استمد الحرف العربي قدسيته من القرآن الكريم ، فقد اصبح رمزاً إسلامياً خالصاً بما يتضمنه من معانٍ ودلالات رمزية وفق محل تواجده في العمل الفني وما يتعلق به من الرموز الإسلامية والبنى المجاورة الاخرى التي زادت من وظيفته التزيينية والجمالية اضافة الى المعرفية .
لا شك في ان الخط العربي قد أصبح مظهراً من مظاهر الجمال الساحر بعد أن كان وسيلة لتوثيق وتناقل العلوم بين الناس ، فالفنان المسلم حرك الخطوط الجافة ولاعبها ومازجها برقوشه وزخارفه المميزة حتى غدت لوحات فنية تبهر الناضرين ، فأستخدم الكتابة في قوالب زخرفية ليعكس نوعاً منفرداً من التعبير عن بعض القيم الجمالية المرتبطة بقيمه العقائدية ، فأفرغ كل طاقاته في كتابة الآيات ألقرآنية على الجدران والمداخل والمنابر ليحملها شكلاً فنياً مبنياً على أسس جمالية وعلمية رياضية بحتة.
فقد عُدّ الخط العربي وسيلة شكلية موسومة لتأليف منظومة كلامية مقروءة على أساس لغوي يضم إليه نسقاً من الوحدات والرموز المستخدمة لأغراض وظيفية وجمالية ، تؤلف بمجملها نسقاً تدوينياً ذا طبيعة انسيابية مرسلة تتصل ببعضها البعض في كيان واحد لتشكل نصاً مفهوماً ومن ثم تخلق إيقاعاً حركياً ديناميكياً يحاكي المتلقي ويؤثر فيه .
لا ينفصل عمل الفنان المسلم بأية حال من الأحوال عن فكرته ونظرته إلى العالم أو عن سائر أنشطته اليومية ، فنجده بطبيعة الحال مدركاً لما بين الروح والمادة من امتزاج ، فضلاً عما في حياته من منافع وجمال يقتضي منه الجمع بين قضاء حاجاته الضرورية وتلبية حاجاته الروحية والوجدانية ، من دون أن يطغي جانب منهما على الآخر، وهذا ما سعى الى تحقيقه جاهداً مبدع لوحة ( الحروف الدائرية ) الفنان التشكيلي العراقي الراحل قتيبة الشيخ نوري .
ولد النوري في بغداد عام 1922م وقد احب الفن ومارسه كهواية منذ بداياته الاولى حتى تخرج من كلية الطب عام 1949م وتوغل في الفن التشكيلي الى جانب اختصاصه بطب الأنف والاذن والحنجرة ، وقد اقام العديد من المعارض
على قاعة جمعية التشكيليين في بغداد ، ونشر العديد من الدراسات المتسمة بالتحليل العلمي في مجلات عربية وعالمية إضافة الى القاءه محاضرات عديدة عن الفن البصري و خواص الحرف العربي ، واستمر قتيبة الشيخ بعطاءه الفني حتى وافته المنية عام 1979.
نفذ المنجز اعلاه عام 1970م بتقنية الزيت على قماش الكانفاس بأبعاد80*80 سم والذي مثله الفنان بتكوين هندسي دلالي بدوائر متداخلة ومتراكبة وبألوان عدة منها الأصفر والأزرق السمائي والأحمر الفـــاتح والغـامق وبعض الرمادي والأخضر ، فالمفردات شكلت بأشكال حروفية بهيئة دوائر تتداخل فيما بينها مرة وغير مكتملة مرة أخرى كأنها الأهلة .
تنسحب عين المتامل في تفاصيل اللوحة ومفرداتها الى اشكال الاهلة والدوائر المنتشرة على اطرافها وفيما بينها ، فقد عمد قتيبة الشيخ الى تنفيذ هذا العمل الابداعي بأسلوب التجريد الهندسي لأشكال دائرية بهيئة الحروف العربية ، فتنظيم التكوين قائم على العشوائية في توزيع العناصر نتيجة تداخل الدوائر فيما بينها ، ويظهر جلياً للمشاهد ان الفنان اعتمد على التكوين الخطي واللوني في إبراز أشكال مفرداته .
احتلت أشكال الحروف مركزاً سياديا في اللوحة ، ولكن حرف القاف (ق) كان له النصيب الاكبر من السيادة نتيجة كبر حجمه ولونه الأصفر الجذاب ، واستطاع الفنان ايضاً ان يحقق نوعاً من الإيقاع الرتيب بين الاشكال ، حيث تباينت المفردات في لونها وحجمها بل وحتى في المسافات الفاصلة بينها ، لكنها من جانب آخر تشابهت في تمثيلها لدوائر متكاملة وغير متكاملة تشبه الأهلة وزعها الفنان في المركز الأكبر للتكوين تاركاً قليلاً من الفضاء خلفها ، بغية خلق توازن في المساحات واستقرار الاشكال في وسط اللوحة وانسجامها مع بعضها البعض ليكسب المشهد جماليةً استثنائية.
هذا وقد وظف الفنان أشكال الحروف بهيئة دوائر ليجعلها رموزاً إسلامية ، وهنا نلمس تحولاً دلالياً واضحاً ، فالدائرة كرمز هي الأقرب في التعبير عن الاستمرارية واللانهاية ، وتداخلت في هذه الرائعة الفنية مع أشكال الحروف العربية التي لها قابليات تشكيلية لا محدودة ، من حيث امتلاكها لأبعاد حضارية إسلامية ، فالحرف العربي يمتلك مضموناً قدسياً مستمداً من القرآن الكريم حيث نجد العديد من السور والآيات الكريمة تبدأ بأحرف متفرقة ، لهذا يحمل الحرف العربي مضمونا قدسياً وبعداً روحياً .
كذلك يمتلك الحرف قيمة جمالية مستمدة من قوامه وطريقة تشكيله ، فاختيار الفنان للأحرف الثلاثة ( ق ، ن ، و ) عائد لمرونتها وقابليتها على التشكيل ، وجعلها رموزاً إسلامية لأنها تشكَل بطريقة الأقواس والدوائر ، فضلاً عن انها تحمل بطياتها مضامين كثيرة ، اما الهلال فهو الرمز الإسلامي الأول الذي يحمل مضموناً فكرياً يرتبط بتحديد أشهر السنة القمرية وخصوصا شهر الصيام والأعياد الإسلامية .
أفصح الفنان عن مضمون الرمز الإسلامي بحرفية واحساس عاليين من خلال تضمينه للأشكال الخارجية سواء في الحرف أو في رمز الهلال ، فالتكوين العام لأشكال الحروف الدائرية وتماسكها وتداخلها وانسجامها مع بعضها البعض زاد القيمة الجمالية للعمل الفني ، إضافة لاستخدام الفنان المحترف للون وربطه بعلاقة وشيجة بالخط والشكل وبالتالي الوصول الى التعبير الصريح عن مدلولاته الدينية والاجتماعية والانفعالية مما ساعد في كشف القوة الروحية التي يمتلكها الحرف العربي واظهار جماليته الخالدة.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق