النص الكامل للخطبة الثانية لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 22 ذي القعدة 1437هـ الموافق 26 آب 2016م

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إنما اهلك الذين قبلكم ؛ انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد" .

وهذه الرواية تتحدث عن واقع الامم السابقة التي كانت تفرّق في تطبيق القانون الذي يراد من خلاله تحقيق العدالة بين الناس حتى يأخذ كل ذي حق حقه ويعاقب الشخص الذي ينحرف عن خط العدل ويتخلف عن القانون مهما كان موقعه وصفته في المجتمع .

فهذه الأمم قد بادت واندثرت حينما كان الشريف فوق القانون ويقصد به هنا الشخص الذي يتميز في المجتمع بموقع اجتماعي او ديني او عشائري او اقتصادي او سياسي ، حينما يعيش الناس الطبقية الاجتماعية فيميزون بين من يسمون بأصحاب الطبقات الرفيعة وبين اصحاب الطبقات الدنيا ، فكان أولئك اذا سرق فيهم هذا الشريف سواء كانت سرقته من الاموال العامة او كانت سرقته تتصل بالناس من حوله من الضعفاء الذين قد يأكل اموالهم بالباطل مستغلا موقعه فاذا ذهب هذا الضعيف ليشكو أمره الى الجهات المسؤولة لم يعبئوا به او وجدوا له مخرجا وتركوا هذا السارق او المختلس ولم يعاقبوه وجعلوه فوق القانون عندهم ـــ وإما اذا سرق الضعيف وربما قد سرق ليأكل او ليلبس او ليشتري دواء لنفسه او لعائلته او ليعتاش بها ـــ طبعاً لا نبرر السرقة مهما كانت دواعيها ولكن الغرض انها قد لا تكون لمحض الجشع والرغبة في الاستحواذ على مزيد من الأموال ، فإذا سرق الضعيف فان كل قوة القانون تتوجه اليه ويطبق عليه بحذافيره فهؤلاء الذين بيدهم تطبيق القانون او يجلسون في مواقع القضاء ومواقع السلطة والحكم يراعون هذا الشريف او يخشون سطوته او يخشون في ايامنا حزبه او جماعته المسلحة ولكنهم لا يراعون هذا الضعيف ولا يخشونه لأنه لا سطوة له فيطبقون عليه القانون ويعاقبونه .

هذا ضرب من الظلم الذي قال الامام عليه السلام في كلمة له (( الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم )) ، وهذا ما يجعل المجتمعات تفقد قوامها وتوازنها وعندما يتعاظم فإنه سيؤدي الى تدمير المجتمع بتفشي الجريمة وانتهاك القانون ومن ثمّ شيوع الفوضى والاضطراب والدمار .

وقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤكد ان خط العدل يجب ان لا يعرف ضعيفاً او قوياً ولا شريفاً او حقيراً  .

وفي أيامنا هذه ؛ يجب ان لا يعرف حزبياً ولا غير حزبي ولا منتميا لجماعة مسلحة ولا غير منتم ٍ اليها ولا محسوباً على تيار او حزب سياسي ولا غير محسوب عليهما ، وهذا ما أكده القرآن الكريم عندما دعا المؤمنين الى ان يتحركوا بالعدل حتى ضد الأقربين .

قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )) ( النساء ـــ 135 ) .

قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) ( المائدة ـ 8 ) .

ونقرأ ايضاً في بعض كلمات امير المؤمنين عليه السلام وهو يتحدث الى بعض عماله كما ورد في نهج البلاغة : (( والله لو ان الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة )) .. يريد ان يبين امير المؤمنين عليه السلام أن الحق والعدل يجب ان لا يفرق فيه بين الناس ولا يميز حتى ابناء الحاكم والمنسوبين اليه بل هم اولى من غيرهم بتطبيق القانون عليهم .

وعلى ضوء ذلك فإن المطلوب منا ان نعيش هذا المبدأ الاسلامي القانوني من تطبيق العدل مع الجميع لأن في ذلك حماية للمجتمع والدولة معاً ـــ ولكي نتمكن ان نصنع مجتمعاً عادلاً ودولة عادلة ـــ ونلاحظ ان الكثير منا قد يطلبون العدل من الاخرين ويلعنون الظالمين ولكنهم لا يعدلون مع الاخرين من ابناء مجتمعهم ولا مع زوجاتهم وأولادهم وأشدهم خطرا الحكام في عدم عدلهم مع رعيتهم ولذلك ورد عن الامام الصادق عليه السلام حينما قال لبعض أصحابه : (( واعدلوا فأنكم تعيبون على قوم لا يعدلون )) .

وهنالك كلمة اخرى لأمير المؤمنين عليه السلام قال فيها : (( إنما اهلك من كان قبلكم انهم منعوا الناس الحق فاشتروه وأخذوهم بالباطل فأقتدوه )) ، قال بعض الشّراح فاشترى الناس الحق منهم بالرشا والأموال أي لم يضعوا الأمور مواضعها ولا ولوا الولايات مستحقيها وكانت امورهم تجري على وفق الهوى والاغراض الفاسدة فاشترى الناس منهم الحقوق كما يشترى السلع بالأموال !! واخذوهم بالباطل أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف فاقتدوا بآبائهم وأسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل ظناً منهم انه حق لما قد ألفوه ونشأوا عليه .

فالمقصود ان في المجتمعات التي سبقتكم كان الحكام والذين بيدهم السلطة السياسية والاجتماعية او القضائية او المالية ، والذين كانت بيدهم حقوق الناس في قضاياهم المتصلة بأرزاقهم وبسائر امور حياتهم والتي من المفترض ان يؤديها هؤلاء الحاكمون اليهم دون أي مقابل بل هي واجبهم كانوا يمنعون الناس حقهم مما يضطرهم الى ان يدفعوا الرشوة للحصول عليها او يجاروا الحاكم في سياسته او يخدمونه ولو بالانتماء الى حزبه وجماعته حتى يستحصلوا حقوقهم ، ومن أمثلة ذلك في زماننا ما اصبح امراً ثابتاً في معظم الدوائر الحكومية من انه لا تعيين في الوظائف الا بدفع المال فمن يريد التعيين فيها وهو حقه بموجب القانون لا يجد بداً من ان يدفع مبلغاً بمئات الالاف او بالملايين حتى يتعين ، هذا أنموذج من منع الحاكم الناس حقوقهم فيضطرون الى شرائها بالرشا، أي فساد هذا ؟ ان يشتروا الحق الذي هو حقهم الذي فرضه القانون لهم .. ان يشتروه بالمال !!! .

لقد أصبح هذا الطريق أي الحصول على الحق بالرشوة او الانتماء السياسي وغيره هو الطريق الذي لا محيد عنه للفقراء والبسطاء من الناس الذين لا ينتمون لخط احزاب السلطة واصحابها وليسوا من المقربين لهم سياسيا او عشائريا او مناطقيا او غير ذلك ، وما نلاحظه في ايامنا هذه من استشراء الفساد والتواطؤ على الغض والسكوت عما يمارسه من ذلك اصحاب الجاه والسلطة وانزال العقوبات الشديدة لصغار السراق والمختلسين وترك الكبار منهم يسرحون وينهبون كيفما يحلو لهم ، هو ما حذّر منه الامام عليه السلام في الكلمة التي نقلناها وهو نذير بين يدي بلاء لا يعلم مداه الا الله تعالى .

نسأل الله تعالى ان يعصمنا من الزلل والخطأ في القول العمل ويصلح احوالنا وينبهنا من غفلتنا انه سميع مجيب .

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

gate.attachment