامق والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها .

الإصلاح والدولة

لقد شاع عند بعض المؤرخين أن الائمة من أبناء الحسين(ع) قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسية وانصرفوا الى الارشاد والعبادة والانقطاع الى الدنيا .

ويدللون على قولهم هذا بتأريخ حياة الامام(ع) ودعوى انعزاله عن الحياة الاسلامية العامة ، ويبدو ان سبب هذه التصورات الخاطئة لدى المؤرخين هو ما بدا لهم من عدم احتدام الائمة بعد الحسين(ع) على عمل مسلح ضد الوضع الحاكم مع اعطائهم الجانب السياسي من القيادة معنى ضيقاً  لا ينطبق الا على عمل مسلح من هذا القبيل .

ج- مقاومة الفساد     

اذا كان من أهم واجبات المصلح وخاصة المصلح الالهي مقاومة الفساد ومحاربة المفسدين في الارض ، فإن الامام زين العابدين(ع) قام بدور بارز في أداء هذا الواجب ، كما ان الامام (ع) قام بمعالجة بأسلوبه الخاص ، مما اعطاها صبغة فريدة تميزت في جهاد الامام(ع) وأهمها مشكلة الفقر العام ومشكلة الرق والعبيد[27]

  الخاتمة

من بين الامور التي يتوصل اليها الباحث في حياة الامام زين العابدين ( عليه السلام ) هو معاصرته لخلافة معاوية واهم الجرائم التي ارتكبها بالتاريخ . الامتحان الصعب الذي احيط بالأمام زين العابدين من خلال ولاية العهد والظروف التي تمر بها الامة العربية الاسلامية . الدور الريادي الذي ترأسه الامام (ع) من الحكمة والفطنة ساهمت في الوقوف بوجه الحكم الاموي  .   الضغوطات التي واجهت الامام زين العابدين (ع) كان يتعامل معها بالحكمة والموعظة الحسنة . حالة التخبط والفوضى التي مرت بالدولة العربية متمثله بالمدينة المنورة ومكة ساهم بشكل كبير بتدهور الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة .

هوامش البحث ومصادره

 

[1] صحيح مسلم : 7/ 121 .

[2] إثبات الهداة : 2/ 320 حديث 116 .

[3] النور: (24) : 36-37 .

[4] اختيار معرفة الرجال : 1290132ح 207 ، الاغاني : 14/75 .

[5] سيرة رسول الله (ص) أهل بيته (ع) : 2/189

[6] حياة الامام زين العابدين ، دراسة تحليلي : 390

[7] إحقاق الحق : 12/13-16 .

[8] علل الشرائع : 1/269 .

[9] اعلام الهداية : 6/ 48 .

[10] اعلام الهداية : 6/54 .

[11] الكافي : 1/ 242 /3 ، اثبات الهداة : 5/ 214-216 .

[12] الارشاد : 2/ 112.

[13] عبادة الامام زين العابدين : 1/ 45 .

[14] حياة الامام زين العابدين دراسة وتحليل :665 .

[15] اعلام الهداية : 6/ 48 . اعلام الهداية : 6/ 106 .

[16] الاغاني : 8/224 .

[17] العقد الفريد : 3/ 233 .

[18] حياة الامام زين العابدين دراسة وتحليل :667 .

[19] الاحتجاج : 2/147 .

[20] الغيبة للطوسي : 118 .

[21] الارشاد : 2/112 .

[22] الاغاني : 1/55

[23] الشعر والغناء في المدينة ومكة : 250 .

[24] وفيات الاعيان لابن خلكان : 6/ 96 .

[25] تفسير البرهان : 3/ 156 .

[26] بحار الانوار : 46/ 107 .

[27] نزهة الناظر : 45 .

gate.attachment