إتسمت الأشكال في فن حضارة وادي الرافدين بطابع تجريدي متنوع ، تماهياً مع طبيعة التفكير المجرد للعقلية الرافدينية في بحثها عن المطلق عبر جدلها المستمر في ساحة الفناء والخلود ، لذا تسامت الأشكال عن الارتباط بكل ما هو حسي ملموس لتتخذ طابعاً تجريدياً وهي تحمل بين ثناياها قيماً جمالية روحية قابعة خلف تمظهرات اشكالها ، لتشكل بالأخير منطلقاً لإبداعات تتوافق فيها الذات مع الموضوع .
اللوحة اعلاه احدى الابداعات الرافدينية الاصيلة التي تحمل توقيع الفنان العراقي الراحل ( اسماعيل الشيخلي ) وهي من المنجزات الفنية الخالدة للفنان فهي مثال لحالة التوافق بين الشكل والمضمون بألوانها المبتهجة بنور الشمس وسحنات اشكالها الترابية السمراء .
الشيخلي من مواليد مدينة بغداد عام 1924 وقد أتم دراسته الاولى للفن بمعهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1945 م ، ومن ثم اكمل دراسته بمعهد الفنون الجميلة العليا ( البوزار ) بباريس1951م ، وهو احد المؤسسين الاوائل لجمعية الفنانين العراقيين 1956م والزميل الأول لجماعة الرواد 1945م.
حاول الفنان اسماعيل الشيخلي إعادة بناء مظاهر موضوعاته المرسومة من خلال تأثره بالأبعاد الفكرية والثقافية لحضارات العراق المتعاقبة ( السومرية والأكدية والبابلية والآشورية ومن ثم حضارات العصور الإسلامية ) والتي مثلت أصول إبداعه وتجذره ، فأنشأ في الكثير من لوحاته اشكالاً لأشخاص مترابطين ضائعي الملامح في محيط محدد كل ما فيه واضح عدا ملامحهم ، ونرى ذلك جلياً في هذه اللوحة والتي تتميز بأنها تحمل خليطاً من ثقافات وحضارات مختلفة مرت على العراق فضلاً عن الملامح المميزة للبيئة العراقية برمالها الصفراء وشمسها المحرقة .
اللوحة اعلاه تحمل عنوان ( زيارة ) وقد انجزت تفاصيل اشكالها عام 1971 م وبتقنية الزيت على القماش ، ويبدو فيها ان الفنان قد اعتمد على تجربته الهندسية حيث جعل المرقد او المزار الذي يحوي القبة الذهبية والمئذنة نقطة التمركز في الموضوع والـــذي شغل أعلـــى وسط المنجز، لتحل على جانبيه مجموعة من الخيام التي مثلت باللون البني و الأصفر الترابي فيما تتقدمه كتل شخصيات النساء التي تتوزع على جانبي الطريق المؤدي إلى المزار ، وهي مميزة بالوان الأسود للعباءة العربية والأحمر والأزرق والأصفر والأبيض لباقي ملابسهن الممتزجة مع باقي الوان الاشكال مع رمال الارض بلونها الذهبي .
لو تأملنا البناء التركيبي للمشهد برمته لتمكنا من الإحساس بالمعالم الجمالية التي يوليها الفنان لهذا العمل الابداعي ، فالتوازن الحاصل بين مساحات المشهد التي تتوزع على جانبي الشكل الرئيسي" المتمثل بالمرقد او المزار" يضفى رصانة للإنشاء من خلال توزيع مفردات المشهد بشكل متناظر على الجانبين ، في حين نجد إن الخطوط تتداخل مع ضربات فرشاته المجردة التي مثلت بها ألوان شخصيات النساء المختزلة والبسيطة ، فقد استعاض الفنان عن ملامح الوجوه وتقاسيمها بضربات لونية مموهة للتفاصيل ، ولذلك نلاحظ إن إيقاعية الألوان في هذا التكوين اللوني تخلق نوعاً من الديناميكية داخل المشهد في الوقت الذي يحافظ المشهد على انسجام وتناسق الوانه واشكاله ، أما الفضاء فلا نكاد نرى فراغاً إلا في أعلى المشهد وهو متداخل بين سماء الموضوع الانشائي وأرضيته حيث نراهما مندمجين في جو يوحي بالاستمرارية واللانهائية.
اهتم إسماعيل الشيخلي بتوظيف الرمز الإسلامي كشكل يمكننا إدراكه في أعماله فهو ثابت ومميز ، لذا يستعين بشكل المرقد عنصراً رئيساً يمثل العنصر السيادي ومركز استقطاب الاشكال في المنجز وأداة الربط بين مفردات الموضوع ويوظفه في منجزه ليجعل منه بؤرة ضوئية من خلال إعطائه اللون الذهبي ، ومن ثم يوزع باقي الأشكال المستوحاة من واقع الإنسان العربي والعراقي على وجه التحديد كأشكال الخيام وكذلك شخوص النساء وازيائهن الأصيلة.
اما المضمون الاجتماعي المتمثل بالزيارة فقد احتل مكاناً مهماً في منجزات الفنان ،الأمر الذي جعله يجسده بصورة تجريدية هندسية فيها نوع من التشخيص متأثراً بقرينه الفنان المسلم ، فبساطة الألوان وصراحتها وما تحمله من معان رمزية نجدها في أعمال المنمنمات الاسلامية الاولى .
والجدير بالذكر هنا ان الفنان ركز جل اهتمامه على إظهار العنصر النسوي في اللوحة بعيدا عن العنصر الرجالي مصوراً بذلك الاضطهاد الديني والثقافي الذي مر به الشارع العراقي في وقت سابق ، حيث منعت زيارة مراقد أهل البيت (عليهم السلام ) و كانت مقتصرة على النساء الى حد ما ، ومن هنا نرى سعي الفنان الى ابراز اهمية الاضرحة الدينية والاماكن المقدسة لما تحمله من قيمة مثالية وروحية وجمالية مما يعكس تأثره فكرياً ودينياً بالموروث الإسلام ومن ثم اسقاطه في عالم الاشكال والالوان بأبهى صورة .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق