تدور المشكلة الاخلاقية حول محورين .. الاول هو حقيقة القيم الاخلاقية والمحور الثاني هو المعيار الذي يحدد الفعل الاخلاقي, وبالنسبة للمحور الاول فينقسم الفلاسفة فيه الى من يذهب الى ثبات القيم أي انها تمثل حقائق ثابتة في ذاتها ومن ذهب الى نسبية القيم وانها متغيرة تتحدد من خلال الظرف الاجتماعي والثقافي للجماعات البشرية .
إن مذهب الثبات حين جعل للفعل مثالا اخلاقيا مجردا حسنا في ذاته يستمد منه ذلك الفعل اخلاقيته فقد جعل المعيار من خارج النوع الانساني وبذلك لايمكن ان يتفق عليه الناس, وأما مذهب النسبية فقد جعل الناس خارج المعيار الاخلاقي فلا يمكن بذلك أن يجمعهم معيار واحد, لهذا يجب أن يكون المعيار من داخل النوع الانساني في وعيه وشعوره وتكوينه المادي .
وإني أظن أن ذلك المعيار هو تكريم الله للإنسان ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الاسراء اية 70,
وسواء آمن الانسان بالله أم لم يؤمن فلامحيص من ان يقر بتميزه عن الحيوان وغيره .. وإني ارى ذلك التكريم للإنسان على نحوين, في نفسه وفي علاقته بالاخرين, فليس في الناس من يقبل ان يعيش في اسطبل كالخيل او يسرح كقطعان الدواب, كما لا يمكن ان نقول أن مفهوم الاخوة في ابناء الانسان لايختلف عن مفهومها في ابناء الحيوان.
أو ان مجتمع الانسان كمجتمع النحل ومهما سعت الفلسفات العبثية ان تجر الانسان عن ذلك التكريم فسيبقى الفيلسوف العبثي إنما يقرر افكاره بوعيه المتسامي وحرصه على العيش وفق الصورة الصحيحة من وجهة نظره .. إن هذا التكريم في طبع الانسان وفي ذاته ويمكننا ان نجعله حكما أمينا على افعالنا, والناس جميعا يتفقون على مايصدر عنه فإذا ما اختلفوا فإن مرد ذلك الى الفطرة والطبيعة بفعل عوامل من خارج الانسان ..فمثلا صفة العري التي تحاول اتجاهات كثيرة أن تجعله سلوكا يمكن ان يتسالم عليه الناس وان يساير الذوق الانساني الذي هو في حقيقته ـ بنظرهم ـ مفهوم متغير, ورغم اني في هذا اجد نفسي مكابرا اذا قلت ان المرأة الفرنسية تشعر بتأثم أو غضاضة في نفسها وهي تجوب شوارع باريس عارية ولكن .. هل يمكن لهذه المرأة ان تتصور الرئيس الفرنسي يظهر على شاشات التلفاز في خطاب رسمي أو يحضر مؤتمرا دوليا وهو عار ؟ .. لماذا ؟
انها ستضطر الى استخدام مفهوم العيب الذي إنما ظهرت هي عارية اعتمادا على امكانية إلغاء مفهوم كهذا, والقتل الذي طالما يطالعنا كسنة في تاريخ مجتمعات كثيرة حتى لنرى ابناءها يتجاوزون النظر اليه كفعل طبيعي الى التفاخر واعتبار القدرة على القتل ميزة في الانسان, ولعل في المجتمع الجاهلي قبل الاسلام نموذجا مثاليا على ذلك, ولكن قيمة القتل في المجتمع الجاهلي انما جاءت من الظرف الجغرافي حيث شحة الكلأ والماء الذي ولّد الصراع عليهما ثم اتصف الصراع بصفة الشرعية في وعي ذلك المجتمع وصولا الى جعل القدرة على القتل ميزة ومفخرة .
ولربما قال قائل أليس هذا دليلا على ان القيمة الاخلاقية إنما تنشأ عن هذا الطريق, وهنا اسأل أننا لو وضعنا عددا من الاشخاص في سجن وقدمنا لهم القليل من الطعام وأدى ذلك الى التقاتل بينهم ثم شعر المتوفق فيهم بسرور ونشوة فهل يحق لنا أن نسمي هذا السرور قيمة أخلاقية ؟!
وفي هذا المعيار يمكننا أن نتغلب على المشكلة التي تواجهنا في مذهب الثبات والواجب والتي تتمثل باننا نضطر مثلا ان نكذب لندفع الضرر فتنجم المشكلة المنطقية في أن الكذب قبيح بذاته فلا يمكن ان يكون حسنا وقبيحا في ذات الوقت, حيث أن الكذب في حالة دفع الضرر لا يأباه معيار التكريم علاوة على مانجده في دفع الضرر من قبول في هذا المعيار, كما وأنه ـ المعيار ـ قادر على أن يحدد صحة القضية الاخلاقية معرفيا, فقضية السماء تمطر والتي نتبيّن صحتها من الطبيعة اذا كانت تمطر بالفعل, فقضية الغش خطأ نتبين صحتها في أن معيار التكريم لايقبل بصفة الغش, وربما أعتمد الكثيرون على مشاعرهم في تحديد الفعل الاخلاقي وبما يعبر عنه فلسفيا بالمذهب الانفعالي الذي تواجهه مشكلة اختلاف المشاعر حول فعل ما فربما كان فعل ما مقبولا مستساغا عند بعض الناس ومدعاة للنفور والاشمئزاز عند آخرين, ولكني أجد هذا الاختلاف دليلا على صحة معياري حين قلت عنه أنه في طبيعة الانسان وفي ذاته ويتسالم عليه الناس حيث ان اختلاف المشاعر ليس متكافئا بين الطرفين وكمثال يوضح ذلك,الشذوذ الجنسي الذي نجده مقززا عند بعض وغير مقزز عند بعض آخر ولكننا لن نجد من يختلف شعوريا حول الفعل المقابل للشذوذ الجنسي وهو الجنس بين الرجل والمرأة لاسيما في إطار الزواج, فإذا كانت ثمة عوامل خارجة عن الانسان هي التي دفعت من ينفر من الشذوذ الجنسي الى النفور وليس ذلك في طبعه فلماذا لا تفعل تلك العوامل فعلها في دفع من يستسيغ الشذوذ الجنسي الى النفور من الجنس بين الرجل والمرأة ؟!
وبالنسبة الى فعل له حضوره المهم لاسيما في العالم الغربي وهو الجنس خارج إطار الزواج وما يتسالم عليه الاعم الاغلب في الغرب من إباحته وشرعيته وقد فعل ذلك بعد أن جر عقد الزواج الذي يبيح الفعل الجنسي الى بعد ديني محض والدين من المفاهيم الميتافيزيقية التي تواطأ الغربيون على تهميشها, إن معيار التكريم لايقتصر على الجانب المعنوى والتسامي الذي نشعر به في علاقاتنا البشرية وفي نظرة الانسان لنفسه وإنما يمتد الى جانب مادي ملموس يتمثل بالعمران والانظمة الاجتماعية التي لاينكرها غير المجنون كشاهد على تفوق الانسان على الحيوان (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ), فكل ما ينجم عنه ضرر فيها سينكره الجانب المادي من التكريم, فنحن نلمس أنّا وجهنا نظرنا في مجتمعات الغرب آثار الضرر الناجم عن الانفلات الجنسي من اضرار صحية وكوارث اجتماعية متمثلة بحالات الاغتصاب والتحلل الاسري الذي يعد منجما نشطا لتوليد المنحرفين وارباب الجريمة الى غير ذلك, ومهما حاول الغرب أن يهوّن الاحصائيات التي تبين أرقامها مستوى الواقع الذي يعيشه أو يلجأ الى التشبث بما هو موجود من حالات كهذه في المجتمعات الشرقية وكأن هذه المجتمعات هي الممثل الحقيقي للاسلام او ان الله قال في كتابه انما يريد الله ليذهب عن المجتمعات الشرقية الرجس ويطهرها تطهيرها, مهما حاول الغرب ومريدوه فلن يغيروا شيئا من الحقيقة الثابتة من ان الاباحية والجنس خارج الزواج هو السبب الاساس في ذلك الخطر وأن الحفاظ على الاسرة بعامله الاساس وهو الامتناع عن الجنس خارج اطار الزواج يمثل الوقاية الحتمية منها .
وتبقى مشكلة العلاقة بين الدين والاخلاق .. والمشكلة المعروفة ( هل الدين يأمر بما هو أخلاقي أم ان الفعل اخلاقي لان الدين يأمر به )؟
أظن المشكلة تنجم عن فهم خاطئ لعبارة ( أن هذا الفعل اخلاقي لان الدين يأمر به) إن العلة هنا ليست ذاتية والدين ليس ملاكا لاخلاقية الفعل .. بل إنه كاشف عنه .. تماما كقولنا (ان هذا الدواء يشفي لان الطبيب امر به ) ولاشك ان امر الطبيب لم ينجم عن رغبة في نفس الطبيب بل من جراء تشخيصه لواقع خارج عنه .. حيث إننا نتفق على اخلاقية ما يأمر به الدين مثل بر الوالدين ومساعدة الاخرين وإذا ما أمر الدين بفعل لا نتبين اساسه الاخلاقي فذلك لقصور في ادراكنا واذا صدر عن الدين ما يتنافى مع مسلمات المبدء الاخلاقي فإن الامر لم يصدر عن الدين بل عن رجل الدين المنحرف .
الكاتب / صلاح الخاقاني
اترك تعليق