لمحات تاريخية من قصة النبي سليمان "عليه السلام" في القرآن الكريم

من المعروف ان الكثير من قصص الانبياء "عليهم السلام" وصل اليها التحريف والتزوير ونسب المعصية الى الانبياء مما يتعارض مع الهدف السامي الذي جاء به كل نبي، الا ان القرآن الكريم قد ترفع عن كل ما يقلل من شان القصة، حيث امتازت قصصه بــ" الموضوعية والواقعية، وتصحيح التحريف، والايجاز في سرد القصة" على الرغم من تلك الامتيازات فهي تحتاج الى من يوضحها ويزيل عنها التشكيك والشبهة والمتمكن من ذلك هو القرآن الكريم، والائمة اهل البيت "عليهم السلام" .

قد اثيرت بعض اشكالات وشبهات حول شخصية النبي سليمان "عليه السلام" كان الهدف منها هو التقليل من شأنه، وكان من تلك الشبهات هي سعة ملكة، وان وزيره كان اعلم منه، وبالاضافة الى اتهامه بالظلم والرفاهية... وغيرها ومن الشبهات. اذن كيف كانت سيرته بالنسبة للقرآن الكريم؟. وما هي الفتنه التي امتحن بها النبي سليمان "عليه السلام" وطلبه الملك الذي لا نظير له؟. وما هو موقف ائمة اهل البيت "عليهم السلام" من تسخير الجن لسليمان "عليه السلام"؟  سنحاول ان نسلط الاضواء على بعض تلك الأسئلة بايجاز.

اولا: نشأة النبي سليمان وصفاته.

عاش النبي سليمان في كنف ابيه النبي داود "عليه السلام" حيث تلقى من نبع النبوة هديها، ومن عين الصلاح سمته واثره، اذ نرى القرآن الكريم معتبراً اياه نعمة وهبة من الله سبحانه وتعالى على داود "عليه السلام"  بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ  نِعْمَ الْعَبْدُ  إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾([1]) والتعبير القرآني﴿ وَوَهَبْنَا﴾ اي انها هبه من الله  لنبي داود ان رزقه هذا الابن البار ([2])،  ثم يؤكد بقوله ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ  إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ اي انه مدحة الله تعالى بالعبودية، وهي مرتبه عظيمة، ووسام شرف، والمراد بقوله تعالى ﴿ أَوَّابٌ﴾ ارجاع عن كل ما يكره الله الى ما يحب([3])، كما اتصف النبي سليمان بعدّه صفات كان من ابرزها انه ورثه الله تعالى ميراث ابيه، وعلمه الله سبحانه لغة الطيور([4]) ، فبين ذلك الله تعالى في قوله بسم اله الرحمن الرحيم ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ  وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ  إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾([5]) وبذلك فقد ورث سليمان وراثة المال والعلم والنبوة والملك([6]) .

ثانيا: الفتنة التي امتُحن بها النبي سليمان "عليه السلام"

الفتنة: هي البلاء والله تعالى يبتلي الانبياء والاولياء لترفع درجاتهم عنده، وتسمو منازلهم لدية، وليتعلم الناس منهم الصبر، وذلك افتتان النبي سليمان "عليه السلام" من قبل الباري "عز وجل" بإلقاء جسداً لأنسان ميت على كرسيه في قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾([7])، اذن من هي هوية ذلك الجسد الملقى ميتاً؟ وما هو سبب ذلك الامتحان؟ فقد روى الطبرسي عن ابي عبد الله الصادق "عليه السلام" )) أن الجن والشياطين لما ولد لسليمان "عليه السلام" ابن قال بعضهم لبعض:إن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء، فأشفق "عليه السلام" منهم عليه، فاسترضعه في المزن وهو السحاب، فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا، تنبيها على أن الحذر لا ينفع عن القدر، وإنما عوتب "عليه السلام" على خوفه من الشياطين)). فبين الشيخ الطوسي في بيان معنى قولة تعالى ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾اي اختبرناه وابتليناه وشددنا المحنة عليه([8]) واما قوله تعالى ﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ فانتقد الشيخ الطوسي اقوال جملة من المفسرين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ السدي في تفسيره للآية الكريمة ([9]) حيث اكد الشيخ الطوسي ان الله نزه الانبياء عن القبائح ونزه الله تعالى عن مثل ذلك وهو انه لا يجوز ان يمكن الله تعالى جنياً ليتمثل في صورة نبي لما في ذلك من الاستيعاد، وان النبوة لا تكون في الخاتم وانه سبحانه وتعالى لا يسلب النبي نبوته، وليس في الآية شيء من ذلك، وانما قال فيها انه القي على كرسيه جسدا.  قيل في معنى ذلك الجسد، " ان النبي سليمان قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير لأطوفن الليلة على مئة امرأة تلد كل امراه منهن غلاما يضرُبُ بالسيف في سبيل الله، وكان له في ما يروي عدد كبير من السراري، فاخرج الكلام على سبيل المحبة، فنزهه الله عما ظاهره الحرص على الدنيا، لئلا يقتدي به في ذلك، فلم يحمل من نسائه الا امرأة واحدة ولداً ميتاً، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح، تنبيها له على انه ما كان يجب ان يظهر منه ما ظهر، فاستغفر الله وفزع الى الصلاة والدعاء على وجه الانقطاع..."([10]).   

 ثالثاً: تسخير الجن لنبي سليمان "عليه السلام"

كان النبي سليمان "عليه السلام" يستخدم بعض من الجن بأمر الله سبحانه وتعالى، من اجل انجاز اعمال مهمه تساهم في ازدهار مملكته وصولا لأهدافها الالهية وخدمة للفقراء والمساكين، فاستخدم البعض من الجن لما كانوا يتمتعون به من قدرة هائلة على التحرك والانطلاق والمهارة العالية في الاداء، فكان من الاعمال التي قاموا بها هي تشييد الابنية الحصينة وعمل التماثيل... وغيرها من الاعمال ([11]) حيث اكد القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ﴾([12]) فقد روي عن الامام الصادق "عليه السلام"  روايات كثيرة مما يؤكد عمل ان البعض من الجن كان يعمل بين يدي النبي سليمان([13])، بينما يذهب الشيخ الطوسي في تفسيره للآية القرآنية الكريمة ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ﴾ ان كلمة " التماثيل" المقصود منها هي جمع تمثال وهو صورة فيؤكد انهم كانوا يعملون اي صورة ارادها سليمان([14]) اما السيد الطباطبائي يوضح ان المراد من " التماثيل " المذكورة في الآية الكريمة هي الصور المجسمة من الشيء([15])، وقد اتفق الطباطبائي مع الشيخ الطوسي في التفسير والرأي.

وعليه ان النبي سليمان كان يستخدم الشياطين والجن لإعمال البناء والغوص لاستخراج ما في البحار من نفائس كاللؤلؤ والمرجان([16])، حيث اشار القرآن الكريم بقولة تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾([17])، هنا يبين الشيخ الطوسي في تفسيره للآية المباركة، بان النبي سليمان "عليه السلام" سخر له الشياطين يبنون له الابنية العجيبة التي يعجز الانسان عن مثلها. ويغوصون له بنزولهم في ماء البحار والانهار حسب ما يريده منهم ليستخرجوا له الحلى منها([18]).

رابعاً: النبي سليمان "عليه السلام" وجنوده في وادي النمل

عندما جاء النبي سليمان وجنوده الى وادي النمل، سمع النبي "عليه السلام" بأعجاز الهي قول النملة وهي محذرة النمل ان لا يحطمنهم سليمان وجنوده من غير قصد، فعندما سمع قولها وتبسم فرحاً بما مكنه الله تعالى من معرفة قول النملة وغيرها من الحيوانات، فطلب من الله تعالى ان يمن عليه بتمكينه شكر النعمة التي افاضها عليه وعلى والديه وان يعمل صالحاً يرضاه لابيه وان يدخله في رحمته، حيث قال الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾([19]) يوضح الشيخ الطوسي في بيان لقولة تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ ان معرفة النمل بسليمان كانت عن طريق المعجزة الخارقة، وقولة في ﴿ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ﴾اي يكسرنكم بان يطأكم عسكره ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ اي لا يعلمون بوطئكم، فلما فهم النبي سليمان "عليه السلام" هذا الكلام تبسم﴿ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا﴾. ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ اي الهمني ما يمنع من ذهاب الشكر عني بما انعمت به علي وعلى والدي ووفقني ان ﴿ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾([20])،  وعليه ان معرفة النملة بالنبي سليمان "عليه السلام" معرفه اعجازية لم تكن كمعرفتها طريقة حفظ غذائها من التلف، فلو لم تكن من الاعجاز كيف عرفت المار على مقربة منها هو النبي سليمان وتحديدها من معه بانه جنوده، بالإضافة الى ذلك التحذير كان يدل على مستوى عالٍ للغة التعبير بدليل قوله الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

جعفر رمضان

 

([1]) سورة ص: الآية 30

([2] ) عبد الكريم القشيري، لطائف الاشارات، ج3، ص253.

([3]) علي محمد علي وخيل، قصص القران الكريم، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1999 )، ص232.

([4]) جعفر السبحاني، القصص القرآنية، (بيروت : دار جواد الائمة، 1428ه)، ج2، ص263

([5]) سورة النمل: الآية 16.

([6]) محمد بن الحسن الطوسي، التبيان  في تفسير القران، تحقيق احمد حبيب قصير العاملي، ( بيروت:  دار احياء التراث،1409) ج8، ص82.

([7]) سورة ص: الآية 34

([8])محمد بن الحسن الطوسي، ص 360.

([9] )يقول الشيخ السدي في بيان قوله تعالى ﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾  كان اسمه خنفيق وكان ملكه في خاتمه يخدمه الجن  والشياطين وما دام في يده، فلما اذنب سليمان نزع الله منه الخاتم، وجعل مع الجني فاجتمعت عليه الجن والشياطين...  وقوله تعالى ﴿ ثُمَّ أَنَابَ﴾ يعني تاب الى الله من خطيئته، فرد الله عليه الملك لان الجني لما اخذ خاتمة رمى به في البحر فرده عليه  من بطن سمكة. للمزيد من التفاصيل ينظر :  اسماعيل بن عبد الرحمن السدي،  تفسير السدي، (دار الوفاء للطباعة والنشر، 1993)، ص 562

([10] ) محمد بن الحسن الطوسي، المصدر السابق، ص563.

([11])احمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، تحقيق، جلال الدين الحسيني،( طهران، دار الكتب الاسلامية، 1370ه)، ص 618.

([12]) سورة سبا: الآية 13.

([13] )  للمزيد من التفاصيل ينظر : محمد بن حسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، تحقيق : مؤسسة آل البيت "عليهم السلام" لأحياء التراث، ط2، (قم: مهر، 1414ه)، ص304.  ؛الفضل ابن الحسن الطوسي، مرآة العقول في شرح اخبار آل الرسول، تحقيق: جعفر الحسيني، ( طهران: خورشيد، 1411ه)، ص439.

([14]) محمد بن الحسن الطوسي، المصدر السابق، ص383.

([15])محمد حسين الطباطبائي،  الميزان في تفسير القرآن ،ص 363

([16]) جعفر السبحاني، المصدر السابق، 282

([17]) سورة ص: الآية 37.

([18]) محمد بن الحسن الطوسي، المصدر السابق، ص565.

( [19] ) سورة النمل : الآية 18-19

([20]  ) محمد بن الحسن الطوسي، المصدر السابق،ص84.

gate.attachment