التباكي في تراجيديا كربلاء (حقيقته ومشروعيته)

تمهيد

يُعدّ تهييج المشاعر والعواطف لدى عامّة الناس أحد المهارات والفنون التي يتبارى في إجادتها المتخصّصون، وحلماً يصبو إليه أصحاب الفنّ والتمثيل؛ فترى الممثلين والفنّانين في ميدان المسرح والأداء التمثيلي يبذلون قصارى جهدهم في سبيل جذب أنظار الحظّار والمشاهدين من هواة الفنّ والمسرح، ويبحثون عن المحترفين في هذا المجال؛ كي يتعلّموا على أيديهم الطرق والأساليب التي تُسهم في إنجاح أعمالهم المسرحية والتمثيلية ورواجها بين الناس، وهذا الجهد يمتد على مستوى التحصيل التنظيري باتّباع الطرق والأساليب النافعة وأخذها من متخصّصين لهم باع طويل في هذه الفنون، وفي المستوى العملي والتطبيقي أيضاً؛ إذ قد يتطلّب الأمر من فنان أو ممثل ـ يُعدُّ بين الناس شهيراً له صيت في مجاله ـ تكرار دوره الذي يُطلب منه أداؤه أمام جماهير المسرح مرات عديدة، ومن دون أيّ كلل أو ملل، وكذا الحال بالنسبة إلى الأُدباء والشعراء في ميدان الشعر والأدب، فيتّبعون الطريقة نفسها في تعلم المفاتيح التي تفتح الآفاق أمام دربهم بغية التألِّق والنجاح في مجالهم من بين أقرانهم، سواء على المستوى التنظيري أم العملي؛ إذ يجهد بعضهم نفسه أيما جهد حينما يسطِّر بيتاً من الشعر يُراد منه تصوير موقف حماسي أو مشهد من المشاهد المفجعة والمؤلمة أو غيرهما، وقد يصل الأمر بهم في أحيان كثيرة إلى تصعيدٍ في الألفاظ يفوق الحدّ، ويعجز عنه التصوير والوصف؛ بغية إيصال الفكرة التي يريد عرضها وجذب أسماع وأنظار هواة الشعر والأدب إليها.

وعلى هذا الأساس؛ يتفاوت أصحاب الفنّ الواحد في النجاح والخيبة؛ فيبرز من بينهم بعض ويعلو صيته بين الجمهور بروزاً وتألّقاً لا نظير له، ويحظى بشعبية كبيرة من بين أقرانه، بينما يبوء بعضهم الآخر بالفشل الذريع وخيبة الأمل؛ إذ يجد نفسه غير مؤثِّر في جمهوره.

 

وهكذا يُقاس الأمر في تسطير المقطوعات النثرية والأدبية، والأداء الخطابي وغيره، فيؤتي جهد بعضهم أُكُلَه؛ إذ يمتاز باختيار المفردات والعبائر التي تأخذ بأسماع الجلساء والحظّار أو القرّاء من دون إذنهم، حينما تَطرُق آذانهم كلماتٌ لها ما لها من المداليل الوضّاءة، والتي تُبيِّن بعضها الحدث بأكبر من حجمه الحقيقي، أو فيها من المبالغة الجميلة المسموح بها في مجال الأدب العربي، فعندما يُعبِّر بعضهم عن خسّة الموقف ودناءة نفوس أصحابه بقوله: «يندى له الجبين»، أو عندما يريد وصف فظاعة الحدث الذي يُراد ذكره بقوله: «يقرح القلوب»؛ تأخذ هذه الكلمات وقعها في نفوس السامعين، وهذا النمط من التوصيف وإبراز الحدث له مميزاته الإيجابية، ويسجِّل لصاحبه نقطة قوّة ومحسّناً من المحسنات المهمّة في أدائه، وليس فيه مشكلة بحدّ ذاته.

إلّا أنّ ما يتركه من أثر سلبي ـ مع مسامحة واضحة في نسبة هذا الأثر إلى الأُسلوب والاستخدام المذكور ـ هو ما قد يحدو بقرّاء النصوص أو مَن يستمع إلى مَن يُلقي كلاماً بين الناس إلى تصوّر التصعيد والمبالغة في كلّ كلام مكتوب أو مقروء، وحمله على عدم الحقيقة والواقعية، ظنّاً بأنّه نمط من أنماط الفنون التي يشدّ المتكلِّم أو الكاتب من خلالها الناس إليه والتفاعل مع الحدث الذي يصوره، وهكذا ترسّخ في أذهان الكثير أنّ ألفاظاً ومفردات ساعدت في توصيف الصورة بأفضل ما يمكن أن يكون، مع أنّها ليست واقعية بالحرفية المطلوبة منها، فيفسر ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا»([1])، أو ما ورد في زيارة الناحية المقدّسة: «فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً...»([2])، وغيرها من النصوص الواردة في التراث الديني، على أنّها إنّما استخدم فيها الأئمّة عليهم السلام أُسلوب المبالغة والتصعيد، ولم يقصدوا منها معناها الحقيقي، من دون تتبّع لحقيقة أمرها.

 

جدلية التباكي في المآتم الحسينيّة

إنّ مفردة التباكي هي إحدى المفردات التي تصوّر بعضهم أنّها مفردة استخدمت ووظفت لجذب قلوب الجمهور الديني، وأنّها من النمط التصعيدي أيضاً، مع أنّ القارئ يجد أنّ هذه المفردة من المفردات التي كان لها حضورها الحافل في نصوص شرعية معتبرة وكثيرة، تحدّث فيها الأئمّة عليهم السلام عن التفاعل والتعاطف مع الحدث الفجيع والمأساة المؤلمة في واقعة الطف، أو ما يُعبَّر عنه في المصطلح الحديث بـ(تراجيديا كربلاء)، قد جُعلت نوعاً من أنواع التأثّر الذي تترتّب عليه الآثار الوضعية فيما لو سعى المكلَّف لتحصيله؛ حيث إنّ الروايات الكثيرة التي أطلقها أئمّة أهل البيت عليهم السلام في هذا الحقل دلّت بما لا مزيد عليه من الوضوح على أنّ مَن بكى أو تباكى فله الجنّة على حدّ تعبيرهم عليهم السلام([3]).

وقد كثرت التساؤلات في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعد الانفتاح العلمي والتواصل الفكري عبر المواقع الإلكترونية؛ وما ذلك إلّا لأنّ أذهان بعض مَن تطلَّع إلى هذا اللفظ تصور أنّه تعبير أدبي بُولِغ فيه للتعبير عن حصول الثواب لمَن يقيم المآتم على سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

ولهذا السبب كانت المفردة آنفة الذكر جديرة بالبحث والتثبّت من أمرها؛ كي يستبين لنا المراد من استعمالها، وهل أُريد منها التحشيد لأجل إحياء شعائر كربلاء المتوقفة على التفاعل الجماهيري، أو أنّه فعل من الأفعال التي تصدر من الإنسان فيترتّب عليها نوع من الآثار الخاصّة حقيقة؟

 

المعاجم اللغوية والغموض في معنى التباكي

عندما يمرُّ الباحث في كتب اللغة يجد أنّ معنى التباكي غير واضح المعالم فيها؛ إذ إنّ ما ذُكر فيها هو أنّ التباكي: «تكلَّف البكاء» على ما جاء في صحاح الجوهري([4])، وقد اكتفى بهذا التعبير بعض أئمّة اللغة الذين جاءوا بعده([5])، من دون تفسير أكثر لذلك، وهذه العبارة بحدّ ذاتها لا تفسِّر لنا حقيقة التباكي، وإنّما تُبيِّن أنّ صاحبها يجتهد ويسعى لتحصيل البكاء وإسكاب الدموع فقط، ولم تدلّ على النتيجة التي ينتهي إليها الفعل نفسه، فهل يُراد منه أنّ تكلّف البكاء وتصنُّعه من دون حصوله وتحقّقه الفعلي كافٍ في صدق التسمية عليه، أو أنّه يعتبر أُسلوباً من الأساليب التي تؤدّي إلى حصول البكاء؟

فيما يذكر الطريحي ـ في أحد الأقوال التي ينقلها نسبه إلى قائل مجهول ـ أنّ التباكي نوع آخر لا يوصل صاحبه إلى حصول البكاء ولا يجهد الإنسان فيه نفسه ويكلّفها لذلك، بل عندما يؤمر أحدهم بالتباكي، فكأنّما يقال له: لا تتكلّف البكاء، فيقول: «وتباكى الرجل: تكلَّف البكاء. ومنه: إنّ لم تجدوا البكاء فتباكوا. وقيل: معناه لا تُكلَّفوا البكاء»([6]). بمعنى أنه متى ما تعسّر البكاء على الإنسان يكفيه التظاهر بالبكاء فقط.

إذن؛ مَن يراجع كلمات أئمّة اللغة يجدهم ـ وإن لم يحصل الاختلاف الكبير بينهم في تحديد معنى التباكي ـ إلّا أنّهم لم يتّفقوا على إعطاء معنى محدد وموحد في هذا اللفظ، أي: لم يذكروا معنى واضح المعالم.

نعم، إنّ نقطة الالتقاء في كلماتهم هو عبارة «تكلُّف البكاء»، عدا ما ذكره الطريحي ناسباً إياه إلى القيل.

 

التباكي في الشعر العربي

يظهر من بعض الأبيات التي قالها الشعراء من مختلف المذاهب والمشارب، أنّ معنى التباكي هو التصنُّع والتمظهر بمظهر الباكي الحزين؛ إذ يقول بعضهم:

       صه يا حمام فلست المشوق                 ولا بـات حـالك فـيها كـحـالي

       فما مَن تباكى كـما مَن بكي                                 ودمع الأسى غير دمع الدلال([7])

ويقول آخر:

       قـد قـلت للورقاء لما أن غدت          تُبدي الأسى بالنوح والترجيع

       ما مَن تباكى مثل مَن يبكي دماً        فضح التطبّع شيمة المطبوع([8])

فالواضح من استعمالهم هذا أنّهم فهموا أنّ المتباكي يتظاهر بالبكاء أمام الآخرين، لا أنّه يبكي حقيقة.

 

الاختلاف في التعريف الاصطلاحي لمعنى التباكي

بما أنّ المعنى اللغوي للتباكي ـ والذي فُسِّر بتكلُّف البكاء ـ غير محدد بمعنى متّفق عليه في كتب المعاجم؛ فقد سرى ذلك التردد إلى تفسير العلماء لهذا اللفظ كنتيجة طبيعية للغموض في معاجم اللغة؛ حيث اختلفوا في بيان المعنى المراد من هذه المفردة، فمنهم مَن يفسِّرها تفسيراً يجعلها طريقة لسكب الدمعة لمَن لا يقدر على تحصيلها، إذ يقول الغزالي: «وإنّما طريق تكلُّف البكاء أن يحضر قلبَه الحزنُ؛ فمن الحزن ينشأ البكاء، قال صلى الله عليه وآله: إنّ القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا. ووجه إحضار الحزن أن يتأمّل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثمَّ يتأمّل تقصيره في أوامره وزواجره؛ فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبكِ على فقد الحزن والبكاء فإنّ ذلك أعظم المصائب»([9]). وهذا المعنى الذي ذكره الغزالي تدعمه رواية عن أبي ذر الغفاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «يا أبا ذر، مَن استطاع أن يبكي فليبكِ، ومَن لم يستطع فليشعر قلبَه الحزنَ وليتباكَ، إنّ القلب القاسي بعيد من الله تعالى ولكن لا يشعرون»([10]).

وقد تبنّى هذا المعنى بعض أئمّة الحديث وشرّاحه أيضاً، إلّا أنّه نسب معنى آخر إلى القيل واستحسنه؛ وهو ما ذكره المجلسي في البحار ووجهه أيضاً؛ قائلاً: «التباكي حمل النفس على البكاء والسعي في تحصيله، وقيل: المراد به إظهار البكاء والتشبّه بالباكين في الهيئة، وهو أيضاً حسن، فإنّ مَن تشبّه بقوم فهو منهم، والأول أظهر»([11]).

بينما يعتبر آخرون أنّه نحو تفاعل مع الباكين وتعاطف معهم وإن لم يحصل من ذلك بكاء حقيقي، قال الشهيد الثاني: «والتباكي: وهو تكلُّف البكاء والتكيِّف بصورته لمَن لم يقدر عليه، قال الصادق عليه السلام لعنبسة العابد: إن لم يكن بك بكاء فتباكَ»([12]).

وقد تبنّى هذا المعنى أيضاً بعض المعاصرين، فذكر أنّ معنى التباكي هو التظاهر بالبكاء وإراءة الآخرين أنّه في حالة بكاء، وليس من الباكين حقيقة، قال العاملي: «وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام... نصوص كثيرة جداً تحثّ على البكاء لمصاب الإمام الحسين، فمَن لم يتيَّسر له البكاء فعليه أن يتباكى، والتباكي هو التظاهر بالبكاء»([13]).

وقد تقدَّم أنّ العلّامة المجلسي رحمه الله قد استحسن هذا النمط من التباكي واستدلّ له بقوله: «فإنّ مَن تشبه بقوم فهو منهم»، وهو مضمون روايةٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام وردت في كثير من المجاميع الروائية([14]).

وعلى الطرف الآخر من هذا القول ما ذكره بعض شرّاح الحديث من المدرسة الأُخرى، إذ جعله من الأُمور المنبوذة والمذمومة بعد أن قسَّم التباكي على قسمين، بقوله: «أمّا التباكي فهو تكلُّف البكاء، وهو نوعان: محمود، ومذموم. فالأول ما يكون لاستجلاب رقّة القلب... والثاني ما يكون لأجل الرياء والسمعة»([15]).

إذن؛ فالاختلاف في تفسير معنى التباكي في كلمات الأعلام وأئمّة الفقه وشرّاح الحديث أمر في غاية الوضوح.

 

مراتب التباكي المتصوّرة

لعل أحد الأُمور التي زادت العلماء والباحثين تردداً في تفسيرهم لمعنى التباكي هو عدم النظرة التوحيدية لما جاء في الروايات التي تكلّمت حول التباكي والمعنى اللغوي معاً، بل اعتمدوا في تعيين المراد من هذه المفردة على الكتب المعاجمية فقط، ولم يتنبّهوا إلى أنّ هذا اللفظ استُعمل ـ كمصطلح ـ في روايات كثيرة وفُسِّر فيها المراد منه؛ ممّا يجعل هذه الروايات حجر أساس لروايات أُخر ـ وفي أبواب متعددة ـ ورد فيها هذا المصطلح ومن دون تفسير وبيان.

وهذه الروايات ـ كما سوف يتبيَّن لنا ـ تساعدنا على فهم المراد من التباكي، وأنّه فعل من الأفعال التي يقوم بها المكلّف بغية تحصيل أثر، وهو حصول البكاء؛ إذ إنّ حال المتباكي سوف يأول غالباً ـ فيما لو أجهد نفسه ـ إلى إجراء الدمع من عينيه، فقد ورد في طائفة من الروايات تُبيِّن أنّ التباكي قد يساعد في تحقق البكاء، ولو كان شيئاً يسيراً من الدمع، كما روى محمد بن يحيى، عن ابن فضال، عن يونس ين يعقوب، عن سعيد بن يسار بياع السابري، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «إنّي أتباكى في الدّعاء وليس لي بكاء. قال: نعم، ولو مثل رأس الذّباب»([16]).

وفي رواية أُخرى أيضاً عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لأبي بصير: «إن خفت أمراً يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله، ومجّده وأثنِ عليه كما هو أهله، وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسل حاجتك، وتباكَ ولو مثل رأس الذباب، إنّ أبي عليه السلام كان يقول: إنّ أقرب ما يكون العبد من الربّ عز وجل وهو ساجد باكٍ»([17]).

وقد شُرِح معنى التباكي في رواية ثالثة يمكن أن نعتبرها تفسيراً واضحاً له، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قرأ شيئاً من سورة الزمر على جمع من أصحابه؛ فبكى القوم إلّا شاباً، فقال: «يا رسول الله، قد تباكيت فما قطرت عيني. قال: إنّي معيد عليكم فمَن تباكى فله الجنّة»([18]). فإنّ هذه الرواية صريحة في أنّ التباكي مقدِّمة لحصول البكاء ونزول الدمع.

فهذه الأخبار دالّة بوضوح على أنّ التباكي قد يكون مقدِّمة للبكاء، وأنّ البكاء الحاصل نتيجة التباكي يترتّب عليه الأثر وإن كان شيئاً قليلاً جداً؛ وهو ما عبَّر عنه الإمام عليه السلام بقوله: «ولو مثل رأس الذباب»، كناية عن قلّة نزول الدمع.

فينتج لنا: أنّ التباكي يكون على مراتب ودرجات من حيث تحصيل حالة البكاء، وأنّه فعل من الأفعال التي يأتي بها الإنسان، وتنطلق مرتبته من الحالة المثلى له، وهي حصول البكاء الكثير ونزول غزير الدموع إثر السعي والجهد، وتنتهي بأقلّ مرتبة منه وهي حصول الدمع القليل، الذي عبر عنه الإمام عليه السلام في الروايات المتقدِّمة بقوله: «ولو مثل رأس الذباب».

نعم، قد ينتهي أمر الإنسان في نهاية المطاف إلى عدم حصول حالة من نزول الدموع حتى اليسير منها، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّه يرائي ويتظاهر بالبكاء أمام الناس.

 

تعاطي أصحاب الأئمّة مع مصطلح التباكي

يستطيع الباحث أن يستشفّ حال بعض المصطلحات ـ التي ترد في روايات المعصومين عليهم السلام ـ وأنّها تتماشى مع النطاق العامّ لمسلَّمات الدين، من خلال تلقي أصحاب الأئمّة والرواة الذين تناقلوا أحاديثهم الواردة في هذا الشأن؛ إذ إنّ كل مصطلح يُشكّل غرابة في أذهانهم يبادرون إلى التساؤل ووضع علامات الاستفهام عليه في محضر الأئمّة عليه السلام؛ وتنعكس المسألة فيما لو كان ما ذُكِر مألوفاً ومتعارفاً بينهم، ومتلائماً مع المسلَّمات وثوابت الدين، فيتلقَّون ذلك منهم عليهم السلام من دون استغراب أو تساؤل.

وإذا أردنا تطبيق هذا الأمر على مصطلح التباكي الوارد في روايات كثيرة وفي أبواب مختلفة ـ كما سيتبيَّن لنا ـ نجد أنّ أصحاب الأئمّة ورواة أحاديثهم تلقّوا هذه الروايات وتعاطوا معها تعاطياً إيجابياً، ومن دون ردٍّ أو تساؤل وتعجب؛ ممّا يعني أنّ الأمر به من قِبَل الأئمّة عليهم السلام ليس فيه أيُّ غرابة، وأنّه مصطلح ليس فيه شائبة الرياء أو التظاهر المنبوذ.

ويستشفّ من ذلك أنّ هذا الفعل كان رائجاً ومتعارفاً بينهم؛ ممّا يوجِد لنا مؤشراً واضحاً على مشروعيته أيضاً.

 

مشروعية التباكي

بعد أن تبيَّن لنا حقيقة التباكي وأنّه أُسلوب يقوم به مَن أراد البكاء ولم يقدر على ذلك ـ لا كما يصوره بعضهم من أنّه رياء لا يفيد صاحبه إن قام به ـ صار لزاماً علينا أن ننظر إلى مدى صحّة القول بترتّب الثواب على هذه العملية التي يقوم بها بعض أتباع أهل البيت عليه السلام في مجالس العزاء التي تُقام لذكر الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، بل في كلّ موطن ندب به الأئمّة عليهم السلام أتباعهم إلى البكاء، ففي حال عدم تمكُّن بعضهم من البكاء يلتجئ إلى التباكي بمعناه الذي مرّ علينا، فهل أنّ هذا الشيء من الأُمور المشروعة والتي يترتّب عليها حصول الثواب أم لا؟

وما يمكن أن يستُدلّ به على المشروعية هو مجموعة من الأدلّة:

الدليل الأول: استحباب التباكي في بعض العبادات

سبق وأن قلنا: إنّ مفردة التباكي من المفردات التي كان لها حضوراً واضحاً في مواطن كثيرة من كتب الحديث والفقه، ونذكر منها ما يلي:

1ـ التباكي في الصلاة

تُعتبر الصلاة ـ كفعل عبادي ـ من أكثر العبادات التي تضرّ في صحّتها الأفعال الريائية، فقد أكّدت الروايات على تجنّب المصلي الأفعال التي تؤدي إلى مراءاته للآخرين، بل أفتى الفقهاء ببطلان الصلاة فيما لو نوى الرياء ولو في بعض أجزائها، ومَن تتبّع هذا الحكم في المجاميع الفقهية يقطع بأنّه رأي مشهور الفقهاء؛ إذ لم يخالف في ذلك سوى القلّة القليلة([19])، إلّا أنّنا نجدهم جَوزوا التباكي في الصلاة([20])، ولم يفتوا ببطلانها فيما لو تباكى المكلَّف في أثناء صلاته، بل أفتوا باستحبابه فيها([21]) وفقاً للروايات الواردة في هذا المضمار، ولم تنصرف أذهانهم إلى أنّه تظاهر بالبكاء أو التشبّه بهيئة الباكين؛ فيتحدّ مع الرياء في نتيجة واحدة، فضلاً عن كونه منه.

وأما الروايات التي تحدَّثت عن التباكي في الصلاة فهي:

أولاً: ما رواه الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن سعيد بياع السابري، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «أيتباكى الرجل وهو في الصلاة؟ قال: بخ بخٍ، ولو مثل رأس الذباب»([22]).

ثانياً: ما رواه الصدوق رحمه الله بإسناده، عن منصور بن يونس بزرج، أنّه سأل الصادق عليه السلام: «عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتى يبكي؟ فقال: قرّة عين والله. وقال: إذا كان ذلك فاذكرني عنده»([23]).

2ـ التباكي في الدعاء

يعدّ الدعاء في النصوص الشرعية في عداد العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى ربِّه، بل من أفضلها، إذ ورد في بعض النصوص أنّ الدعاء مخ العبادة([24])؛ ولذا يتأثّر سلباً وإيجاباً نتيجة بعض الأفعال([25]) والخواطر التي تخطر على قلب الداعي، فتجعله مستجاباً تارة، وأُخرى مردوداً، ومع ذلك نلاحظ أنّ بعض الروايات الواردة عن الأئمّة عليهم السلام ورد فيها الحثّ والتأكيد على التباكي في الدعاء؛ وما ذلك إلّا لأنّ التباكي فعل لا علاقة له بالرياء والتظاهر؛ فقد روي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لأبي بصير: «إن خفت أمراً يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله، ومجده وأثن عليه كما هو أهله، وصلِّ على النبي صلى الله عليه وآله وسل حاجتك، وتباكَ ولو مثل رأس الذباب، إنّ أبي عليه السلام كان يقول: إنّ أقرب ما يكون العبد من الربّ عز وجل وهو ساجد باكٍ»([26]). وأيضاً ما تقدّم ذكره عن محمد بن يحيى، عن ابن فضال، عن يونس بن يعقوب، عن سعيد بن يسار بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «إنّي أتباكى في الدّعاء وليس لي بكاء. قال: نعم، ولو مثل رأس الذّباب»([27]).

وما ذلك إلّا لأنّ التباكي نمط من الأنماط التي لا تُماثل الرياء، وأنّها من الأفعال المطلوبة حقيقة.

3ـ التباكي في قراءة القرآن

بما أنّ الدليل القطعي دلّ على أنّ القرآن الكريم هو كلام الله الذي خاطب به نبيه صلى الله عليه وآله بالمباشرة، وكافّة الناس بالتبع، فإنّ لقراءته طقوساً خاصّة تختلف فيها حالات القارئ باختلاف ما تتضمَّنه الآية التي يتلوها، فعندما يمرّ القارئ بآيات الوعد الإلهي للمؤمنين بالجنّة تغمره الفرحة والسعادة، وبخلاف ذلك فيما لو مرّ على آيات الوعيد الإلهي بالعذاب؛ فإن الحزن والبكاء يغلب عليه؛ ولذا ورد التأكيد على استحبابه عند قراءة القرآن([28])، وقد كان هذا حال بعض أصحاب الأئمّة عليهم السلام فضلاً عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمّة أنفسهم، وكان للبكاء في تلاوة القرآن أثره الإيجابي على أصحابه، حتى مُدح بعضهم في كتب السير لأجل بكائه في تلاوة القرآن([29])، وبما أنّ البكاء لا يتهيأ دائماً لبعضهم فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله بالتباكي لمَن لا يقدر على البكاء، وهذا ما جاء في الرواية التالية عن محمد بن علي بن الحسين، عن محمد بن علي ماجيلويه، عن محمد بن يحيي، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن أبي زكريا المؤمن، عن سليمان بن خالد، عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أتى شباباً من الأنصار فقال: إنّي أُريد أن أقرأ عليكم فمَن بكى فله الجنّة. فقرأ آخر الزمر ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ إلى آخر السورة، فبكى القوم جميعاً إلّا شاباً، فقال: يا رسول الله، قد تباكيت فما قطرت عيني. قال: إنّي معيد عليكم فمَن تباكى فله الجنّة. قال: فأعاد عليهم فبكى القوم وتباكى الفتى فدخلوا الجنّة جميعاً»([30]). ففي هذه الرواية تصريح واضح على أنّ التباكي أمر مطلوب ويترتَّب عليه أثر وهو دخول الجنّة والسعادة الدائمة للإنسان.

استحباب الحزن والتحازن في قراءة القرآن

من الواضح والمتّفق عليه أنّ الحزن والتحازن بما يحملان من معنى إنّما هو مرتبة أقلّ من التباكي؛ إذ إنّ الحزن ـ فضلاً عن التحازن والذي يكون بتكلُّف الحزن ـ إنّما يتحقق قبل أن يأتي الدور إلى حالات البكاء وعدمه، مع أنّ المتتبّع للأحاديث الشريفة يجد أنها تُبيِّن بأنّ الحزن والتحازن في بعض موارده من الأُمور التي يترتَّب عليها الثواب الجزيل، ومن هذا المقام ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «إنّ القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا»([31]).

ومن هذا الحديث يمكننا أن نستدلّ لموضوعنا مورد البحث وذلك من خلال تأسيس قاعدة مفادها أنه قد يكون المصداق الأقلّ مستحباً فيما لو كانت المرتبة الأعلى لا تتيسر للمكلف، خصوصاً إذا وردت نصوص الروايات على ذلك.

وعليه؛ فلا يكون مورد بحثنا غريباً، بعد أن دلّت الروايات على استحبابه والتصريح فيها بتدرّج الندب إليه في حال عدم تيسُّر البكاء للمكلَّف، كما سوف يأتي.

والحصيلة النهائية من هذا الدليل: تتبلور في أنّ التباكي نمط من الأنماط التي توصِل الإنسان إلى حالة البكاء، وهو في حدّ ذاته أمر مطلوب وإن لم يحصل منه البكاء.

الدليل الثاني: الروايات الدالّة على استحباب التباكي على مصيبة الحسين عليه السلام

بعد أن اتّضح لنا معنى التباكي بالبيان المتقدِّم، أصبح من السهل والمتيسر جداً تقبُّل هذا الفعل في سائر العبادات عموماً وفي العزاء الحسيني خصوصاً، وعلاوة على ذلك فإنّ الروايات التي جاءت في خصوص التباكي على مصاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام من الكثرة بمكان تبلغ حدّ التواتر وتدعو الباحث إلى التعبُّد بها والالتزام بمؤدّاها، وهي ما يلي:

الطائفة الأُولى: الروايات التي نصّت على مفردة التباكي

جاءت هذه المفردة في الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في خصوص التباكي على مصيبة الحسين عليه السلام بعد التدرّج في بيان الأجر الذي يترتّب على البكاء والإبكاء إلى أن انتهى الكلام إلى التباكي، وهي كالتالي:

1ـ ما رواه ابن قولويه، بقوله: حدَّثني أبو العباس، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن الحسن بن علي بن أبي المغيرة، عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «... يا أبا عمارة... ومَن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة»([32]).

2ـ ما رواه الصدوق بقوله: حدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكل، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «مَن أنشد في الحسين عليه السلام بيتاً من شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة. فلم يزل حتى قال: ومَن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى ـ وأظنّه قال: ـ أو تباكى فله الجنّة»([33]).

3ـ ما ورد في مناجاة موسى عليه السلام مع الله عز وجل: «...وما العاشوراء؟ قال: البكاء والتباكي على سبط محمد صلى الله عليه وآله، والمرثية والعزاء على مصيبة وَلَد المصطفى، يا موسى، ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان، بكى أو تباكى وتعزّى على وَلَد المصطفى صلى الله عليه وآله: إلّا وكانت له الجنّة ثابتاً فيها»([34]).

وغيرها من الروايات التي تدلّ صراحة على استحباب التباكي في هذه المصيبة المؤلمة، وحصول الثواب الجزيل، واستحقاق المتباكي السكنى في الجنّة.

الطائفة الثانية: الروايات الدالّة على استحباب الفعل المتحدّ نتيجة مع التباكي

ورد في طائفة أُخرى روايات تدلّ على أنّ الأجر الذي أعدّه الله لِـمَن تفاعل مع مصيبة الإمام الحسين عليه السلام يترتّب على الفعل الذي يتحدّ مع التباكي في النتيجة التي يؤدّي إليها، وذلك في مورد نزول دمعة، أو تقطر من عينه قطرة ـ بل إنّنا نستشفّ ظهور هذه الطائفة في إرادة التباكي ضمناً أو التزاماً، بعد أن عرفنا معنى التباكي من خلال الروايات المتقدِّمة في الأبحاث السابقة ـ والروايات في هذا المجال كثيرة ننقل بعضها:

1ـ ما رواه المفيد، عن أبي عمرو عثمان الدقاق، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن أحمد بن يحيى الأودي، عن مخول بن إبراهيم، عن الربيع بن المنذر، عن أبيه، عن الحسين بن علي عليه السلام قال: «ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة، أو دمعت عيناه فينا دمعة إلّا بوأه الله بها في الجنّة حقباً»([35]).

2ـ روى البرقي عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بكر بن محمد، عن الفضيل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كان مثل زبد البحر»([36]).

3ـ أورد ابن قولويه، عن حكيم بن داود بن حكيم، عن سلمة، عن بكار بن أحمد القسام والحسن بن عبد الواحد، عن مخول بن إبراهيم، عن الربيع بن المنذر، عن أبيه قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول: «مَن قطرت عيناه فينا قطرة، ودمعت عيناه فينا دمعة بوأه الله بها في الجنّة حقباً»([37]).

4ـ ما ذكره علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «مَن ذَكَرنَا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»([38]).

5ـ عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن أبي هارون المكفوف، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى عشرة كتب لهم الجنّة، ومَن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى خمسة كتب له الجنة، ومَن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى واحداً كتب لهم الجنة، ومَن ذُكر الحسين عليه السلام عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عز وجل ولم يرضَ له بدون الجنّة»([39]).

والتعبير بجناح ذبابة لا يسمى بكاءً على الموازين اللغوية، وإنّما يتلاءم مع حالة التباكي، والنتيجة التي يُنتهى إليها كما ذُكر في الروايات الآنفة الذكر في مراتب التباكي، خصوصاً وأنّ التعبير الذي سبق الفقرة الأخيرة من الرواية تضمَّن التعبير بالبكاء إلّا هذه الفقرة، فلم يقل الإمام عليه السلام سوى: «فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة»، كما مرّ معنا في بعض الروايات.

الدليل الثالث: الروايات المؤكدة على استحباب إظهار التضامن مع مصيبة الحسين عليه السلام

يمكن أن يُستدلّ لاستحباب التباكي وأنّه ليس له مساس بالمراءات من خلال مجموعة من الأدلّة التي تؤدّي إلى نتيجة واحدة، يجمعها عنوان وقاسم مشترك، وهو: (التحشيد الإعلامي للحدث المفجع)، وتدلّ على أنّ لكلّ واحد منها طريقة من الطرق التي يظهر فيها التضامن مع تراجيديا كربلاء التضحية والمصيبة الفاجعة، وهي ما يلي:

1ـ ترتب الثواب على مجرّد الحضور لأجل إحياء أمرهم عليهم السلام

هناك نمط من الروايات التي رتّبت الثواب على بعض الأفعال التي يمكن أن تكون في عداد أحاديث التباكي، حيث إنّ بعضها تُبيِّن أنّ الحضور في مجالس العزاء التي تُقام لذكر أهل البيت عليهم السلام ـ بل مطلق المجالس التي يُحيى فيها أمرهم عليهم السلام ـ له من المميزات والخصائص التي ترقى بالمكلّف إلى مراتب عالية ومقامات رفيعة، وكما هو واضح فإنّ التباكي بالمعنى المتقدِّم له مرتبة تفوق الحضور المجرّد عن البكاء أو التباكي فيما لو كان حضوره لإحياء أمرهم، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام قال: «مَن تذكّر مصابنا وبكى لما ارتُكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذُكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»([40]).

2ـ الروايات الدالّة على أنّ نَفَسَ المهموم لأهل البيت عليهم السلام عبادة

تُصرح بعض النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام على أنّ تفاعل المؤمن مع مصابهم ومظلوميتهم والهم الذي يصيبه لذلك يجعل من أنفاسه تسبيحاً وهمّه عبادةً، كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرِّنا جهاد في سبيل الله»([41]). وبما أنّ التباكي في مصاب الإمام أبي عبد الله عليه السلام هو الاجتهاد والسعي لتحصيل البكاء، فلا أقل من اعتباره في عداد الهم الذي يعلو المهموم لظلمهم عليهم السلام إن لم يكن أعلى منه بكثير، وينتج لنا من ذلك أنّ التباكي من الأُمور التي تقرِّب العبد إلى الله عز وجل.

3ـ استحباب إظهار الجزع على مصيبة الحسين عليه السلام

اعتبرت الروايات الواردة عن أهل البيت عليه السلام إظهار الجزع على مصاب أبي عبد الله عليه السلام أحد الطرق التي يُعبِّر فيها الإنسان عن تفاعله وتألمه على هذا المصاب، وأنّه فعل مستحب وممدوح عليه، وقد صُرِّح في بعضها أنّ هذا الحكم مستثنى من النطاق العام الذي يتّصف به الجزع المحرّم في الشريعة، كما قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: «ما أُصيب وُلد فاطمة ولا يُصابون بمثل الحسين عليه السلام... كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين»([42]).

ومن خلال نظرة مجموعية إلى هذه الموارد يُستفاد أنّ أحد الأغراض التي تؤدّيها عملية إظهار الجزع هي الترويج لقضية الإمام الحسين عليه السلام ونهضته المباركة، وأنّها تشكِّل تحشيداً إعلامياً لواقعة الطفّ.

نستظهر ـ من ذلك ـ أنّ التباكي نوع من أنواع التحشيد الإعلامي لواقعة الطفّ الدامية، وأنّه يؤدّي الغرض كبقية الأفعال التي ندب إليها أهل البيت عليهم السلام، فكما أن لبس السواد على مصيبة الحسين عليه السلام يُعلَن من خلاله التفاعل والتأثّر لها، كذلك المتباكي يُعلن تفاعله والاصطفاف مع هذا المصاب، فيحصل على الثواب الذي أعدّه الله عز وجل ووعد به الأئمّةُ عليهم السلام شيعتَهم.

المحصلة النهائية

يتلّخص ممّا تقدَّم معنا الأُمور التالية:

1ـ إنّ التباكي الذي ذُكر معناه في المعاجم اللغوية بأنّه تكلُّف البكاء يعني أنّ المكلَّف يجتهد ويسعى لتحصيل البكاء، وأنّه قد يوصل المكلّف إلى حالة البكاء.

2ـ إنّ هناك روايات دالّة على استحباب التباكي في موارد عديدة من الفقه الإسلامي، من قبيل: التباكي في الصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، مضافاً إلى التباكي في مصيبة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وقد ذُكر بعض هذه الروايات في كتب الحديث المعتبرة.

3ـ إنّ الروايات الدالّة على استحباب التباكي تورث الاطمئنان بصدورها وفق الموازين العلمية.

4ـ إنّ التباكي وإن لم يؤدِّ في النتيجة إلى حصول البكاء، إلّا أنّه يحافظ على محبوبيته لدى الأئمّة عليهم السلام.

5ـ هناك بعض الروايات في خصوص التفاعل مع مصيبة أبي عبد الله عليه السلام يفهم منها أنّ المراد هو ما يؤول إليه حال المتباكي في النتيجة، وهي الروايات القائلة: «مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب».

6ـ إنّ التباكي نمط من أنماط التحشيد والترويج الإعلامي لواقعة كربلاء الدامية، فيمكن أن يستدلّ له من خلال استحباب إظهار الجزع، أو لبس السواد، أو حضور المجالس وغيرها من الموارد.

7ـ أنّ النتيجة المهمّة التي يُطمَأنّ بها في المقام هو أنّ ذكر التباكي في مصيبة الحسين عليه السلام ليس من باب المبالغة في الثواب، بل إنّه ـ كنظائره في الأبواب الأُخر التي تقدَّمت ـ مطلوب ومستحبّ حقيقة.

 

الكاتب: الشيخ صباح عباس الساعدي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد السابع

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[1]     الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص190.

[2]     المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: ص501.

[3]     فقد روى أبو عمارة المنشد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال لي: «... ومن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فبكى فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين عليه السلام شعراً فتباكى فله الجنّة». وغيرها من الروايات التي جاءت بهذه الصياغة، كما سوف يأتي ذكرها لاحقاً.

[4]     الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج6، ص2284.

[5]     اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج14، ص83. الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين: ج1، ص60.

[6]     الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين: ج1، ص60.

[7]     المدني، علي صدر الدين، سلافة العصر في محاسن الشعراء بكلّ مصر: ص361.

[8]     الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج10، ص216.

[9]     الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: ج3، ص504.

[10]    الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص530.

[11]    المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج12، ص56.

[12]    الشهيد الثاني، زين الدين، الفوائد الملية لشرح الرسالة النفلية: ص235.

[13]    العاملي، الانتصار: ج9، ص213.

[14]    اُنظر: المغربي، النعمان بن محمد، دعائم الإسلام: ج2، ص513.

[15]    الحلبي، علي بن برهان الدين، السيرة الحلبية: ج2، ص200.

[16]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص483.

[17]    المصدر السابق.

[18]    الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص160.

[19]    اُنظر: العلاّمة الحلي، الحسن بن يوسف، تذكرة الفقهاء: ج3، ص110. الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس الشرعية: ج1، ص166. الكركي، علي بن الحسين، جامع المقاصد: ج2، ص226. الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، روض الجنان: ج1، ص95.

[20]    اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: ص74. والعلّامة الحلي، الحسن بن يوسف، تحرير الأحكام: ج1، ص268. وقال العلّامة المجلسي رحمه الله: «واعلم أنّ الأكثر جوزوا التباكي في الصلاة». المجلسي، محمد باقر، شرح مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج2، ص55.

[21]    اُنظر: الشهيد الأول، محمد بن مكي، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: ج4، ص11. الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: ج1، ص228.

[22]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج3، ص301.

[23]    الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج7، ص247.

[24]    اُنظر: الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج7، ص27.

[25]    فقد وردت روايات كثيرة تحثّ على استحباب الدعاء مع حال البكاء. اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص1122.

[26]    الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص483.

[27]    المصدر السابق.

[28]    اُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج6، ص219.

[29]    فقد مُدح أويس القرني لأنّه كان يبكي في قراءته لكتاب الله عز وجل. اُنظر: ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج9، ص424. الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج4، ص27. وغيرهما من المصادر الأُخرى.

[30]    الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج6، ص219.

[31]    الزمخشري، جار الله، الكشاف: ص514. الكاشاني، فتح الله، زبدة التفاسير: ج4، ص190.

[32]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص209.

[33]    الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص85.

[34]    النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل: ج10، ص319.

[35]    المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص341.

[36]    البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص63.

[37]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص202.

[38]    القمي، علي بن إبراهيم، كامل الزيارات: ج2، ص292.

[39]    ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص202.

[40]    الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج1، ص264.

[41]    المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص338. والطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص115.

[42]    الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص162.

 

gate.attachment