صبراً على قضائك يا رب ...

( صبراً على قضائك يا رب ، لا إله سواك ، يا غياث المستغيثين ، ما لي رب سواك ، ولا معبود غيرك ، صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له ، يا دائماً لا نفاد له ، يا محيي الموتى ، يا قائماً على كل نفس بما كسبت ، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين ) .....

تلك كلمات نطق بها الحسين " عليه السلام " ، وهو رافع طرفه الى الله مناجياً بعدما اشتد به الحال بأبي وامي ، ليغضب بعدها اللعين ابن سعد ويعلوا صوته منتدبا عشرة فرسان ليدوسوا الحسين بحوافر خيولهم  حتى رضوا اضلعه الشريفة ، ثم ابى ابن سعد ألا ان ينال اللعنة الابدية والعذاب المقيم فأمر رجاله بأن إنزلوا و حزوا رأسه ، ليقبل بعضهم تلوالاخر مدبرين حتى اقبل الشمراللعين ليجلس على صدر الحسين عليه السلام فتقع الرزية الكبرى التي ابكت جميع المخلوقات وعجزت الاقلام والمنابر عن وصفها ، اللهم فلك الحمد حمد الشاكرين على عظيم رزيتنا بمصاب ابي عبد الله الحسين عليه السلام ، والعن اللهم قتلة الحسين والْمُمَهِّدِينَ لَهُمْ على ذلك انك مجيب الدعاء .

اللوحة اعلاه من المنجزات الابداعية للفنان الايراني " حسن روح الامين " ، والتي عرضت في احدى معارضه الشخصية التي كرست اغلب لوحاته للعرض مشاهد من لحظة استشهاد ابي عبد الله الحسين " عليه السلام " في طفوف كربلاء ، ويمثل العمل الفني تكوين ذي مفردات متنافرة بين البشاعة والبراءة والشر مع الخير ، بغية تحقيق المعنى المرجو والهادف والذي يشير اليه حدث اللوحة المفجع بلحظة حز الرأس الشريف لسيد الشهداء ، ويعد العمل ذا مسحة تعبيرية تميل للواقعية بمفرداته السابحة في فضاء اللوحة المميز ببراعة الوانه واقتصادية استخدامها .

 

استطاع الفنان ان يعبر عن مضمون اللوحة بمعالجة حديثة عن طريق استعانته بالاشكال التخيلية المستقاة من الروايات الواردة عن مظلومية اهل البيت " عليهم السلام " ، فضلا عن ثقافته الخاصة وحبه لاهل البيت وتأثره بهم ، حيث اثبت الفنان نجاحه في إدخال هذه المعطيات وتوظيفها ضمن بنية فنية حديثة تبلورفيها نوع من الطموح ، لترتقي مفرداتها إلى مستوى الرموز الدلالية الكبرى التي تؤثر في محيطها " المتلقين " بقوة فتطبعت بطابعها في جهد متواصل للبحث عن علاقة ترتبط بين استلهام روحية واقعة الطف بكل موروثاتها وبين طبيعة أشكال ومفردات روح العصر الحديث ، فالعمل ينطلق نحو الوضوح والتميز في البناء التكويني لعناصره والذي يستعير روحيته من الحدث الجلل الذي توقف به الزمن وصمتت به المخلوقات اعتباريا  " استشهاد الحسين عليه السلام  " فيما يستعير بشاعته من بعض شخوص اللوحة من قتلة ابي عبد الله الحسين وبالخصوص الشمر اللعين وهو يهم بخنجره لحز الرأس الشريف لريحانة رسول الله صلى الله عليه واله .

استطاع الفنان موازنة عناصر اللوحة والحفاظ على علاقتها فيما بينها  بدقة ومهارة عاليتين ، على الرغم من كثرة وتنوع التفاصيل والشخوص فيها ، فقد عمد الى خلق توازن مع فضاء اللوحة خلف الاشكال المرسومة ، فضلا عن المساحات اللونية للفضاءات أسفل وأعلى العمل الفني التي مثلت العمق المنظوري لها .

 امتلك روح الامين القدرة على التحكم بمساحات عمله لإمساك عناصر الجذب الجمالي عبر تنوع الاشكال وحركتها الإيقاعية بحيث تبدو في مجملها حركة داخلية عبر المساحات اللونية لتؤكد للمشاهد انها تجمع بين عالمين مختلفين وحضورين متباينين ،حضور الماضي المتمثل بأحداث الطف ، وبين حركة الحاضر وتمثلاته ، وهذا الاقتران يتم على مستويين الأول الأبعاد الحسية التجسيمية للأشكال في العمل والثاني عبر الانطباعات والخيالات والصور المستثارة من مقتل الحسين وتصور احداثه والكامنة في ذهن الإنسان الموالي المشبع بروح وحب اهل البيت سلام الله عليهم .

عمد الفنان في هذا المنجز الفني الى الاعتماد والتركيز على القيمة الجمالية للاشكال من خلال استخدامه الاقتصادي للألوان فقد استخدم اللون الاحمر مشتركا مع الاصفر وقليل من اللون الاخضرالتركوازي في اغلب مواطن اللوحة ، فقد استخدم اللون الاحمر بتدرجات مختلفة محاكيا ومظهرا فيها مدى حب وتعطش بني امية واتباعهم الى سفك الدماء الطاهرة " وبالخصوص دماء ال المصطفى صلى الله عليهم اجمعين " ، وايضا حمرة النار التي اضرمت في الخيام وبعض من اقباسها المتطايرة التي تدفعها الريح امام وجوه القوم ومن فوق رؤوسهم ، فضلا عن الاجواء السماوية الحمراء التي تدلل على سخط الخالق وحزن اهل السماء بأستشهاد الحسين ومن معه في هذه الفاجعة الاليمة ، كما وقد صور الفنان الرحمة الالهية كوجه اخر في هذه اللوحة ممثلا اياه بشخص السيدة الصابرة زينب الكبرى " عليها السلام " في عمق اللوحة وهي تتخذ مرتفعا من الارض منبرا لها ، فضلا عن تشبيه الفنان لنور الايمان والرسالة المحمدية وهو ينبثق من جسد ابي عبد الله من بين الطغاة مضيئا كاشفاعن قبح وجوههم وسريرتهم التي اعلنت بجريمتهم الكبرى بحق الدين كله في العاشر من محرم الحرام عام61هـ .  

استطاع حسن روح الامين في هذه اللوحة واخريات ، أن يمازج بين التراث الاسلامي و روح التجديد التي اجتاحت الفنون بمختلف اشكالها ، منتجا عملا بطاقة تعبيرية كبيرة تدل على حس الفنان المرهف ووعيه العميق في عقيدته الدينية ، لتستمد لوحاته قوامها وفكرتها من جماليات الإرث  العربي الإسلامي الذي حول الطاقات الإبداعية الكامنة الى لغة تشكيلية استثنائية تنطق بالحق كغيرها من اللغات الابداعية الاخرى .

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

المرفقات