قرأت أخيراً كتاباً لبعض الأعلام المحققين حفظه الله يُشكك فيه بسند زيارة عاشوراء المعروفة، ويجزم بأنّ الفقرة الواردة في نهاية الزيارة والخاصة بلعن خمسة أشخاص ـ أربعة منهم غير مذكورين في متن الزيارة، والخامس مصرح به وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان لعنه الله ـ قد أُضيفت إلى النص الذي يرويه الشيخ الطوسي في المصباح، ولم تكن في نسخة الأصل.
علماً بأن هذه الفقرة لم ترد في النص الذي يرويه ابن قولويه رحمه الله في كامل الزيارات، وإنما وردت في النسخ المطبوعة من مصباح المتهجد فقط.
وقد حقَّق المؤلف حفظه الله في هذا المطلب تحقيقاً واسعاً، من خلال تتبع النسخ المخطوطة للمصباحين ـ المصباح الكبير والمصباح الصغير الذي اختصره الشيخ أبو جعفر رحمه الله من المصباح ـ فانتهى إلى أنها من الإضافات التي أُدخلت على المصباح، ولم يذكرها الشيخ الطوسي في نسخة الأصل.
وعندما قرأت شطراً من الكتاب المذكور تساءلت: لماذا يسعى المؤلف المحقق حفظه الله إلى التشكيك في سند هذه الزيارة؟
وليس في هذه الزيارة شيء من الفقه؛ لنبحث عن الحجة في المسألة الفقهية.
وليس في هذه الزيارة شيء يخالف الثابت من عقائدنا، أو يخالف الكتاب وما ثبت من السنة؛ لنتحرَّ عن وجه الدليل والحجة.
وأما مسألة تخصيص الخمسة باللعن، وما يؤدي إليه من إثارة الفتنة بين المسلمين، فقد نفاه المؤلف من خلال تتبع نسخ المصباح المخطوطة عبر القرون، وهذه المسألة التي نفاها المؤلف لا تتطلب نفي الزيارة رأساً.
وقد ألِف الناس هذه الزيارة الشريفة، وتوارثوها جيلاً بعد جيل. والمؤلف لم ينفِ الزيارة ولم يَدَّعِ أنها موضوعة مجعولة، وإنما شكك في السند فقط، ولكن عامة الناس من غير أصحاب الاختصاص يفهمون من هذا التحقيق أن الزيارة موضوعة، وهو ما لا يريده المؤلف قطعاً؛ إذ فرق بين ضعف السند وعدم وصول الرواية بطريق معتبر، وبين دسّ الرواية ووضعها، كما لا يخفى على أهل الاختصاص.
فلماذا يسعى المؤلف إلى إثارة هذا التشويش على نص شريف مبارك معروف، يتوارثه المؤمنون جيلاً بعد جيل؟! وقد وجدوا أن كبار العلماء كانوا يحرصون على قراءته والتوصية به وإعظامه. وهو ـ في إجماله وتفصيله ـ متطابق مع عقائدنا التي ورثناها عن أهل البيت عليهم السلام ، بما في ذلك البراءة من أعداء آل محمد عليهم السلام ولعن قتلة الحسين عليه السلام ، وقد أعلنهما رسول الله صلى الله عليه وآله إعلاناً في أكثر من موضع، ولا سبيل لأحد للمناقشة في صحة هذا اللعن وهذه البراءة بالتأكيد، ومعظم المسلمين يشاركونا فيهما معاً.
مناهج البحث في زيارة عاشوراء
فيما يأتي من هذا المقال، نحاول أولاًـ إن شاء الله ـ أن نُلقي نظرة إلى سند هذه الزيارة لإثبات اعتبار هذه الزيارة من ناحية السند. ونحاول ثانياً أن نثبت صحة هذه الزيارة بالقرائن الموجودة في أسانيدها الخمسة عند الشيخين ابن قولويه وأبي جعفر الطوسي، حتى مع افتراض عدم اعتبار سند هذه الزيارة.
إذن؛ نتناول دراسة هذه الزيارة إن شاء الله في هذه المقالة ضمن منهجين:
المنهج الأول: إثبات اعتبار رواة الزيارة، وهو ما يُسمى بـمبنى الوثاقة.
المنهج الثاني: إثبات اعتبار الزيارة نفسها، عن طريق القرائن الموجودة في أسنادها، بغض النظر عن اعتبار الرواة وعدم اعتبارهم، وهو ما يسمّى بـمبنى الوثوق بالصدور.
المنهج الأول: تصحيح أسناد زيارة عاشوراء
رويت زيارة عاشوراء بعدة روايات وأسانيد وطرق مختلفة، تصل إلى خمسة طرق عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق علهيما السلام ، منها:
الرواية الأُولى: رواية الشيخ عن محمد بن خالد الطيالسي
روى الشيخ في المصباح، عن محمّد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة، قال: «خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال ـ وعندنا جماعة من أصحابنا ـ إلى الغري بعدما خرج أبو عبد الله عليه السلام ، فسرنا من الحيرة إلى المدينة، فلمّا فرغنا من الزيارة صرف صفوان وجهه إلى ناحية أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، فقال لنا: تزورون الحسين عليه السلام من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام . من ها هنا أومأ إليه أبو عبد الله الصادق عليه السلام وأنا معه، قال: فدعا[1] صفوان بالزيارة التي رواها علقمة بن محمّد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام في يوم عاشوراء، ثم صلّى ركعتين عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام ، وودّع في دبرها أمير المؤمنين، وأومأ إلى الحسين بالسلام منصرفاً وجهه نحوه وودّع. وكان فيما دعا في دبرها: يا الله يا الله يا الله، يا مجيب دعوة المضطرين...»[2].
سند الرواية:
الكلام في سند هذه الرواية يقع أولاً في طريق الشيخ إلى محمد بن خالد الطيالسي، ومن ثمّ في الطيالسي ومَن روى عنهم.
طريق الشيخ إلى محمد بن خالد الطيالسي
في طريق الشيخ أبي جعفر الطوسي إلى محمّد بن خالد الطيالسي يقع أحمد بن محمد بن يحيى.
توثيق أحمد بن محمد بن يحيى
يقول الشيخ في الفهرست في ترجمة محمّد بن خالد الطيالسي: «له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه عن محمّد بن عليّ بن محبوب عنه»[3].
وقد انتهى الأُستاذ السيّد الخوئي قدس سره في كتابه الكبير المعجم إلى جهالة الرجل؛ لعدم ورود توثيق فيه[4].
ولكن المشهور كما يصرح به الأُستاذ رحمه الله هو الاعتماد عليه[5].
وقد وثّقه العلامة رحمه الله في الفائدة الثامنة من خاتمة الخلاصة، ووثّقه الشهيد الثاني في الدراية، وكذلك السماهيجي، والشيخ البهائي[6].
وكتب أبو العبّاس السيرافي إلى النجاشي في تعريف طرقه إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي، فقال: فأمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما: الحسين والحسن ابنا سعيد الأهوازيان[7]، فذكر طريقين، وفي الطريق الثاني يقع أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار...
وهذا كلام ظاهر في توثيق الرجل، وإن شكّك سيّدنا الأُستاذ رحمه الله في دلالته على التوثيق بـ «أن ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن يحيى، لكنه ليس كذلك، بل إن الكتب المعول عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح... ولعلّ ذكر الطريق الآخر إنّما هو لأجل التأييد»[8].
ولكنه خلاف الظاهر من كلام السيرافي؛ فإن¬ّ ظاهر كلامه: أن¬ المعول عليه من كتب الحسين والحسن ابني سعيد الأهوازيين هو ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى الطريق الأوّل، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي الطريق الثاني...
وإليك نص كلام النجاشي والسيرافي:
يقول النجاشي رحمه الله ـ في ترجمة الحسين بن سعيد بن حماد بن مهران وفي تسمية كتب الحسين وأخيه الحسن بن سعيد ـ: «أخبرنا بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا... منها ما كتب إليَّ به أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن نوح السيرافي رحمه الله في جواب كتابي إليه، يقول: والذي سألت تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي رضي الله عنه . فقد روى أبو جعفر أحمد بن خالد البرقي، والحسين بن الحسن بن أبان، وأحمد بن محمد... فأمّا ما عليه أصحابنا، والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمّد بن عيسى، أخبرنا الشيخ الفاضل أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن سفين سفيان البزوفري فيما كتب إليَّ في شعبان سنة 352 هـ قال: حدّثنا أبو عليّ الأشعري، أحمد بن إدريس بن أحمد القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد بكتبه الثلاثين كتاباً...
وأخبرنا أبو علي أحمد بن يحيى العطّار القمّي، قال: حدّثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أحمد بن عيسى» [9].
وهو كلام ظاهر في توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي.
فإنّ السيرافي يقول: إن¬ّ تعويلهم ـ أي أصحابنا ـ وتعويله هو في تسمية هذه الكتب بهاتين الروايتين، وفي إحداهما يقع أحمد بن محمد بن يحيى العطّار... وهو كما ذكرنا كلام ظاهر في المطلوب.
ولكن سيّدنا الأُستاذ رحمه الله يناقش مع ذلك في دلالة هذه الرسالة على توثيق الرجل، فيقول: «ويردّه:
أوّلاً: ما عرفت من أن اعتماد القدماء على رواية شخص لا يدلّ على توثيقهم إيّاه؛ وذلك لما عرفت من بناء ذلك على أصالة العدالة التي لا نبني عليها.
وثانياً: إن¬ّّ ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنه ليس كذلك. بل إن تلك الكتب المعوّل عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح، وهو الطريق الأوّل الذي ينتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى. ولعلّ ذكر طريق آخر إنّما هو لأجل التأييد»[10].
والإيرادان الواردان في كلام سيّدنا الأُستاذ رحمه الله موضع تأمّل وتوقف.
أما الإيراد الأوّل: فإنّ التعويل على رواية، إخبار عن توثيق الرواة بالملازمة، فلا يصح التعويل من غير الوثوق إلّا أن يثبت خلافه بالاعتماد في التعويل على أصالة العدالة، وهذا إخبار من قبل أصحابنا ومن ناحية ابن نوح بتوثيق الرواة الذين ورد ذكرهم في هذين الطريقين.
فإن¬ّ الظاهر من التعويل هو التوثيق، واحتمال أن يكون التعويل والاعتماد قائماً على أصالة العدالة لا التوثيق لا يعتنى به ما لم يعلم بذلك، ولا شكّ في أن مثل هذا العلم منتفٍ في المورد.
كما أن الظاهر من التوثيق هو الاعتماد على الحس أو الحدس القريب من الحس، وليس على الحدس والاجتهاد البحت، كما يقول سيّدنا الأُستاذ نفسه رحمه الله في مقدمة كتابه: «قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يُعتنى به بعد قيام السيرة على حجّية خبر الثقة فيما لم يُعلم أنّه نشأ من الحدس، ولا ريب في أنّ احتمال الحس في إخبارهم، ولو من جهة نقل كابر عن كابر وثقة عن ثقة موجود وجداناً»[11].
نعم، إذا عرفنا من شخص أن اعتماده على راوٍ، يبتنى على أصالة العدالة عندئذٍ لا نأخذ باعتماده وتعويله. وأنّى لنا مثل هذا العلم؟!
كيف؟! ومعظم ما لدينا من التوثيقات من القدماء , في الفهارس والرجال والتراجم، وقد بلغت كتب القدماء في التوثيق والتجريح إلى عهد الشيخ رحمه الله نيفاً ومائة كتاب، كما يظهر من الشيخ والنجاشي..
ولو كان دأْب القدماء ـ أو غالبهم ـ اعتماد أصالة العدالة في التعويل والاعتماد على الرواة لم يكتب القدماء هذا العدد الكبير من كتب التوثيق والتجريح، وما الحاجة إلى مثل هذا الجهد الكبير في التوثيق؟!
يقول الشيخ رحمه الله ـ في العدّة في آخر فصل في ذكر خبر الواحدـ: «وممّا يدل أيضاً على صحة ما ذهبنا إليه: إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثّقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقت بين مَن يُعتمد على حديثه وروايته وبين مَن لا يُعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذمّوا المذموم. وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مختلط في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي. وغير ذلك من الطعون التي ذكروها.
وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال[12] من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعف بروايته، هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم»[13].
هذه كلمات الشيخ رحمه الله عن دأب الطائفة في التعامل مع الرواة على أساس التوثيق، ورغم أن كلامه رحمه الله ليس في هذا السياق، إلّا أنه واضح وصريح في أن منهج القدماء هو التحرّي والتوثيق، وليس البناء على أصالة العدالة، كما يقول سيّدنا الأُستاذ قدّس الله نفسه.
ويقول الشيخ رحمه الله أيضاً في العدّة: «فأمّا ما اخترته من المذهب، فهو أن¬ّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا.. وكان ممّن لا يُطعن في روايته ويكون سديداً في نقله جاز العمل به... حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا يُنكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. وهذا عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة عليهم السلام ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام الذي انتشر العلم عنه، وكثرت الرواية من جهته»[14].
هذا صريح كلام الشيخ رحمه الله ، وهو شيخ القدماء وخبير علم الرجال، وهو صريح في أن التعويل والاعتماد في الفتاوى والروايات على الموثوق من الروايات والرواة، وبغير ذلك لا تصح الفتاوى، ولا يسكتون عنها، ثم يصرّح بأن هذا ديدنهم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعده من الأئمة عليهم السلام ، وأحاديث الصادق جعفر بن محمد عليه السلام إلى عهد الشيخ. ولو كان المتقدّمون , يعوّلون على الراوي بناءً على أصالة العدالة ـ إذا ثبت إيمانه ـ ولم يثبت عليه طعن لما صحّ هذا الكلام كلّه.
ويقول الحر العاملي رحمه الله ـ في خاتمة الوسائل في الفائدة التاسعة في الوجه الرابع عشر ـ: «فإن أجابوا بأصالة العدالة، أجبنا بأنه خلاف مذهبهم، ولم يذهب إليه منهم إلّا القليل. ومع ذلك يلزمهم الحكم بعدالة المجهولين والمهملين، وهم لا يقولون به، ويبقى اشتراط العدالة بغير فائدة»[15].
وبناءً على ذلك؛ فإنّنا نعتمد تعويل القدماء واعتمادهم على الرواة، ونعتقد أن الظاهر من الاعتماد والتعويل هو التوثيق.
ولا شكّ في أنّنا نعمل بتوثيق القدماء ممّن كان في عصر السيرافي ابن نوح، كما نعمل بتوثيقات الشيخ والنجاشي.. وقد كان ابن نوح في عصر النجاشي، وموضع ثقة النجاشي، يعتمده ويراسله ويطلب منه التعريف بالرجال والكتب[16].
وأما الإيراد الثاني الذي أورده الأُستاذ رحمه الله على دلالة كلام ابن نوح على توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى: «أن ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنه ليس كذلك... ».
أقول: هذا هو الظاهر من كلام ابن نوح، وغيره خلاف الظاهر.. فلو قال أحد: إنّه يعوّل على خبر ما برواية فلان وفلان، فإن¬ّ الظاهر من الكلام هو أن كلاً من الروايتين، والراويين موثوقان عنده... وأنّه يعوّل فيه على كلّ واحد منهما بانفراد واستقلال.
والمرجع في هذا الظهور هو العرف العام للناس في التحاور، وهذا العُرف ببابك.
ومع قيام هذا الظاهر؛ فلا شكّ في أنّ الناس لا يعبأون بالاحتمالات المخالفة للظاهر، ويردونها بالظاهر، ولو كنّا نأخذ بالاحتمالات المخالفة للظاهر، لم يسلم لنا ظاهر في التحاور بين الناس. وقد أمضى الشارع هذا الأُسلوب الذي يجري عليه الناس في محاوراتهم اليومية.
بناءً عليه؛ فإنّ كتاب ابن نوح السيرافي إلى الشيخ النجاشي ظاهر في توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، وهذا هو الذي اختاره المحقّق الشيخ عبد الله المامقاني رحمه الله ، قال في ترجمة أحمد بن يحيى العطّار القمّي: «وممّا يشير إلى جلالة الرجل ما كتبه ابن نوح إلى النجاشي في جواب كتابه الذي سأله فيه تعريف الطرق إلى ابني سعيد الأهوازي الحسن والحسين: أمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمّد بن عيسى... وحدّثنا أبو علي أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، قال: حدّثنا...»[17].
وبذلك يسلم لنا طريق الشيخ رحمه الله إلى محمّد بن خالد الطيالسي، والذي وقع في سلسلة سند زيارة عاشوراء.
محمّد بن خالد الطيالسي
لم يرد فيه ذم وجرح من أحد من القدماء والمتأخرين، على الإطلاق.
وقد روى عنه جملة من أجلاّء أصحابنا، مثل محمّد بن علي بن محبوب، وعلي بن الحسن بن فضال، وسعد بن عبد الله، وحميد بن زياد، وهم جميعاً من ثقات الأصحاب.
قال الشيخ في الفهرست: «محمّد بن خالد الطيالسي، له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن محمّد بن علي بن محبوب عنه»[18].
وقال عنه الشيخ في الرجال ـ فيمن لم يرو عنهم عليهم السلام ـ: «محمّد بن خالد الطيالسي، روى عنه حميد أُصولاً كثيرة»[19].
وحميد هذا هو حميد بن زياد، وثّقه الشيخ في الفهرست[20]، والنجاشي[21]، والعلامة[22]، وابن شهرآشوب[23]. وقد عرفت اهتمام حميد به وروايته عنه أُصولاً كثيرة.
وهذا يحقّق ـ من دون ريب ـ مرتبةً من مراتب الحُسْن الذي يبعث في النفس الاطمئنان إلى رواياته.
يقول المحقّق المامقاني في ترجمته: «وظاهرها كونه إمامياً، ويمكن اتصافه بأدنى درجات الحُسن باعتبار رواية الأجلّة عنه»[24].
وبالنظر إلى النقطتين الآتيتين نستريح إلى الأخذ برواياته:
النقطة الأُولى: عدم ورود أي تجريح ـ أو طعن فيه ـ في الفهارس وكتب الرجال.
النقطة الثانية: رواية الأجلّاء عنه من الذين عُرفوا بالوثاقة، وشهدت بوثاقتهم المدوّنات الرجالية. ومنهم مَن عُرف عنه أنّه قلّ ما يروي عن الضعفاء مثل: علي بن حسن الفضال، فقد قالوا: إنّه لم يرو عن أبيه[25]، ومثل محمّد بن علي بن محبوب الذي يقول عنه النجاشي: «ثقة، عين، فقيه»[26]. وسعد بن عبد الله الذي صرّح الشيخ بوثاقته[27].
وأمّا حميد بن زياد، فقد روى عنه ـ كما يقول الشيخ ـ أ¬ُصولاً كثيرة. وقد وثّقه ـ كما قلنا ـ الشيخ والنجاشي والعلامة وابن شهرآشوب.
وهذه النقطة وتلك تجعل الإنسان يستريح إلى رواياته، ويطمئن إلى أن الرجل لم يكن وضّاعاً أو مخلّطاً، وإلّا لم يكن يأخذ برواياته الأجلّاء الموثقون من الرواة المتقدّمين.
وقد قال المحقّق المامقاني رحمه الله في ترجمة السكوني: «إن كثرة الرواية عنه من قبَل الأصحاب أمارة على وثاقته»[28]. وإذا توقفنا في دلالتها على الوثاقة، فلا أقلّ من الدلالة على حسنه وقوّته.
وقد كان القدماء من أصحابنا الأجلّاء يحترزون عن الرواية عن الضعفاء والمخلطين مباشرةً ومن غير واسطة. نعم، كانوا يتسامحون في الرواية عنهم بالواسطة، وكانوا يرون في الرواية عن الضعفاء مثلبةً[29].
ومهما يكن من أمر؛ فإنّا نستريح إلى روايات محمّد بن خالد الطيالسي في زيارة عاشوراء وغيرها؛ بناءً على هاتين النقطتين، ونرى أنّهما يكفيان في التحسين، إن لم يكفيا في التصحيح، والعمل بالروايات الحسان أمر شائع معروف مقبول عند علمائنا كالصحاح؛ بناءً على تقسيم العلامة وشيخه أحمد بن طاووس ..
سيف بن عميرة النخعي
وهو ثقة، قاله النجاشي[30]، والشيخ في الفهرست[31]، وابن شهرآشوب[32]، والعلامة في الخلاصة[33].
صفوان الجمال
وهو صفوان بن مهران بن المغيرة الأسدي الجمال كوفي ثقة، كما يقول النجاشي: «روى عن أبي عبد الله عليه السلام كان جمّالاً. له كتاب يرويه جماعة...» [34].
وفي الفهرست روى كتابه بطريق إليه عن السندي بن محمد عنه[35].
فرواية الشيخ الطوسي عن محمد بن خالد الطيالسي رواية معتبرة.
الرواية الثانية: رواية الشيخ عن ابن بزيع
روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في المصباح بسنده، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة، عن علقمة بن محمد الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام [36].
طريق الشيخ إلى ابن بزيع
يقول أُستاذنا السيد الخوئي عن طريق الصدوق إليه: «والطريق صحيح كطريق الشيخ، وإن كان في بعضها ابن أبي جيد»[37].
محمد بن إسماعيل بن بزيع
أمّا محمد بن إسماعيل بن بزيع، فقد قال عنه النجاشي: «من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم»[38]. وقال عنه الشيخ: «ثقة، صحيح» [39].
صالح بن عقبة
وهو مجهول لم يرد فيه توثيق.
سيف بن عميرة النخعي
تقدم الكلام فيه.
علقمة بن محمد الحضرمي
وهو من أصحاب الإمام الباقر والصادق علهيما السلام . له موقف مع زيد بن علي رضي الله عنه يرويه الكشّي، يدل على حُسن حاله[40]. لم يرد في توثيقه شيء.
فالسند تام ـ إذن ـ إلّا من ناحية علقمة بن محمد، ولا يضر وجود صالح بن عقبة في السند؛ لوجود سيف بن عميرة معه.
ولكن الرواية الأُولى المتقدمة عن الشيخ لزيارة عاشوراء ـ وهي رواية صفوان بن مهران الجمال ـ تشهد بصحة رواية علقمة.
فإن سيف بن عميرة يقول: «إنّ صفوان دعا بالزيارة التي رواها علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام في يوم عاشوراء» كما تقدّم.
وهي تدل على صحة رواية علقمة في هذا السند. ولا إشكال في بقية رجال السند، ولا في طريق الشيخ إلى محمد بن إسماعيل بن بزيع.
بل في هذه الرواية ـ التي يرويها الشيخ في المصباح، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة، عن صفوان ـ ما يدل على جلالة شأن علقمة بن محمد؛ فقد ورد في آخر الرواية: أنّ صفوان لما قرأ عليهم دعاء الزيارة، قال له سيف بن عميرة: إنّ علقمة بن محمد الحضرمي لم يأتنا بهذا عن أبي جعفر عليه السلام ، إنّما أتانا بدعاء الزيارة. فقال صفوان: وردت مع سيدي أبي عبد الله عليه السلام ... إلخ. وكأنّ سيف بن عميرة يقول لصفوان: إن كان هذا الدعاء وارداً بعد الزيارة لرواه لنا علقمة بن محمد، وهو يدل على درجة عالية من وثوق سيف بن عميرة برواية علقمة بن محمد الحضرمي، فيشرح له صفوان أنه سمع هذا الدعاء من أبي عبد الله الصادق عليه السلام مباشرة.
وكيفما كان، فإنّ اعتبار رواية الطيالسي يؤدي إلى اعتبار السند الثاني الذي يذكره الشيخ في المصباح لزيارة عاشوراء ودعائها.
المنهج الثاني:منهج الوثوق بالصدور بتجميع القرائن
يمكن إثبات صدق الرواية بالقرائن الموجودة في إسنادها، حتى على افتراض عدم ثبوت اعتبار الرواة، ولا منافاة بين نفي الاعتبار عن الرواة وصدق الرواية.
إذن؛ الفرق بين المنهجين أننا نتحدث عن وثاقة واعتبار الرواة في المنهج الأول، وعن صدق الرواية وصدورها في المنهج الثاني.
وقبل أن ندخل المنهج الثاني؛ ولأننا نستعمل كلمة الاستبعاد في هذا المنهج بصورة متكررة لا بد من توضيح لهذه الكلمة والعلاقة بينها وبين الاطمئنان.
معنى الاطمئنان والاستبعاد
الاطمئنان حالة نفسية متاخمة للعلم يتعامل معها العقلاء معاملة العلم؛ ولأن الشارع لم يُلغ هذا الاعتبار العقلائي يكون الاطمئنان حجةً كالعلم، ويترتب عليه ما يترتب على العلم من الحجية.
ومعنى الاطمئنان هو ركون النفس إلى ثبوت شيء.
وبخلافه الاستبعاد، فهو بمعنى ركون النفس إلى انتفاء احتمال الخلاف إلى حدود متاخمة للصفر؛ بحيث لا يعبأ به العقلاء ويلغونه من الحساب في مقام العمل، فهما متلازمان ووجهان لقضية واحدة.
فإذا دخلنا إلى بناية مشيّدة قوية البنيان نطمئن إلى حالة الأمن والسلامة في البناء إلى حدود متاخمة للعلم، ونستبعد حدوث الخطر إلى حدود متاخمة للصفر؛ بناءً على حساب الاحتمالات، وهو حساب علمي عقلائي يبني عليه العقلاء ويرتبون عليه الأثر إيجاباً أو سلباً.
ولا إشكال في أنّ الركون إلى انتفاء احتمال الخلاف يختلف عن حالة العلم بالانتفاء، ولكن العقلاء يتعاملون معه معاملة العلم بانتفاء احتمال الخلاف، وهو بمعنى إلغاء احتمال الخلاف في مقام العمل.
وكل منهما حجة عند العقلاء وعند الشارع.
أما الحجية العقلائية؛ فلأن العقلاء يتعاملون معهما معاملة العلم بالثبوت والعلم بانتفاء احتمال الخلاف.
وأمّا الحجية عند الشارع؛ فلأن الشارع لم يُلغ هذا الاعتبار العقلائي فيهما معاً، وعدم الإلغاء في أمثال هذه الموارد بمعنى الإمضاء، فهو بمثابة العلم عند الشارع ويترتب عليه ما يترتب على العلم من الحجية.
تحديد موضوع البحث
لسنا أمام مسألة فقهية؛ فليس في زيارة عاشوراء حكم فقهي. ولا مسألة عقائدية، ولو كانت مسألة عقائدية لم ينفعنا خبر الواحد، إلّا إذا كان محفوفاً بقرائن توجب القطع أو الاطمئنان.
ولسنا بصدد أن نعرف النص الكامل الصحيح الصادر عن الإمام أبي جعفر عليه السلام ؛ فإن إضافة كلمة أو نقصانها أو جملة لا تخلّ بالزيارة، وتحصل بها الزيارة، كما هو الشأن في اختلاف النسخ في سائر الزيارات والأدعية، وليس ذلك بمانع لنا من أن ندعوا الله تعالى بها أو نزور بها المعصومين عليهم السلام ، ما لم تُدخلنا الزيادة في بدعة أو مخالفة للكتاب والسنة، وما لم تكن النقيصة مخلّة بالغاية من الزيارة. وليس في زيارة عاشوراء شيء من ذلك.
وأما مسألة اللعن، فلا يوجد في النص الذي يرويه ابن قولويه رحمه الله ، والذي ورد من ذلك في المصباح، فقد تتبع المؤلف حفظه الله النسخ الخطية له، فلم يجد فيها هذه الجملة.
وعليه؛ فإن المسألة المهمة عندنا في هذا البحث أن نعرف هل أنّ نص الزيارة الواردة في كامل الزيارات ومصباح المتهجّد مجعول أم لا؟
ولمعرفة هذه المسألة لا بد أن نحصر الأشخاص الذين يمكن أن نتّهمهم بالوضع والجعل ممّن ورد ذكرهم في إسناد هذه الرواية لدى الشيخين ابن قولويه وأبي جعفر الطوسي ..
فنقول: أمامنا طرق خمسة إلى هذه الزيارة من خلال استعراض أسناد هذه الزيارة في كامل الزيارات والمصباح، وإليك هذه الأسانيد:
أسانيد الزيارة عند الشيخ الطوسي رحمه الله
1ـ محمد بن إسماعيل بن بزيع ← عن صالح بن عقبة ← عن أبيه ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
2ـ محمد بن إسماعيل بن بزيع ← عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة ← عن علقمة بن محمد الحضرمي ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
3ـ محمد بن خالد الطيالسي ← عن سيف بن عميرة ← عن صفوان الجمال ← عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام .
أسانيد الزيارة عند ابن قولويه رحمه الله
1ـ حكيم بن داود وغيره ← عن محمد بن موسى الهمداني ← عن محمد بن خالد الطيالسي ← عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة ← عن علقمة بن محمد الحضرمي ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
2ـ حكيم بن داود ← عن محمد بن موسى الهمداني ← عن محمد بن خالد الطيالسي ومحمد بن إسماعيل ← عن صالح بن عقبة ← عن مالك الجهني ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
الرواة الذين لم يرد توثيقهم في هذه الأسانيد
1ـ صالح بن عقبة.
2ـ عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة والد صالح.
3ـ علقمة بن محمد الحضرمي.
4ـ محمد بن خالد الطيالسي.
5ـ محمد بن موسى الهمداني.
6ـ مالك الجهني.
وهؤلاء لم توجه إلى أي منهم تهمة الجعل والوضع والكذب عدا محمد بن موسى الهمداني.
ومع ذلك، نحن ننطلق في هذه المطالعة الجديدة لأسانيد زيارة عاشوراء من منطلق افتراض أنّ كل واحد من هؤلاء الستة يمكن أن يكون عاملاً في انتحال هذه الزيارة؛ لنرى هل يصح هذا الافتراض أم لا؟
وإذا ثبت امتناع هذا الافتراض ـ أو استبعاده إلى حدود الامتناع العادي ـ في جميعهم أو جملة منهم تثبت بذلك صحة الزيارة.
وإذا انتهينا إلى إمكان هذا الافتراض توقفنا عن تصحيح الزيارة بهذا المنهج واكتفينا بالمنهج الرجالي المتقدم في إثبات صحة زيارة عاشوراء.
السند الأول والثاني عند الشيخ الطوسي
أقول: في السند الأول من الأسناد الثلاثة التي يذكرها الشيخ أبو جعفر رحمه الله لزيارة عاشوراء لا يمكن أن نتهم صالح بن عقبة بالوضع؛ لأن صالحاً يروي الزيارة بالاشتراك مع سيف عن علقمة في السند الثاني؛ فإنّ محمد بن إسماعيل يروي الزيارة في السند الثاني عن صالح وسيف معاً عن علقمة، ولا إشكال في وثاقة الراوي والمروي عنه وهما: محمد بن إسماعيل وسيف، وصالح شريك سيف في الرواية عن علقمة والتحديث بها لمحمد بن إسماعيل.
فلماذا ينتحل هذه الرواية، وقد سمعها حقاً عن علقمة.
ولا ريب في أن صالحاً قد سمع الرواية التي يرويها علقمة عن الإمام الباقر عليه السلام ، حتى لو اتهمناه بالوضع، إذ من الممتنع أن ينتحل هذه الزيارة، وهو لم يسمعها من علقمة مباشرة أو بواسطة، ثم يتطابق النص الذي انتحله، بعد فترة مع النص الذي يرويه علقمة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن انتحال هذا النص عمل عبثي، لا داعي إليه، ولماذا يكذب صالح وينتحل وله طريق حقيقي إلى رواية الزيارة عن علقمة بلا واسطة أو بواسطة؟!
فلا بد أن نصحح هنا رواية صالح، ونصدّقه في روايته، سواء وثّقناه أم لم نوثقه.
وأما أبوه، وهو عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، فمن المستبعد جداً تواطؤه مع سائر الرواة ـ الذين رووا هذه الرواية عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق علهيما السلام ـ على انتحال هذه الزيارة بصيغة واحدة، وهم أربعة على الأقل، وهم والد صالح، وعلقمة بن محمد الحضرمي، ومالك الجهني، عن أبي جعفر عليه السلام ، وصفوان عن الإمام الصادق عليه السلام .
ومن المستبعد جداً أن يتفقوا على انتحال نص بالكامل، ثم ينسبونه إلى أبي جعفر وأبي عبد الله علهيما السلام .
نعم، قضايا الانتحال كثيرة، ولكننا لا نعرف جماعة يتواطؤون على انتحال نص ونسبته إلى مصدر معين.
ولو صح ذلك لكان أمراً خطيراً للغاية، ويعني وجود عصابات في سلاسل الرواة يتفقون على انتحال النصوص وينسبونها إلى المعصومين عليهم السلام ، ويتواطؤون على روايتها عنهم.
ولو كان كذلك لافتضح أمرهم، وشهّروا بهم وأسقطوهم، ومن غير الممكن اختفاء أمرهم على حفاظ الحديث وشيوخ الرواية وأصحاب الجرح والتعديل الحريصين على ودائع النبوة والإمامة، ومن غير الممكن السكوت عنهم وعدم التحذير من رواياتهم..
إنّ احتمال حصول تواطؤ بين عدد من المحدثين على صياغة نصوص موحّدة في الأدعية والزيارات وغيرهما مثلاً، ونسبتها إلى المعصومين والتحديث بها أمر في غاية الاستبعاد.
وعليه؛ فإننا إذا وجدنا أنّ علقمة بن محمد الحضرمي، وعقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، ومالك الجهني، وصفوان بن مهران يروون نصاً واحداً، باختلافات يسيرة عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله علهيما السلام ، لا نحتمل أنّهم قد تواطؤوا على ذلك.
ولو كان يحصل شيء من هذا القبيل في زيارة عاشوراء من خلال شبكة منظّمة متواطئة على الوضع والجعل والانتحال بصورة جماعية، لم يقتصر أمرهم على زيارة عاشوراء، ولتوسّعوا في الجعل والوضع في الفقه والتفسير والعقائد والأدعية والزيارات، ولو وقع شيء من هذا القبيل من خلال مجموعة متواطئة من الرجال في أسانيد الأحاديث؛ لافتضح أمرهم بالضرورة، ولكثر التحذير منهم، والتشهير بهم، من خلال علماء الجرح والتعديل الحريصين على ودائع الوحي والنبوّة.
السند الثالث عند الشيخ الطوسي
وأما السند الثالث في المصباح ـ الذي يتصدره محمد بن خالد الطيالسي، برواية الشيخ عنه ـ فقد تبين رأينا في اعتبار رواياته. ومن غير الممكن التشكيك في روايته هذه؛ حتى بناءً على الرأي الآخر، وهو سلب الاعتبار عن رواياته؛ إذ لا يمكن اتهامه بوضع هذه الرواية على لسان سيف بن عميرة؛ فإن سيف بن عميرة يروي هذه الرواية حقاً عن علقمة بن محمد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام ، كما في السند الثاني، وهو ثقة في روايته..
فإن كان محمد بن خالد الطيالسي لا يعلم برواية سيف بن عميرة للزيارة عن علقمة، عن الإمام أبي جعفر عليه السلام ، فوضع هذه الزيارة فتطابقت تماماً مع النص الذي يرويه سيف بن عميرة ـ من باب الصدفة ـ فهو يكاد يكون مستحيلاً ممتنعاً؛ لاستحالة أن يضع محمد بن خالد الطيالسي نصاً ينسبه إلى سيف بن عميرة، ويصادف أنّ سيف بن عميرة يروي النص نفسه بالتمام عن علقمة عن أبي جعفر عليه السلام ، ومحمد بن خالد لا يعرف بذلك، وإن كان يعلم برواية سيف للزيارة عن علقمة، ثم يبادر إلى وضعها على لسان سيف ـ بالألفاظ نفسها في سند آخر ـ فهو أمر غير عقلائي جداً. ولا داعي إلى ذلك غير تكثير طرق الزيارة وهو سبب ضعيف جداً، لا يعبأ به العقلاء في محاوراتهم وإخباراتهم اليومية.
ولو كان محمد بن خالد الطيالسي بهذه المثابة من الاستهانة بأمر الوضع والجعل، والإقدام على الوضع بأدنى سبب لاشتهر أمره بين أرباب الجرح والتعديل.
وقد عرفنا أنّ الرجل لم يرد فيه أي جرح في المصادر الرجالية.
وعليه؛ فلا سبب يدعو إلى التوقف في قبول رواية محمد بن خالد الطيالسي في السند الثالث الذي يذكره الشيخ أبو جعفر. وسائر رجال السند موثوقون، وقد نصّ الأصحاب على وثاقتهم.
سندا كامل الزيارات
وفي السند الأول والثاني في كامل الزيارات يُتَّهمُ محمد بن موسى الهمداني بالوضع، ولكننا نستبعد ـ حسب المنهجية السابقة ـ أن يكون قد عمد إلى انتحال نص هذه الزيارة على لسان محمد بن خالد الطيالسي ومحمد بن إسماعيل بن بزيع[41]؛ فإن محمد بن إسماعيل بن بزيع يروي هذا النص عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة جميعاً عن علقمة، والسند فيما عدا علقمة تام.
ومحمد بن موسى الهمداني مطلع بالتأكيد على النص الذي يرويه محمد بن إسماعيل عن صالح وسيف جميعاً عن علقمة لتطابق النصين في كثير من فقراتهما، وإن اختلفا في بعض الفقرات.
ومن الممتنع عادة ألاّ يكون محمد بن موسى مطلعاً على هذا النص، فيضع نصاً على لسان محمد بن خالد ومحمد بن إسماعيل، متطابقاً مع النص الذي يرويه محمد بن إسماعيل، صدفة.
وهذا أمر مستبعد جداً إلى حدود الامتناع العادي.
واذا قبلنا أن محمد بن موسى الهمداني كان مطلعاً على رواية محمد بن إسماعيل بواسطة أو من غير واسطة، فليس هناك من داع إلى انتحال الرواية؛ فمن الممكن أن يرويها عنه بواسطة أو من غير واسطة. إلّا أن تكون غايته تكثير طرق النص، وهو أمر بعيد جداً، إلّا أن استبعادنا هنا أخفّ من استبعادنا ذلك في رواية محمد بن خالد الطيالسي.
وأما الكلام عن مالك الجهني الذي يروي نص الزيارة عن الإمام الباقر عليه السلام ، فنقول ـ وفق المنهجية التي تحدثنا عنها من قبل في تصديق رواية علقمة ـ: إننا نستبعد جداً تواطؤ هؤلاء الثلاثة عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، وعلقمة بن محمد، ومالك الجهني على انتحال رواية عن الإمام الباقر عليه السلام . وقد عرفنا أنّ في رواية سيف بن عميرة عن صفوان تصحيحاً وتأكيداً لرواية علقمة عن الإمام الباقر عليه السلام .
وبعبارة أُخرى نقول: ليس بين أيدينا أكثر من حالتين ممكنتين ثبوتاً، وسائر الحالات افتراضات ضعيفة جداً:
الحالة الأُولى: أن يتواطأ الراويان ـ أو يتواطأ الرواة ـ على انتحال نص في الدعاء، أو الزيارة، أو حكم شرعي، أو حدث تاريخي وغير ذلك، وهذا المعنى وإن كان ممكناً ثبوتاً، ولكنه مستبعد جداً من الجهة الإثباتية، فلو كان شيء من هذا القبيل يحصل في طرقنا ورواياتنا لما أمكن التكتُّم عليه؛ ولاشتهر أمره في كتب الجرح والتعديل؛ ولبادر علماء الرجال والجرح والتعديل إلى نَبْذه والتشهير بمَن يقوم به، ولا يمكن السكوت عنه.
وعليه؛ فإن عدم تصريح علماء الرجال من المتقدمين والمتأخرين بحالات من أمثال ذلك يساوق عدم وجوده؛ أي عدم الثبوت يساوي ثبوت العدم.
الحالة الثانية: أن ينفرد كل واحد منهم بوضع النص، فيتطابق النصّان أو النصوص صدفة.. وهذا الاحتمال بموجب حساب الاحتمالات، أبعد من الاحتمال الأول، حتى مع وجود اختلاف يسير بين النصوص، كما في زيارة عاشوراء، فهناك اختلاف بين النص الذي يرويه ابن قولويه في الكامل والنص الذي يرويه الشيخ في المصباح.
أما سائر الحالات، فهي ضعيفة جداً أو يؤول أمرها أخيراً إلى واحدة من الحالتين اللتين حكمنا عليهما بالاستبعاد بمعنى إلغاء احتمال الخلاف رأساً عند العقلاء وفي الشرع.
أقول: وعليه؛ فإنَّ الغاية في الدراسات السندية لأمثال هذه النصوص إثبات أنّ النص ليس منتحلاً بالكامل، كالزيارة المفجعة، ودعاء حُبّي، ودعاء كنز العرش من الأدعية المجعولة على ما يذكره المحدث الشيخ عباس القمي رحمه الله في مفاتيح الجنان؛ حيث يشكو بمرارة من انتحال الأدعية والزيارات.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنّ بعض ما ذكرنا هنا يكفي للاطمئنان إلى أنّ النص الذي يرويه علقمة وغيره من الأصحاب في زيارة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء قد ألقاه وأملاه الإمام الباقر عليه السلام ، بل والصادق عليه السلام أيضاً على أصحابهم وشيعتهم في زيارة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وليس بمزوَّر ولا مُنتَحل ولا موضوع.
ثمَّ من المؤكَّد أن هذه الزيارة قد شاعت شياعاً واسعاً في أجواء المؤمنين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويواظب عليها علماء الطائفة، ولم تكن تخفى عليهم الملاحظات التي تُذكر، ولن يهابوا الناس في نفيها، إلّا أنهم كانوا لا يعبأون بهذه الملاحظات لسببين:
السبب الأول: النقاط التي أوردناها في هذه المقالة على تلك الملاحظات.
والسبب الآخر: عدم جدوى إثارة التشويش حول هذه المسائل، ما لم تتضمن بدعة في الدين، أو مخالفة للكتاب والسنة. وقد علمنا أن هذه الزيارة لا تتضمن شيئاً من ذلك..
وأما مسألة اللعن، فقد ناقشها المؤلف بتفصيل، بل خصص لها أغلب صفحات كتابه.
على إننا إذا تجاوزنا ذلك كله، فقد وردت روايات صحيحة، من دون شك في استحباب زيارة الحسين عليه السلام مطلقاً، في يوم عاشوراء بصورة خاصّة، من دون التقييد بنصّ خاص، ومن ذلك:
ما يرويه الصدوق في عيون أخبار الرضا والأمالي، بسنده عن الريان بن شبيب ـ خال المعتصم ـ قال: «دخلت في أول يوم من المحرم على الرضا عليه السلام ، فقال لي:...يا بن شبيب، إن سَرّك أن تلقى الله } ولا ذنب لك فزر الحسين»[42]. والرواية صحيحة.
وما يرويه الشيخ في التهذيب، بسنده عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: «مَن زار قبر أبي عبد الله عليه السلام يوم عاشوراء عارفاً بحقه كان كمَن زار الله تعالى في عرشه»[43].
وزيارة عاشوراء المعروفة واحدة من مصاديق زيارة الحسين عليه السلام ، فهي مشمولة بما ورد في الروايات المطلقة من الأجر والثواب، ومستحبّة، ويصح التعبد بها، كأي نصّ آخر، إلّا أن يكون في النص ما يخالف الكتاب وما صحّ من السنّة الشريفة، وليس في زيارة عاشوراء شيء من ذلك.
والتحقيق الواسع الذي أجراه المؤلف في النصّ الذي يرويه الشيخ في المصباح يرفع الشبهة التي يتوقف عندها المؤلف.
فليس من سبب للتوقف في استحباب هذا النصّ وإيجابه للأجر والثواب الذي يبتغيه المؤمنون منه.
مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الرابع
الكاتب: آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي
________________________________________
[1] يعني طلب صفوان الزيارة التي رواها علقمة. ويمكن أن تكون (دعا) بمعنى زار تجوزاً، أو لما في زيارة عاشوراء من الدعاء، ولكن المعنى الأوّل أظهر. أو يكون المعنى: فطلب صفوان متن الزيارة، وهو احتمال ضعيف.
[2] الطوسي، مصباح المتهجد: ص777. المجلسي، بحار الأنوار: ج101، ص296 ـ300.
[3] الطوسي، الفهرست: ص634.
[4] الخوئي، معجم رجال الحديث: ج3، ص122.
[5] المصدر السابق: ج3، ص121.
[6] المصدر السابق: ج3، ص121.
[7] اُنظر: المصدر السابق: ج3، ص122.
[8] المصدر السابق: ج3، ص122.
[9] رجال النجاشي: ص44.
[10] الخوئي، معجم رجال الحديث: ج3، ص122.
[11] المصدر السابق: ج1، ص41.
[12] قال العالم المحقق خليل بن الغازي القزويني في شرح (واستثنوا الرجال): «أي التصانيف التي رواها الرجال مثل ما روي عن ابن الوليد أنه قال: ما تفرد به محمّد من كتب يونس لا يُعتمد عليه».
[13] الطوسي، العدة: ج1، 366. بشرح القزويني وتحقيق الشيخ محمد مهدي نجف.
[14] المصدر السابق: ص337 ـ 338.
[15] الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج20، ص102.
[16] ومن ذلك ما ذكره الشيخ النجاشي رحمه الله في ترجمة أحمد بن عيسى؛ حيث ينقل عن ابن نوح كتبه، فيروي له ابن نوح كتبه، وفي سند ابن نوح أحمد بن محمّد بن يحيى أيضاً. اُنظر: رجال النجاشي: ص60.
[17] الماماقاني، تنقيح المقال: ج2، ص95، الطبعة الحجرية.
[18] الطوسي، الفهرست: ص228.
[19] الطوسي، رجال الشيخ: ص499، في مَن لم يرو عن الأئمة عليهم السلام رقم 54.
[20] الطوسي، الفهرست: ص114.
[21] النجاشي، رجال النجاشي: ص132.
[22] خلاصة الأقوال، العلامة الحلي: ص 436.
[23] معالم العلماء، ابن شهرآشوب: ص 79.
[24] تنقيح المقال ج3، ص114، الطبعة الحجرية.
[25] معجم رجال الحديث، السيد الخوئي: ج 12، ص 362.
[26] رجال النجاشي، النجاشي: ص 349.
[27] الفهرست، الشيخ الطوسي: ص 135.
[28] مقباس الهداية للمحقق المامقاني (ملحق بكتاب الرجال:ص 78، الطبعة الحجرية).
[29] لقد نصّ النجاشي بأنّه يتجنّب الرواية عن الضعفاء في مواضع من كتابه. منها قوله في ترجمة أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن عياش: «رأيت هذا الشيخ وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو عنه شيئاً وتجنبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي...» رجال النجاشي:ص 63.
وقال في ترجمة محمّد بن عبد الله بن عبيد الله بن البهلول: «وكان في أوّل الأمر ثبتاً ثمّ خلط ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه... إلى أن يقول: رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً، ثم توقفت عن الرواية عنه إلّا بواسطة بيني وبينه». رجال النجاشي: ص282.
وهذه النقطة وإن كانت من خصائص الشيخ النجاشي رحمه الله وبعض أصحابنا، إلّا أنّها تعكس لنا عن منهجيّة الثقات والرواة الأجلّاء من القدماء في التحرز عن الروايات عن الوضّاعين والضعفاء والمخلطين، وقد يذهب بعض إلى وثاقة مشايخ الثقات مطلقاً، إلّا من يثبت له خلافه.
وهذا مبنى ضعيف، بلا شك، ولكن عدم توقف ثقات الرواة عن الرواية عن شخص، وإكثار الرواية عنه يكشف عن حُسن حال الراوي، وهذا المقدار يكفي في الرواية عنه، إلّا أن يثبت خلافه بدليل، والشواهد على ذلك عديدة في الرواة.
يقول السيد محسن الأعرجي الكاظمي ـ في كتابه (عدة الرجال) في الأمارات على الوثاقة ـ: «ومنها كثرة تناول الأجلاّء منه وروايتهم عنه، بل إكثار الجليل المستخرج فی روايته عنه». عدة الرجال: ص134.
[30] النجاشي، رجال النجاشي: ص189.
[31] الطوسي، الفهرست: ص140.
[32] ابن شهرآشوب، معالم العلماء: ص91.
[33] العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: ص160.
[34] اُنظر: النجاشي، رجال النجاشي: ص198.
[35] الطوسي، الفهرست: ص147.
[36] الطوسي، مصباح المتهجد: ص772ـ773.
[37] الخوئي، معجم الرجال: ج15، ص100.
[38] النجاشي، رجال النجاشي: ص330.
[39] الطوسي، رجال الطوسي: ص364.
[40] الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص714.
[41] نحن نحتمل ما يرجّحه المؤلف (حفظه الله) من أن مقصود الشيخ ابن قولويه من قوله: وكذلك محمد بن إسماعيل، عطف محمد بن إسماعيل على محمد بن خالد الطيالسي؛ نظراً لتناسب الطبقة بينه وبين محمد بن خالد الطيالسي وعدم تناسب الطبقة بينه وبين الشيخ ابن قولويه.
[42] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج1، ص268ـ269. الشيخ الصدوق، الأمالي: ص192ـ193.
[43] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: ج6، ص51.
اترك تعليق