ألقِ بعصاك ..

 

للفنون الاسلامية خصوصية في الاسلوب جاءت نتيجة لرسوخ العقيدة الدينية الفذة التي أتى بها الإسلام ومن ثم الأيمان المطلق بها، ولأن الفنون الإسلامية بصورة عامة والتشكيلية بشكل خاص هي الوعاء الذي تنصب فيه جميع الأفكار والتخيّلات والمعطيات الإبداعية لتتحول إلى وسيلة يُطرح من خلالها صور تعبيرية عن ماهية هذه الأفكار لتصبح سجلا يؤرّخ للكثير من الأحداث والمواقف في الإسلام ، ويعتبر فن المنمنمات (مصغرات الرسوم) أحد أهم الفنون التشكيلية التي برع فيها الفنان المسلم في طرح أفكاره وتخيُّلاته للأحداث التي تشغله.

تعددت الأفكار والمفاهيم في المنمنمات الإسلامية وأدّت وظائف عديدة جداً تفاوتت بين وظيفة اجتماعية أو تربوية أو أدبية أو علمية أو جمالية ، فقد عمد فنان المنمنمات إلى اتخاذ النشاط الإنساني للمجتمعات محوراً أساسياً لموضوعاته ، ولهذا السبب فإن المفاهيم التي كان يتداولها هذا النوع من الفن كانت جزءاً من تطوّر علم الانسان في مجتمعاته ، خاصة إذا عرفنا أن ما تناولته المنمنمات ما هي إلّا مشاهد ووقائع تخصّ الأنبياء والرسل كالمعراج وقصة نبي الله موسى وأيوب وغيرهم من الأنبياء (عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) ، إضافة إلى الملاحم والوقائع وسيرة الملوك والأمراء والأحداث العظيمة على مر التأريخ .

ولعل من المهم أن نلتفت إلى أن ذهنية الفنان المسلم النيرة رغم حرصها على المنطق السليم في ظلِّ الفكر الإسلامي الذي فرّق بين المتناقضات وأبعد مشاهد عديدة من الخيال كان ولم يزل في بعض نواحيه ينهل من تراث الشعوب وخيالها الواسع في مرحلة ما قبل الإسلام كما في الشاهنامة وبعض المؤلفات الشرقية الشهيرة وخاصة الإيرانية ، ويبدو أن هذا أمر طبيعي من ناحية الاطلاع على الثقافات وترسيخ أسس متينة للمعرفة ، مما أضفى الكثير من مشاهد المبالغة ليس على مستوى الوقائع المعالجة في اللوحة في منحاها التاريخي والفكري فحسب، بل على مستوى أشكالها الظاهرية لتظهر للعيان مُصاغة بطريقة تستعرض الوقائع والأحداث على نحو ما فضلا عن صياغة تلك الأحداث وفق واقعيتها لتساعد الذهن على استرجاع مصادره في المعرفة، وبالتالي الوصول بالواقعة إلى المشهد الذي تحاول هذه المنمنمة تخليده بأبهى حُلّة مطلوبة وبندرة منقطعة النظير.

اللوحة أعلاه من منجزات عميد فن المنمنمات المعاصرة الفنان الإيراني الدكتور(محمود فرشجيان) والذي عُرف بأسلوبه ومذهبه الخاص في الرسم بمحاكاة الموضوعات الدينية والأساطير، وأحياناً أخرى محاكاة الطبيعة الصامتة بخطوط مميَّزة غايةً في الروعة في محاولة ناجحة منه  لتحرير فن الرسم من ارتباطه المباشر بالشعر والأدب بأسلوب جديد مزَج فيه بين التراث والحداثة ليضفي عليه لوناً جديداً من المعاصرة مع الإبقاء على روح الفن الإسلامي وتراثه العريق .

حاول فرشجيان في هذا التكوين الفني المميز التطرّق للإعجاز الألهي ومعجزة عصا نبي الله موسى (عليه السلام) حينما تحوّلت بأمر الله إلى حيّةٍ تسعى لحظة لقائه بسحرة فرعون وحبالهم كما ورد في قوله (جل وعلا): (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى).

أستطاع الفنان في هذه الرائعة الفنية أن يوظّف قدرته في نقل صورة هذه المعجزة الالهية  للمتلقي وكأن الفنان يحيل الآية الكريمة إلى مشهد مصوَّر يُحاكي به عقل المشاهد للوحة، فلو أمعنا النظر في اللوحة لوجدنا إن فرشجيان اعتمد لغة التكوينات اللونية فيها، مبتعداً عن واقع المنمنمات المعتمدة على الكلمة واللون كما في مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري وقصص كليلة ودمنة وغيرها من القصص والحكايات والأساطير التراثية المدعومة برسوم المنمنمات، حيث عمد هنا إلى استخدام الألوان والخطوط الرقيقة الناعمة كعادته استحضاراً لمكوِّنات وشخصيات الرسمة فقد استوحى شخص نبي الله موسى (عليه السلام) وهو ينظر إلى عصاه حينما تحوَّلت إلى حيَّة عظيمة غير مألوفة الشكل لرد كيد أعداء الله ودحض مزاعمهم .

نظم فرشجيان أشكال اللوحة بصورة منحنية أقرب إلى الشكل الدائري حيث تشير هيئتها لحركة ذات طابع روحي متسامٍ نحو ما هو سماوي .. والمثير للانتباه أن الفنان قد هيَّأ لمثل هذه الحركة من خلال إذابة الخاصية المادية للأشكال وإظهارها على نحو أخف وزناً بواسطة الخطوط التي أشارت لطيَّات ثوب كليم الله وسرعة ورشاقة حركة الثعبان الواضحة ، مما أسهم في تجزئة السطوح المتماسكة ومن ثم تفكيكها في نفس الوقت فضلاً عن الشجرة وسيقانها وأوراقها التي تبدو محترقة وعلاقتها بأرضية اللوحة والفضاء من ورائها إضافة لحركتها العشوائية واتجاه أغصانها للأعلى.

عمد الدكتور محمود في هذا المنجز الفني كعادته إلى ترك الأشكال تهيم في فضاء اللوحة الدائري الهيأة وبتماسك وتداخل غريب مع بعضها البعض ، لينفرد عن غيره بإسلوب تطوّري لفن المنمنمات - المنياتور حالياً -  تميَّز به عمن سبقه لينتج لوحات تخاطب أرواح المتلقين بعمق أبعادها كما تخاطب العين بجمال وتناسق ألوانها وأشكالها .

ومن الجدير بالذكر إن الفنان في هذه اللوحة أظهر الزمان كبناء مفاهيمي يدخل في تركيبة المشهد على الصعيد البصري مرتقياً بفكرة التكوين الفني لتعمل خارج نطاق القياسات العينية التقليدية ، لتتواءم مع نسق الفكر الثقافي الإسلامي الذي استند إلى منهج التجريد والإختزال في الرؤية والقول والفعل بغية استيعاب وترسيخ اليقين في المعاجز الإلهية وحقائقها المطلقة  .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات