قصة مُوسى عليه السلام: دراسة تحليلية

تتضمن سورة (المائدة) ثلاث حكايات أو أقاصيص، هي: قصة موسى، وعيسى، وقابيل.

أمّا قصة قابيل فقد تضمّنت حادثة قتله لأخيه هابيل. في حين تضمّنت قصتا موسى وعيسى طرفاً من الحوادث أو المواقف مع قومهما.

وتتصف هذه الحكايات أو الأقاصيص الثلاث، بكونها (حادثة) قصيرة واحدة تعالج موقفاً مفرداً من المواقف: فحكاية قابيل تتناول ظاهرة (الحسد)، وحكاية موسى تتناول ظاهرة (الجبن) الذي طبع قومه، وحكاية عيسى تتناول ظاهرة (التشكيك) الذي طبع أنصاره.

إذن: نحنُ حيال حكايات ثلاث متناسقة من حيث تضمّنها [حادثة واحدة]، وتضمّنها [موقفاً واحداً]:

اقصوصة موسى:

تتناول هذه الحكاية ـ كما قلنا ـ ظاهرة (الجبن) الذي طبع قوم موسى، وما ترتّب على ذلك من حادثة (التيه) المعروفة.

ولنقرأ ـ أولاً ـ نصوص الحكاية:

(وإذ قال موسى لقومه):

(يا قوم: اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً، وآتاكم مالم يؤتِ أحداً من العالمين).

(يا قوم: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم، فتنقلبوا خاسرين).

قالوا:

(يا موسى: إنّ فيها قوماً جبّارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فان يخرجوا منها، فإناّ داخلون).

(قال رجلان من الذين يخافون، أنعم الله عليهما، ادخلوا عليهم الباب، فاذا دخلتموه فانكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).

قالوا:

(يا موسى: إنّا لن ندخلها أبدأ ما داموا فيها، فاذهب أنت وربّك فقاتلا، إنّا هاهُنا قاعدون).

قال:

(ربّ: أنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين).

(قال:

(فإنها محرمةٌ عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض، فلا تأس على القوم الفاسقين).

تلخيص الحكاية:

تقول النصوص المفسرة، انّ موسى ـ عليه السلام ـ عندما عبر البحر مع قومه ـ بعد هلاك فرعون ـ أمرهم الله سبحانه وتعالى بدخول الأرض المقدسة. إلاّ انّ الاسرائيليين جبنوا من الدخول، متذرعين بالخوف من وقوع نسائهم وأهاليهم غنيمةً بيد الأعداء. وقد بلغ بهم الأمر انهم أرادوا أن يفتكوا بشخصين من الأشخاص الذين بعثهم موسى لاستطلاع الخبر من البداية وأمرهم بكتمان الأمر، بيد ان الخبر قد انتشر بينهم نتيجةً لعدم التزام الأغلبية بتوصية موسى.

وحيال هذا الموقف، إغتاظ موسى ـ عليه السلام ـ وخاطب الله سبحانه وتعالى بأنه لا يملك إلاّ نفسه واخاه هارون، فاجابته السماء: بانهم سيبقون في (التيه) أربعين سنةً، جزاء لموقفهم الجبان.

وقد تمثل هذا الموقف المتّسم بالجبن في ادعاء الاسرائيليين بانّ في الأرض المقدسة قوماً جبارين، وبانهم لن يدخلوها ما دام الجابرون قائمين فيها، ثم مطالبتهم موسى بأن يقاتل والسماء وحدهما، ويقعدون هم عن القتال.

ويلاحظ انّ الشخصين اللذين أراد الاسرائيليون الفتك بهما قد رسما ـ بناءً على توصية موسى ـ خطة الهجوم، وهي: الدخول من باب المدينة، وإلى أنّ النصر سيكون حليفهم إذا ما التزموا بهذه التوصية. إلا انّهم مع ذلك، آثروا القعود على الجهاد. ثم كانت النتيجة: حادثة (التيه) أربعين عاماً.

ويهمنا من هذا التلخيص أن نعرض للقيم الفنية التي تضمنتها الأقصوصة المذكورة: من حيث بناؤها وشخوصُها، ونمط السرد والحوار فيها، فضلاً عن الموقف والحدث والبيئة التي رافقتْها.

أ ـ المواقف

قلنا، ان ظاهرة (الجبن) هي الموقف الرئيسى لهذه الأقصوصة.

وقد القى النص جملةً من الأنوار عليها، بغية إضاءة هذا الموقف، وحمْل المتلقي على القناعة التامة الذي بالمصير آل الاسرائيليون إليه.

وتتمثل هذه الإضاءةُ في انّ النص قد ذكّر الإسرائيليين أولاً بنعم السماء عليهم، فقال تعالى:(اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء وملوكاً، وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين).

إنّ التذكير بهذا العطاء الضخم ينطوي على أهميةٍ كبيرة إذا أخذنا بنظر الإعتبار انه تذكيرٌ ينسجم أولاً مع تطلّعاتهم الاجتماعية [البحث عن المجد] وثانياً: مع طبيعة المصير (التيه) الذي آلوا إليه، وهو مصيرٌ مضاد لتطلعاتهم تماماً. أي: ان النص رسم ظاهرتين متقابلتين: إحداهما تضاد الأخرى تماماً:

الأولى: هي التذكير بالأمجاد، والثانية هي: محوها تماماً.

أهميتها على مدى الايمان بالسماء والتوكلّ عليها في انتزاع النصر.

لقد شدّد البطلان النقيبان على قضية (التوكّل) على الله، حينما خاطبا الجماهير بقولهما: (ادخلوا عليها الباب، فإذا دخلتموه فانكم غالبون. وعلى الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين).

وواضحٌ، ان الالتزام بهذه التوصية، يُلقي انارته الكاملة على الموقف، بحيث يصحّ القول بانّ نهاية القصة يتم حسمها بقدر الالتزام وعدمه بالتوصية.

وفعلاً، كانت النهاية نهاية قاتمة هي (التيه) الذي وقع الاسرائيليون فيه، حينما رفضوا الدخول إلى المدينة.

وهذه الحقيقة تذكّرنا بما سبق أن قلناه، بان الدور الثانوي للبطلين النقيبين ألقيا إنارة تامة على الموقف في القصة.

ونحن إذا تركنا هذين البطلين، واتجهنا إلى الأبطال الآخرين في القصة، واجهنا حينئذٍ شخصية هارون. وهي بدورها شخصية ثانوية موظفة لانارة الموقف، إلاّ انها في هذه القصة لم يرسم النص القرآني لها دوراً محدداً كما هو شأنها في الأقاصيص الأخرى لموسى عليه السلام، بل اكتفى النص هنا، برسمها مجرد معينٍ لموسى في صراعة مع القوم، حيث خاطب موسى السماء بانّه لا يملك إلاّ نفسه وأخاه في هذه المواجهة.

وينبغي في ضوء هذا أن نستنتج أنّ النص لم يذكر إسم هارون عبثاً، بل إنّ رسمها ـ ولو عابراً ـ انما ينطوي على حقيقة فنية وموضوعية، تُلقي باضوائها أيضاً على أحداث القصة ومواقفها. وهذه الإضاءة تتمثل في أنّ القتال سوف لن يتم أبداً ما دام موسى لم يجمع أنصاراً يجابه بهم مدينة الجبارين. وبكلمة أخرى: ان مجرّد وجود هارون إلى جانب موسى لم يكن كافياً للدخول الى المعركة، بل لا بدّ من وجود جمهور من المقاتلين لتحقيق الهدف العسكري.

إذن: جاء الرسم لشخصية هارون، نقطة إضاءة ترهص بالنتيجة التي سيؤول إليه مصير المواجهة: ألا وهو عدم الدخول في المعركة.

وقد عزّز ذلك كلّه مطالبة موسى السماء بأن تفرق بينهما وبين القوم الفاسقين: (قال رب: اني لا أملك إلاّ نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين).

إن هذه المطالبة بالفصل بينه وبين الاسرائيليين، تدلنا أيضاً على النتيجة التي يمكن التنبؤ بها من حيث مصير المعركة، بنحو ينسجم مع الاشارة إلى ان موسى لا يملك أنصاراً سوى أخيه في المواجهة.

أخيراً، نواجه الأبطال الرئيسيين في هذه الأقصوصة، وهم: موسى والاسرائيلين. فما هو دور موسى أولا؟

إن دوره يتمثل في موقفين هما: تذكيره قومه بنعم الله عليهم على نحوما فصلنا الحديث عنه. ثم دعاؤه بهلاك قومه.

أما دور الإسرائيليين فانه يجّسد عَصَب الأقصوصة، لقد قدّموا جملةً من التبريرات التي تقصح بأجمعها عن (الجبن) الذي يسم شخصياتهم.

لقد ادّعوا انهم لا يستطيعون الدخول في المعركة، لأنّ أقوامها جبارّون. وتقول النصوص المفسّرة أنّ أقوام الأرض المقدسة كانوا يتميزون بضخامة الأجسام وعظم الشأن الى الدرجة التي نثروا من خلالها الأثني عشر نقيباً بين يدي مليكهم حتى يحسسوهم بمدى قوتهم.

بيد ان مجرد كونهم قوماً جبّارين، لا يشكّل مسوّغاً للتخوف منهم، وبخاصة انّ الرجلين المؤمنين رسما للاسرائيليين خطة الهجوم من باب المدينة، وأكدّا نجاح المعركة في حالة الالتزام بهذه الخطة. وفضلاً عن ذلك فانهما ربطا قضية النصر بالسماء، وطالبا بالتوكّل على الله في هذا الصدد.

ومن الواضح، أن التردد في دخول المعركة، مع هذا التأكيد على نصرة السماء، إنما يفصح عن انّ الاسرائيليين أساساً لم يملكوا يقيناً حاسماً بالسماء بقدر ما يتميزون بالجبن، وهو الطابع الذي يَسمُ شخصياتهم، ويفسر كل معالم سلوكهم.

ويمكننا ملاحظة ذلك في طبيعة الجواب الذي قدموه بعد الاستماع إلى الرجلين، حيث خاطبوا موسى بقولهم: (يا موسى انا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون).

إن هذه الاجابة تكشف، عن ان الاسرائيليين، كانوا مصرّين منذ البداية على عدم الدخول الى المعركة، حتى بعد تطمينهم بانّ النصر سيكون حليفهم في حالة توكلّهم على الله والالتزام بالخطة التي رُسمت لهم: الأمر الذي يكشف أولاً عن عدم يقينهم بالسماء، وعن الطابع الجبان لشخيصاتهم ثانياً.

جـ ـ الأحداث:

قلنا: ان أقصوصة موسى تنطوي على حدث واحد هو (التيه).

ونحن بعد أن لحظنا موقف الشخصية الاسرائيلية من دخول المعركة إلى الدرجة التي تجرأوا فيها على السماء، وعلى موسى من خلال قولهم: (اذهب أنت وربّك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون).

حينئذٍ، نتوقع نوع المصير الذي سيواجههم، بحثيث ينسجم مع طبيعة موقفهم المتجريء الجبان.

وهنا تمت كلمةُ السماء الحاسمة، ورسمت المصير الأسود لهم، قائلةً: (فانّها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلا تأس على القوم الفاسقين).

وهكذا، بدأت حادثة (التيه): فظلوا أربعين عاماً يهيمون على وجوههم يرتحلون من مكان لآخر، ما أن تستوي بهم الأرض حتى تدوربهم من جديد إلى نفس المكان الذي انطلقوا منه.

 

الدكتور محمود البستاني / مع التصرف

_____________________________________

 

 

gate.attachment