يُعد التجريد من السمات الاساسية للفنون الاسلامية بشتى انواعها فهو الذي منحها خصوصيتها وضمن خلودها، وجعل منها تراثا خالدا ومتجذرا في الحضارة العربية الإسلامية وحتى العالمية ، فقد ابتعد الفنان المسلم عن المحاكاة والنقل المباشر لأشكال الموجودات في الطبيعة ليحيلها الى رموز مميزة بعد اعادة تشكيلها بطريقة متماسكة تجمع بين التجريد والحركة ، فعمد على انتزاع الكلي من الجزئي بتخليص المعنى من المادة ، كما هو الحال في ابداع الفنان المسلم للزخارف الاسلامية والاشكال الادمية والحيوانية ، والتي تمكن فيها من استحضار الاشياء من غير أن يرتبط هذا الاستحضار بالوجود المادي المشروط بالمكان والزمان .
اللوحة اعلاه احد الابداعات الفنية الفريدة التي جمعت بين مجموعة من الاشكال الرمزية التي تقترب الى التكوينات الزخرفية الاسلامية ، وهي من ابداع الفنان التشكيلي العراقي ( عامر العبيدي ) تحت عنوان ( خيول مزخرفة ) ، وقد انجزت بتقنية الزيت على القماش بأبعاد (1م×2م ) .
ولد العبيدي في مدينة النجف الاشرف في العراق عام 1943 في كنف عائلة شجعت فيه ميوله ونزعته الفنية حتى حصل على شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة عام 1969 من جامعة بغداد و عمل بتدريس الفن داخل العراق وخارجه فضلاً عن ، عمله في وزارة الثقافة العراقية كصمم للكثير من الكتب و المجلات و الملصقات، وقد تقلد عامر العبيدي عدة مناصب فعمل كمدير للمعارض الفنية في العراق و مديراً للمتحف القومي العراقي ، وقد عرضت اعماله الابداعية على الصعيدين المحلي والعالمي .
في هذه اللوحة و من خلال الأسلوب التجريدي المائل للتشخيص نتلمس البناء التكويني الذي مثل به الفنان مفردات مشهده التصويري، فهو يميل إلى البناء الزخرفي المحتوي على رموز تشبه التكوينات الزخرفية في الفن الإسلامي ، فالفنان وزع مفردات المشهد بإيقاع متساوٍ ومتوازن معتمداً على مبدأ التكرار لمفردة الخيل ، فأشكال الخيول تكاد تكون متماثلة مستقرة في حركتها ، لولا حركة الحصان في الوسط الذي أومأ برأسه إلى أسفل والأخير الذي تنخفض قامته عن باقي الخيول واندمج جسده بباقي الاجساد الزخرفية .
عمد الفنان الى موازنة مفردات المشهد الرئيسية و أشكال الخلفية ايضاً كالبوابات الإسلامية والقباب المرتفعة فوقها ، محققاً بذلك قيماً جمالية وتشكيلية اعتماداً على العلاقات القائمة بين المفردات التشكيلية .
أما الفضاء العام للمشهد فهو يمتلك بعداً رمزياً وفيه يتجلى تأثير الفن الإسلامي ، فهو مزدحم وزاخر بالمفردات ، من حيث ملء الفراغات المتمثلة في حركة أرجل الخيول التي ترتفع مرة وتنخفض مرة أخرى لتعبر عن البعد الزمني لحركة التأريخ .
استخدم الفنان الألوان الحارة كالأحمر والبرتقالي والأصفر والبني والتبني ليوحي بالمناخ الحار الشبيه بالصحراوي ، كما استخدم بعضاً من الألوان الزرقاء الباردة محاولة منه لتخفيف حدة ذلك المناخ وموازنة ألوان المنجز ، فضلاً عن استخدامه للون الأبيض الذي ادخله الفنان في وجوه الخيول ليحمله قيمة تعبيرية رمزية مثلت الحيرة والجموح ، وشكلت الألوان بمساحات هندسية لا وجود للمنظور اللوني فيها ، ماعدا المنظور الخطي الذي أفصحت عنه أشكال القباب البعيدة بالنسبة لأشكال الخيول .
ومن خلال توزيعه للألوان اوجد الفنان الانسجام والتناغم اللوني في وقت تناقضت الأشكال والمساحات مما حقق إيقاعاً حركياً في المشهد أسهم بدوره في كسر السكون والجمود الذي ساد أشكال الخيول ، فاحتلت الخيول عنصر السيادة وشكلّت عنصر الجذب البصري.
يستمد الفنان مقومات فنه من بيئته وواقعه مستخدماً الاختزال والتجريد لمفرداته التي يستلهمها من التراث الإسلامي ويعبر عنها بتقنية جديدة وروح معاصرة ، ولأن الفنان يبحث عن أسرار الطبيعة عبر أشكاله المزخرفة التي تتخذ نسقاً جدارياً شديد الاختزال ، لذا فهو يوظف مفردة الخيل التي يسكب عليها صبغة رمزية إسلامية ليحيلها إلى رمز إسلامي، ذلك لأن دلالة الرمز تتغير بتغير السياق الذي يرد فيه ، حيث وردت مفردة الخيل رمزاً ضمن المناخ الإسلامي المتمثل بالعمائر الإسلامية والقباب والأهلة ، وحملها الفنان زخارف بتشكيلات هندسية تشبه زخارف السجاد الإسلامي .
حرص الفنان في هذه اللوحة على إظهار المناخ الشعبي والإسلامي (( اضافة الى اشكال الخيول التي اكسبها مركزاً سيادياً متعدداً بين الاشكال الاخرى )) وذلك من خلال توظيفه أشكال العمائر كرموز إسلامية عبرت عن أجواء المدينة الإسلامية بقبابها وأقواسها وأهلتها ، فضلا عن الجوانب الروحية المقترنة بتلك الأجواء ، فوزع الفنان مفردة الباب الإسلامي على خلفية المشهد الذي صور به الخيول المتجهة الى اليمين ووازنها وجعل شكل القبتين بلون اصفر وقد زخرف أسفلهما ويتوسطهما هلال مفتوح إلى الأعلى ، فكانت هذه الرموز الإسلامية بمثابة وسيلة إسناد لأشكال الخيول و صبغتها بالصبغة الإسلامية ، فضلاً عن دلالتها الاجتماعية المتمثلة بأجواء المدينة وارتباط الإنسان بها ، لذا حمل هذا التكوين الفني قيمة تشكيلية تمثلت بالعلاقات التشكيلية التي وجدت بين مفردة الخيول فيما بينها من جانب وبين أجواء المدينة الإسلامية من جانب آخر ، و القيمة الجمالية المتمثلة بتناسق و أشكال الرموز فضلاً عن ، والقيمة التعبيرية الرمزية التي اوحت بها الرموز الإسلامية في هذا العمل الفني الرائع .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق