قال الله تعالى " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ "
ايات تسبق مقاصدنا نحو النعيم ، نرفعها الى الله تعالى في باحة من جلال التقوى وفيوضات الرحمة الالهية ، لننقطع بها الى الله ونختلي بذنوبنا وتقصيرنا ، ونلجأ اليه في ليلة لا يضاهيها في الفضل سواها ، ففيها من الخير ما لا يحصى ولا يعد ، فهي جائزه الله لعباده من المؤمنين والمؤمنات ليتزودوا ليوم تثقل فيه الموازين وتقرأ به الاعمال وتبيض فيه وجوه دون اخرى .
اختص العلي القدير الأمة الاسلامية دون غيرها من الأمم بخصائص عديدة ، وفضلها على الأمم الاخرى بأن أرسل إليها رسول الهدى محمد بن عبد الله " صلى الله عليه واله " لينشر دين الحق ويجعل كلمة الله هي العليا ، مُنزلا عليه كلماته التامات بكتاب مبين ، في ليلة مباركة اختصها من بين الليالي والايام ليجعل العبادة فيها خيرمن عبادة ألف شهر لتكون ليلة القدر المباركة في العشر الاواخر من رمضان الخير والمغفرة .
ليلة القدر هي قلب شهر رمضان وروحه وقد تعددت الروايات في معناها وسبب تسميتها ، فقد قيل انها سميت بذلك لأهميتها ومنزلتها ومنزلة المتعبدين الذاكرين الله ، ففيها يفرق كل امر حكيم ، فإحياؤها بالذكر والعبادة والعمل الصالح من صلاة وزكاة وغيرها ، خير من باقي الاعمال والعبادات في ايام اخر ، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا فضلها ، ولكن الله يضاعف لهم الحسنات جزاء منه و رحمة ، وقد ذكر الرواة ايضا في معنى ليلة القدر وتسميتها إنّ فاطمة الزهراء " عليها السلام " هي ليلة القدر، ومن عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، فقد روي عن أبي عبد الله الإمام الصادق " عليه السلام " أنّه قال ...(( إنَّا أنزَلْـنَاهُ فِي لَـيْلَةِ القَدْرِ ))، فالليلة فاطمة الزهراء والقدر الله ، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإنّما سمّيت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها.
وقد روي في موارد اخرى انها سميت بالقدر لأن الله يحكم فيها ويقضي ، بما يكون في السنة بأجمعها إلى مثلها من السنة القادمة من خير ينزله وشر تكسبه ايدينا ، فجعل فيها تصريف الأقدار ، وامرعباده بأحياءها بأكرم أعمالهم ، لينـزعوا من صدورهم الأحقاد ، والنوايا السوداء ومحاولة إشاعة المعاني النبيلة في نفوسهم ، ليكونوا أقرب الى الأقدار الخيرة بالتقرب والابتهال الى الله تعالى وابتغاء مرضاته لنيل السعادة بأسمـى معانيهـا.
امتد الجانب الديني في حياة الانسان المسلم ليهذب كل مفاصل حياته و منها الجانب الثقافي الفني ، فقد سعى الفنان المسلم ليختصربذكائه المعرفي معايير الجمال الاسلامي من خلال الجمع بين الفن والدين امنطلقا من حقيقة أن المنبع الاهم للفنون الاسلامية هو القران الكريم وحقيقة ان الفن يدخل ضمن ادق تفاصيل حياة الانسان فهو ذو تأثير مباشر في تقويم المجتمعات وهذا هدف من اهداف الفنون الاسلامية، فعند تعامل الفنان المسلم مع عناصر المنجز الفني " باختلاف انواعه " نجد انفسنا امام روحية الاسلام وماورد من صور القران الكريم والوانها التي نكاد نلمسها لما تحمله من خطاب مباشر لتقويم بني البشر، والتي اضفت روحا وجمالا ووقارا اسلاميا للعمل الفني لانظير له يميزها عن بقية الفنون في العالم ، فالفنان هنا لايسعى الى نقل الاشكال ومحاكاتها بل يسعى الى كشف ماتضمره من افكار وروحية من خلال الاشكال المنتظمة والاحداث الذي تمثلها وتنطق بحروفها تلك اللوحة .
الللوحة اعلاه من منجزات الفنان الايراني " هادي آقا مري " ( 1425هـ - 2004م )، وهو احد مبدعي فن المينياتور في ايران ، وهي تمثل احدى اهم اعمال ليلة القدر في الابتهال والدعاء الى الله تعالى بدعاء رفع المصاحف المشهور عن اهل البيت " عليهم السلام " .
قدم الفنان " آقا مري " منظوره المبتكر وحساسيته الخاصَّةَ للألوان والاشكال ببراعة ودقة عاليتين ، فقد استخدم الفنان مخيلته الواسعة المستمدة من ايمانه بهذه الليلة المباركة " ليلة القدر " لتصوير هيئة السماء بكواكبها المنيرة المتناثرة في فضاء اللوحة وابواب الرحمة الالهية التي مثلها الفنان ببوابة مقببة من الاعلى تتوسطها اشكال حلزونية موحية باللامتناهي بالوان معتمة باردة ، فضلا عن تصويره الاجواء الايمانية المميزة لمجموعة من الاشخاص يحيون ليلة القدر برفع المصاحف فوق رؤوسهم ، والانوار الايمانية تنبعث من حولهم بأجواء رحمانية مَثلها الفنان بأشكال توحي بالملائكة لترفع صالح اعمالهم متجهة صوب ابواب السماء لينالوا الفوز بنجاح مقاصدهم .
ان الفنان في هذه اللوحة وعبر معالجاته البنائية ذات المنحى التعبيري الرمزي ، إنما يستدرج المشاهد المتأمل للوحة لتأكيد مبدأ حرية التعبير المباشر عن الحالة الذاتية بواسطة الألوان والأشكال الموزعة على سطح اللوحة على شكل مجاميع دائرية مما أعطى العمل فرصة التحرر من سيطرة المنطق العقلي وتنظيماته السياقية ، لتكون المحصلة أشكال توزعت بتلقائية مرتجلة ، تبعث المتعة في نفس المتلقي ، كمنجز بصري تعبيري رمزي يحفز نظام الإدراك لدى المتلقي ويفتح الباب أمام تأملاته وتخيلاته ليقترب من المعنى الروحي للوحة بوصف المتلقي جزء من العمل لا يكتمل إلاّ بحضوره .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق