قد يبدو لبعضهم – للوهلة الأولى - ان هذا العنوان مبالغ فيه نوعا ما وأنه لا يخلو من شائبة الغلو, إذ من أين تثبت هذه الحتمية ؟ تحقق النصر بمجرد صدور فتوى من فقيه يحتاج إلى دليل والا فهو مجرد دعوى ؟
ويمكن ان يجاب على هذا التساؤل بما هو آت:
النصر له معنى ضيق ، وله معنى واسع ، فحينما ينتصر الإنسان على نفسه يُعد منتصراً ، وحينما ينتصر الإنسان على الظروف التي تعيق تطوره يُعد منتصراً ، وحينما ينتصر الإنسان على الشهوات التي تحجبه عن الله عز وجل يُعد منتصراً ، وحينما ينتصر على عدوه في ساحة المعركة يُعد منتصراً ، وكأن النصر يقابل كلمة النجاح مطلقاً .
فاذا ما أجْلتَ البصر في كتاب الله عزّ وجلّ وامعنت النظر في قوله جلّ وعلا : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة : 52] فستجد في هذه الآية الكريمة منطقاً متيناً يستبطن مكمن السّر وراء انتصارات المسلمين الأوائل ، وأنّه لا مفهوم للهزيمة في صفحات تاريخهم .
والسر الأساس في قوله تعالى: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ }, هما النصر أو الشهادة ، وفي النصر إذلال الكافرين والمنافقين ، وفي الشهادة الثواب العظيم ، وكلاهما عزة وكرامة([1]), وبعبارة أخرى: أن المقاتل من غيرنا قد ينجح وقد يفشل ، أما المقاتل منا فهو الرابح الناجح على كل حال ، لأنه إن ظفر بخصمه فذاك ، وإن قتل في سبيل اللَّه فإلى الجنة. ( ونَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) ان عاقبة المؤمنين المجاهدين إحدى الحسنيين على سبيل مانعة الخلو : اما النصر والغلبة ، واما الفوز بالشهادة في سبيل اللَّه ، وعاقبة المنافقين والكافرين إحدى السوءيين : اما العذاب من اللَّه ، واما التنكيل بأيدي المؤمنين حين يأذن اللَّه لهم في ذلك([2]) .
ومن جملة الآيات التي جاء فيها الوعد بالنصر قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾,وفي الآية تحضيض للمؤمنين على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجدة وشجاعة .
والمراد بنصر الله لهم توفيقه الأسباب المقتضية لظهورهم وغلبتهم على عدوهم كإلقاء الرعب في قلوب الكفار وإدارة الدوائر للمؤمنين عليهم وربط جأش المؤمنين وتشجيعهم ، وعلى هذا فعطف تثبيت الاقدام على النصر من عطف الخاص على العام وتخصيص تثبيت الاقدام ، وهو كناية عن التشجيع وتقوية القلوب ، لكونه من أظهر أفراد النصر([3]) .
وأن مال امر أولئك الذين نصروا الله في قتالهم إلى إحدى الحسنيين إما الظفر على عدوه ورفع راية الإسلام وإخلاص الجو لسعادته الدينية ، وإما القتل في سبيل الله والانتقال بالشهادة إلى رحمته ، والدخول في حظيرة كرامته ، ومجاورة المقربين من أوليائه ، وما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التي تدعو إلى السعادة الواقعية والكرامة السرمدية([4]).
وقوله سبحانه : ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة الروم : 47]. وهذا النصر واجب على اللَّه وهو وعد قطعي منه تعالى بنصره دينه، وهو الذي أوجبه وكتبه على نفسه تماما كما كتب عليها الرحمة, ومحال ان تضيع عند اللَّه ظلامة مظلوم وإلا كان الظالم أحسن حالا من المظلوم عند اللَّه, فسنن اللَّه تعالى أن تجري المسببات على أسبابها والنتائج على مقدماتها ، والسبب الإلهي والطبيعي لنصر المقاتلين هو الإخلاص والصبر والبذل ([5]).
وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [سورة الحج : 15] أي: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا برفع الذكر وبسط الدين وفي الآخرة بالمغفرة والرحمة له وللمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء - كأن يربط طرف الحبل على جذع عال ونحوه - ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده وحيلته هذا ما يغيظ أي غيظة([6]) .
اذن فنحن أمام عنوانين أساسيين وهما: نصر الشهادة والنصر بالشهادة، ولا يبعد اجتماع كلا الأمرين لشخص أو جماعة أو أُمة في أن واحد فينتصرون بالشهادة وينصرون بها أمتهم ودينهم والأجيال, كما انتصر الإمام الحسين عليه السلام انتصار الشهادة ونصر أمة جده بالشهادة.
فالنصر متحقق على كل حال اما نصر بالشهادة أو بنصر الشهادة, قال جلّ وعلا : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}, ومن هنا تتحقق حتمية النصر المؤزّر والفتح المظفّر.
[1] - ينظر: التفسير الكاشف: ج4/ص53.[2] - ينظر: التفسير المبين: ص250.[3] - الميزان: ج18/ص229.[4] - ينظر: الميزان ج9/ص95.[5] - ينظر: التفسير المبين, ص682.[6] - الميزان, ج14/ 352.
اترك تعليق