ما هو الهدف من الابتلاء ؟

سؤال : ماهو الهدف من الامتحان ؟ هل هو الاطّلاع على أحوال الممتحن فالله سبحانه مطّلع على أحوال العباد عارف بشؤونهم الخاصة والعامة ، فما هو الهدف من وضعهم في ظروف شاقّة من البلاء والامتحان ؟

الإجابة عن هذا السؤال تحصل بالأُمور التالية :

أنّ الهدف من الامتحان من غيره سبحانه  الاطّلاع على سرائر الآخرين ، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه وتعالى فالهدف هو إتمام الحجة على العبد ، قال سبحانه : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ )[ الأنفال : 42] ولنعم ما قال الشاعر البغدادي :

وليحيا الجيل عن بينة   وليهلكن عليها من هلك

وعند الامتحان بالتكاليف والوظائف ينقسم العباد إلى قسمين : طائفة تقوم بما أُلقي على عاتقها من التكاليف ، وأُخرى : تخفق في مجال التكليف.

فالحياة للطائفة الأُولى عن حجة، والهلاك للطائفة الثانية عن حجة أيضاً ، قال سبحانه : ( رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )[ النساء : 165] ، وقال سبحانه أيضاً : ( قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ )[ الأنعام : 149].

فالله سبحانه يعلم القائم بالوظائف من القاعد عنها ، ولكنّه لو جازاهم بهذا العلم  ربما يعترض عليه القاعد بأنّه لو كلّفه في الدنيا لقام بالوظائف ، فلماذا أثاب دونه ؟

فلأجل محو هذا الاعتراض من الأساس  جعلهم في بوتقة الامتحان حتى تكون له الحجة البالغة على القاعد.

أنّ الهدف من الاختبار هو تمحيص المؤمن من الكافر ، وتمييز الخبيث من الطيب في المجتمع الإسلامي ، فإنَّ لهذا التمحيص شأناً من الشؤون وأثراً من الآثار ، قال سبحانه : ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )[ آل عمران : 179] ، وقال سبحانه : ( لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) الأنفال : 37، وبما أنّ المنافق يتظاهر بالإيمان ، والعدو بالصداقة  فلابدَّ من إجراء الامتحان والابتلاء حتى يتميزا ، فإذا أمر الله سبحانه ببذل النفس والنفيس في سبيل الله فيتقدّم المؤمن حسب إيمانه ويتثاقل المنافق ، وعندئذ يتمايز الصنفان. أنّ الهدف من الامتحان إبراز الطاقات الكامنة في الإنسان وإخراجها من مكامنها ، فكل إنسان خلق وله قابليات خاصّة كامنة في ذاته ، غير أنّ ظهورها وخروجها من القوّة إلى الفعل يحتاج إلى وقوع الإنسان في خضمّ الامتحان والاختبار حتى تنبثق تلك القابليات من مكامنها ، وترى نور الوجود فكما أنّ البذرة لا تتفتح ، ولا تصير نباتاً ولا شجرة إلاّ بعد ابتلاء وتأثير من الهواء ، والشمس ، والأرض حتى تكون شجراً ، فهكذا الإنسان لا تتفتح طاقاته الكامنة إلاّ إذا وضع في ظروف خاصّة توجب تفتح القوّة وظهورها إلى مرحلة الكمال ، فالتكاليف الشاقة الملازمة للشدّة والضغط توجب ظهور الثمار وإبراز الطاقة، ولندرس حياة الخليل (عليه السلام) حتى نقف على حقيقة هذا الجواب:

كان الخليل (عليه السلام) قبل الابتلاء إنساناً ذا طاقة وكمال دفينين في شخصيته غير أنّ تلك الطاقة  الّتي نعبّر عنها  بأنّه كان قابلاً لأن يكون إنساناً مثالياً ملكوتياً بترك كل شيء من أجل خالقه تعالى كانت مستورة في وجوده دفينة في أغوار شخصيته ، فأراد سبحانه إظهارها فجعلها في مجال الامتحان وبوتقة الاختبار ، فتفتحت وصارت كمالاً بالفعل.

وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا الجواب بقوله : « لا يقولنّ أحدكم اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ؛ لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فإنّ الله سبحانه يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) [ الأنفال : 28] » (1).

وهذا التعبير من الإمام يشير إلى أنّ الامتحان سنّة ثابتة من الله سبحانه وتعالى في عباده ليس عنها محيص ، ويشير بعد ذلك إلى فلسفة تلك السنّة بقوله (عليه السلام) : « ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحق الثواب والعقاب ؛ لأنّ بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث وبعضهم يحب المال ويكره انثلام الحال » (2).

إنّه سبحانه جعل( الخليل) على محك الاختبار فأمره بمكافحة عبدة الأصنام وكسر آلهتهم المزعومة إلى حدٍّ يستعد به للبلاء في طريق طاعته ، وإن كان بالقتل والحرق ، كما أمره سبحانه بإسكان أهله بأرض غير ذي زرع كما أمره ببناء بيته وتطهيره ، وذبح ولده بيده ، و ... ، فهذه الوظائف الشاقة المرّة في ظاهرها ، الحلوة في باطنها ، جعلت (الخليل) بفضل بطولاته العجيبة في مجال الامتحان إنساناً إلهياً لا يعرف في مسيرة حياته غير الله ولا يهمه غير أمره ، وهذا منتهى الكمال الممكن للإنسان المثالي ، فكم فرق بين إنسان نسي ميوله الحيوانية وغرائزه عندما تعارضت مع مراد مولاه وغاية مناه وهو (الله) ، وبين إنسان غارق في الشهوات وخائض في لجج الغرائز ، أسّره الهوى فصار عبداً للشيطان ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ) [ الفرقان : 43] ، فالاختبار يجلي تلك الطاقات الكامنة في الصنفين المتقابلين في الناس ، ويعمل في النفوس المستعدة عمل الحرارة من تمييز الذهب عن خليطه.

من كتاب : (مفاهيم القرآن)  للمؤلف /  آية الله جعفر السبحاني .

__________________

(1) بحار الأنوار : 94 / 197 ح 6.

(2) نهج البلاغة : قسم الحكم برقم 93.