من الطبيعي أن يعمد أي فنان مغترب الى عرض بيئته التي ولد وترعرع فيها في لوحاته الفنية لتكون مزيجاً رائعاً من حضارته العريقة وذكريات تراثه المحلي الجميل الذي انغمس فيه ، مستفيداً من تصوير الأجواء الحالمة بالإرث الشرقي وإن ابتعد عنها ، لتكون لوحاته امتداداً للمسات وتراتيل إبداعية موغلة في هذه الأرض العريقة - وإن كانت الترتيلة القديمة تأتي وكأنها تسجيلا لموقف ما قد مرّ به الفنان - لكنها اصبحت شغله الشاغل ليتبنى خطٍّاً تشكيلياً مميزاً اتخذه لينجز ابداعاته البصرية والبحثية معا ، ذلك هو اسلوب الفنان العراقي المغترب سعدي داود .
اللوحة اعلاه من ابداعات الفنان العراقي المغترب سعدي داود وهي تحمل عنوان ( الخيمة ) ، وقد انجزت عام 1982 بتقنية الزيت على قماش الكانفاس وبأبعاد 80 × 60 سم .
عمد داود في هذه اللوحة على ملء مساحة اللوحة وعدم ترك أي مساحة فارغة فيها حيث ملئها بالكتل والاشكال المتزاحمة بشرية كانت او عمارية وحتى حيوانية ، مميزاً يذلك التزاحم توقه المتواصل الى وطنه واستحضار الماضي الجميل بتقنيات الحاضر.
يجسد العمل تجربة تشكيلية من تجارب الفنان ذات الاشكال الطرازية الابداعية ، فنلاحظ ان اللوحة اتت بتوليفة جميلة من الاشكال والالوان ، كان قوامها متكوناً من مركز للوحة يتمثل بشكلين آدميين يقفان متجاورين في أقصى يسار اللوحة احدهما يرتدي غطاء رأس كانه عباءة ملونة والأخر اقصر منه قامة ، وهما يقفان أمام كتلة هندسية هائلة أشبه بضريح مقدس او مسجد ما ، وهي مؤلفة من مزيج تراكبي من أشكال المربعات والمستطيلات هندسية منقوشة كأنها نقوش البسط الشعبية العراقية الفلكلورية يرتفع فوقها هلال كبير ، و يظهر في يمين وسطها مدخل يرتفع فوقه كف ازرق اللون ، مستلهماً بذلك الكثير من جماليات الموروث من خلال توظيفه للأشكال الفنية في البسط الشعبية بصيغة زخرفية تزيينية متحققة بتبسيط واختزال المساحات اللونية التي تظهر لنا بطلاء مسطح قليل الحركة .
أظهر الفنان تآلفاً ينم عن خبرة بآلية المسطحات التشكيلية لخلق صورة شرقية عن طريق انبساط الصورة وبساطة الشكل ، اضافةً لسعة الفضاء الذي كان له دور كبير في إبراز الشكل الفني ومنحه حضوراً مميزاً وجمالية اعلى ، حيث يرى المتأمل للوحة ان الفنان استطاع باحتراف أن يتوصل إلى الشكل التجريدي عن طريق الاختزال والتشذيب في الأشكال الفنية التراثية ، التي كانت وما تزال تمثل شاخصاً حضارياً دون أن ينساق إلى الشكل التجريدي المطلق ، فالمفردات التصميمية التي يستند إليها العمل الفني لها مرجعياتها الشرقية فالهلال و القبة ، والكف وأشكال البسط الشعبية وألوانها الزاهية تتجمع بنسق عال من الرهافة وجمال البناء في تصميم تجريدي ذي ملامح شرقية عراقية واضحة، وهو بذلك قد أضاف طروحات شكلية جديدة لطروحات من سبقه من الفنانين العراقيين من خلال وعيه لمغزى الماضي والحاضر .
أما فيما يخص آلية تنفيذ الفنان للعناصر المكتظة على السطح التصويري فإن الخط كان يتشكل من خلال التقاء لونين مع بعضهما دون أن يتداخلا عن طريق التلاشي أو أن يكون محيطاً للشكل الذي تنفرد وحداته التصميمية باستقلالية منعزلة عن مجاوريه ، ومن الملاحظ ان داود عمد الى تخفيف حدة الأشكال من خلال تركه لبعض الخطوط العفوية تنساب بحرية في منتصف اللون الأبيض الذي يشغل حيزاً من مركز اللوحة وسيادتها ( الاشكال الادمية ) لتضاده وتباينه مع اللون الأسود .
انتقى الفنان موضوعة اللوحة من الواقع العراقي وميله لزيارة المراقد والماكن المقدسة للتقرب من الله والتبرك بمن دفن فيها من الائمة الاطهار عليهم السلام والاولياء الصالحين ،وهي من الموضوعات التي ترتبط برموز دينية مقدسة في الشارع العراقي وعن كرامات أصحاب هذه المراقد وهي ذات أبعاد دلالية متعددة تجد تحقيقها في فضاء ديني قدسي ذا طابع شعبي بسيط ، ولو تأملنا في اشكال اللوحة
لوجدنا انها تتسم عموما بالهيئة الزخرفية والألوان البسيطة المستقاة من ألوان البسط الشعبية التي استطاع الفنان إدخالها ضمن علاقات هندسية مبسطة تكمّل بعضها ليؤلف منها المشهد المقدس البناء وجزئه المتسامي الممزوج بالحس الشعبي العراقي ،حيث تبدو الأشكال الآدمية اقرب إلى الوجوه السومرية الشائعة في الفن العراقي القديم وتبدو على وقفتها الجمود والسكون المعروف عن التماثيل العراقية وعيونها الواسعة المحتدمة المتأملة في عمق الوجود ، فهي تبدو على انسجام تام مع الشكل المقام الذي يقترب من شكل الزقورة العراقية المكونة من طبقات الأمر الذي يؤكد هاجس التعلق بحضارة العراق القديم وتراثه وحب التواصل مع الروح الرافدينية ورموزها وجماليتها عبر العمل الإبداعي الفني ومحمولاته الدلالية والوجدانية .
إن أهم ما يميز لمسات سعدي داود الابداعية في هذه اللوحة الرائعة ، أنها تجعل المشاهد يرى اللوحة كنسيج واحد ، وهذا الإحساس نجد
ه واضحاً من حيث الوحدة العضوية التي يحدثها تراكب الاشكال داخل حدود العمل ،اضافة الى اندماج الالوان بصورة كثيفة ومتقاربة من خلال أداء يتميز بالتسطيح وغزارة اللون ليشعرنا بملامس السطوح المختلفة، فاللون عنده يتميز بسمك واضح ودرجة تألق عالية، ليظهر ابداع منقطع النظير يحرك سواكن الروح ويعود بها الى الماضي القريب البعيد .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق