التاسع من ذي الحجة ذكرى استشهاد مسلم بن عقيل عليه السلام

العجب كلّ العجب عندما ترى جيشاً ناهز تعداده العشرين الفاً يتحوّل إلى فئران خائفة مذعورة تبحث عن مهرب أو أي حفرة في الأرض منقوبة .. وأعجب منه عندما ترى العهود والمواثيق تترى أنْ اقبل علينا يا حسين, فقلوبنا وسيوفنا معك, ينشدون عدله ورحمته , فسبقت قلوبهم إليه وتأخرت سيوفهم فأصبحت ضده .. لا عجب .. وليس في الأمر ما يدعو للغرابة - شنشنة نعرفها من أخزم - عندما يبلغ مسلم بن عقيل خبر ما فعله ابن زياد بهانئ بن عروة, فينادي بأصحابه ومَنْ التفّ حوله لمواجهة تلك الشرذمة التي يترأسها ابن زياد, كي يتم تحرير هانئ بن عروة , والذي يرى مسلماً(عليه السلام), على تلك الحال, وقد التف حوله أربعة الاف رجل, سيقطع بأنّه سيجعل قصر ابن زياد هباءً تذروه الرياح !!!..لكنّ الذي حدث أنّ الأربعة الاف رجل لم يبقى منهم رجل واحد !!

ومن هنا أرخت الغربة سدولها فحاصرت مسلماً(عليه السلام), فصيرته وحيداً بعد ما كانت تحفه الالوف, يلتفت يميناً وشمالاً .. ما من احد .. خيم الخوف والرعب على الكوفة فأمست وكأن بيوتها ترتجف وجدرانها تهتزّ ذعراً .. خيّم الظلام ومسلماً(عليه السلام) يجوب بطرقاتها ليلاً خائفاً يترقب .. أزقتها خلت من الحياة, وكأن الأرض انشقت وابتلعت منْ على ظهرها .. ليس له من دليل يدله على الطريق .. أعياه التعب وأدركه النصب, فأخذ منه الجوع العطش مأخذاً .. تُرى هل يدركه أحد ؟ .. كلا , فالذي يتخلّى عنه في وضح النهار كيف يهرع لنجدته في لجّة الليل المظلم !! .. لكن شاء القدر أنْ يحظى بشرف ضيافته في تلك الليلة امرأة صالحة .. جلس على عتبة باب دار من الدور بعد أنْ كان يجرّ نفسه بعناءٍ وراح يلتقط أنفاسه .. فُتحت الباب التي كان جالساً على عتبتها فخرجت منها سيدة جليلة تسمى "طوعة" , كانت بانتظار عودة ابنها الذي ذهب يلهث بحثاً عن الرجل الجائزة – أي مسلم بن عقيل- فبادرها مسلم(عليه السلام), قائلاً : هل لي في جرعة من الماء؟ فأسرعت تلك الصالحة لتأتي له بالماء, فراح يشرب منه الى أنْ ارتوى , ثم سكب الباقي على جسده ليطفئ لهيب الظمأ في أعماقه .. فخاطبته مستنكرة جلوسه على باب دارها : ألمْ تشرب يا عبد الله ؟! قُمْ فانصرف إلى أهلك ..

فلم يحر جواباً والتزم الصمت .. قالت له : قم عافاك الله فإنّه لا يجدر بمثلك الجلوس على بابي !!

حينها أجابها مسلم(عليه السلام) : على رسلك يا أمَة الله .. فإنّه ليس لي أهل هنا, وقد ضللت الطريق وليس هناك من يدلني عليها !!

قالت "طوعة", متوجسة : ومن تكون يا عبد الله ؟

قال لها : يا أمَة الله أنا سفير الحسين(عليه السلام) الى الكوفة, أنا مسلم بن عقيل .

فصاحت "طوعة" مفزوعة مدهوشة : أأنت مسلم بن عقيل .. قُمْ وادخل فداك أبي وأمي .

قال مسلم : إلى أين يا أمَة الله ؟

قالت : إلى بيتي .. فدخل مسلم(عليه السلام) ..

توضأ ووقف بين يديّ الله عزّ وجلّ يناجيه, وما ذاق طعم النوم في تلك الليلة إلّا برهة .. وتلك المرأة الصالحة تأتي له بالطعام فلا يأكل .. عاد ولدها العاقّ, فشاهدها تخرج وتدخل بخلسة الى تلك الحجرة المهجورة, فتتبعها وشاهد جائزته في أحضانه .. فخرج مسرعاً متلهفاً لنوال ما مُنيَ به مِن ابن زياد .. فوشى به ودلل عليه .. فجاءت خيول الدوريات عددهم يفوق المائة رجل أو يزيدون .. انقطعت بمسلم(عليه السلام) السبل وضاقت به الأرض بما رحبت, ولم يجد بداً من سلّ سيفه العلوي .. فقبض على قائمته .. وحين طلع الفجر آن للنهاية ان تبدأ .

قالت طوعة : سيدي رأيت كثرتهم .. قال لها مسلم(عليه السلام) : لا عليك يا أمَة الله, لقد حان اللقاء .. فإنّي الليلة رأيت عمّي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في المنام يقول لي : أنت معي غداً ...

اقتحموا عليه الدار, وحاصروه من كلّ جانب , سلّ سيفه العلوي فلمع كبرقٍ سماوي, ودوّى رعدٌ مهيب من صوته قائلا :

أقسمت لا أُقتــــل إلّا حــــراً

وإنْ رأيت الموت شيئا نـكراً

وبعد أنْ عجزت السيوف من كسر سيفه, مع ما به من جراح نازفة, تخلوا عن المناجزة إلى الالتفاف حوله وضربه من كل جانب , فتوالت طعنات الغدر عليه .. تراخت قبضته .. سقط على الأرض.. انتزعوا السيف من يده, أخذوه مكبلاً الى ابن زياد(لع).. فأمر بضرب عنقه ورميه من أعلى القصر.. قال اللعين ابن زياد لمن أصابه جرح من سيف مسلم(عليه السلام), خذه واقتص لنفسك, فأخذه إلى أعلى القصر, فقال له مسلم(عليه السلام): أمهلني لأصلي ركعتين, ثم التفت الى جهة المدينة وقال: السلام عليك يا ابا عبد الله .. فضربه اللعين ورمى به من أعلى القصر وراح جلاوزة ابن زياد يجرون بجسده الطاهر في الأزقة والأسواق .. لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .

الكاتب / السيد مهدي الجابري

المرفقات