لا شك أنّ الفطرة الإنسانية تميل نحو المواقف الأخلاقية مهما كان خبثُ السريرة مسيطراً على الإنسان المتخبث ، والدليل على هذه الحقيقة هو نفس الدليل على الفطرة التوحيدية حينما تفرض نفسها على مُنْكِر الخالق ، فيضطر إلى الجنوح نحو العقيدة عند فقدان الأمل من الأسباب البشرية كالذي لايعرف الله إلاّ عندما توشك الطائرة على السقوط ويجد نفسه على أبواب الموت .
شهر رمضان الكريم محطة لتغيير هذه الفطرة التوحيدية ، للجنوح عن مراتب الرذائل الأخلاقية المنبعثة من داخل الفطرة أو من داخل قلب الأنسان ، فشهر رمضان ليس محطة للصوم والأمتناع عن الأكل والشرب ، هذه نظرة سطحية لشهر رمضان الكريم .
شهر رمضان هو محطة تغيرية لخُلق الإنسان المسلم المؤمن ، فإذا كان سيء الخُلق ، فشهر رمضان المبارك محطة لتغيير هذا السلوك اللاخلاقي في مسار الشخصية المسلمة التي يريدها الله (عز أسمّه وتقدّس) .
إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقلوا لنا بعضاً ممّا يتعرّض له سيّء الأخلاق بعد موته ، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عندما دُفن سعد بن معاذ قال:
قد أصابته ضمّة ، فسُئل عن ذلك فقال (صلى الله عليه وآله) :
نعم، إنّه كان في خُلقه مع أهله سوء . ميزان الحكمة للريشهري. ج1 ص807
والملاحظ في هذه الرواية أنّ سعداً كان مُسلماً مُؤمناً بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وبالتالي كان مؤدّياً للصلاة ولباقي الواجبات ، ولكن لسوء الخُلق نتائجه الحتميّة الّتي لا يُمكن الفرار منها ، ومن ضمنها الألم والضيق في القبر.
وقد يكون هذا من أدنى ما يُصيب سيّء الأخلاق في الآخرة، وإلّا فإنّ هناك ألواناً من العذاب أشدّ وأقسى وذلك لأصحاب الأخلاق الفاسدة وللذين لم يتركوا نافذة نور للأخلاق الحميدة في نفوسهم ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
إنّ العبد ليبلغ من سوء خُلقه أسفل درك جهنم . ميزان الحكمة للريشهري ج1 ص 807
وأن هذا الأمر صعب جداً ولكنه ليس مستحيلاً ، والاّ لَما رغّب فيه القرآن وحثّ عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ }
صدق الله العلي العظيم -الزمر/18
ولَما دعا إليه النبي(صلى الله عليه وآله) بقوله:
ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ؟ أحاسنكم أخلاقاً ، الموطؤن أكنافاً ... بحار الأنوار - العلامة المجلسي (ج 66 / ص 307).
محطة شهر رمضان محطة تغييرية شمولية لجميع البشر بأن يراجعوا ذواتهم كاملة ، بل لايقتصروا على الأمساك عن الأكل والشرب ، فهذا بسيط جداً وهذه نظرة سطحية لشهر رمضان ، لكن الأصعب من ذلك تغيير مجرى حياة الإنسان المتكامل مع أهله ، جيرانه ، أصدقائه ، أقاربه ، أصحاب العمل .
فمجرى التغيير يبدأ من شهر رمضان ؛ فلنتخذ شهر رمضان موسم لتغير الذوات وتغيير الخُلق في جميع المعاملات ، فليس هو موسم للأمساك عن الأكل والشرب ، ومن يتخذ شهر رمضان بذلك فاليراجع ذاته وليراجع نفسه الأمارة أما بالسوء وأما بالحُسن والخُلق .
فليتذكر كل إنسان قبل أن يدعوه غضبه إلى هتك حرمة الإنسان الآخر أنه مخلوق الذي يتساوى معه في الكرامة بأمر الخالق الواحد وإرادته ومشيئته.
وهكذا سيحكم الإنسان على نفسه بالأخلاق الالهيّة التي كاد أن يهجرها أو قد هجرها إستجابة لحب الذات والشهوات والعصبيات .
وسيكشف بهذا التحكم الأخلاقي في ضبط نفسه وكبح جماح رغباته الأهوائية المفتوحة سر نجاح الفرد وحضارية المجتمعات .
وهذا ماقاله الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حول الأخلاق ((لو كنّا لا نرجو جنةً ولانخشى ناراً ولا ثواباً ولاعقاباً لكان ينبغي لنا أن طلب مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاح)) . مستدرك الوسائل ج11 ص193.
فمع الأخلاق الكريمة يستطيع المسلم الخروج من أيّة أزمة تُعصر قلبه وتُخنق أنفاسه وتنكد عيشه على المستوى الإنساني.
وأما على المستوى الإسلامي ، فإنّ ذهاب الإسلام إلى بناء دوافع أخروية في النفس للإنشداد نحو الفعل الأخلاقي الجميل وهو ضماناته الأقوى .
ونستنتج أن تنوير الناس بهذا الأصل التربوي وخاصة بما جاء في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (عليه السلام) يجعلهم أكثر حباً لبعضهم البعض ونبذاً للكراهية والبغضاء .
والآن فالينظر الصائم الى نفسه بعد صايمه و قيامه لشهر رمضان المبارك وليلاحظ التغيير الذي حصل على نفسه من الاخلاق والصبر والخصال جميعها فسيرى ان الشهر المبارك عمد على اضمحلال الصفات القبيحة في نفس الانسان و انمى الصفات الحسنة جميعا، ولذلك فهو شهر الرحمة الذي الان نحن نودعه وقلوبنا تنبض بفقدها شيئاً لا نحس به الا بعد فقدانه، فنسال الله تعالى ان يتقبل منا اعمالنا فيه وان يبلغنا شهر رمضان القادم عسى ان نعمل فيه اكثر من سابقه.
الكاتب: الشيخ محمد جعفر المصلي
اترك تعليق