لله – عزَّ وجلَّ – سنن تحكم حياة الفرد، وسنن تحكم حياة الأفراد مجتمعين، وفي إطار هذه وتلك جاء التكليف الربّاني للعباد، وابتلاؤه لهم. السنن التي تحكم حياة الفرد غير السنن التي تحكم حياة الجماعة، وهذا يعني أنّ مصالح الفرد قد لا تتطابق دائماً مع مصالح الجماعة، وهنا يكمن جوهر الإبتلاء في الحياة الإجتماعية. إنّ ممّا لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أنّ المبادئ لا تعمل في فراغ، وإنّما تحتاج كيما تصوغ حياتنا، وتكون حاضرة فيها – إلى شروط موضوعية وفنّية – علينا أن نعمل على توفيرها، وهي شروط تخضع في مجملها للنواميس الإجتماعية. وسنذكر هنا بعض المبادئ والشروط والنواميس التي نرى أنّ استيعابها ضروري لتنمية حياتنا الإجتماعية، وذلك في المفردات التالية: 1- الإستقامة شرط لوجود الفائض الإجتماعي: يمكن القول إنّ أحد أهم مقاييس استحقاق حشد من الناس اسم (مجتمع) هو ما فيه من أفراد ومجموعات تُعنى بالشأن العام، وتتجاوز حركتها اليومية دوائرَ مصالحها الخاصّة إلى الإنشغال بمصالح الجماعة. وبما أنّ كل مجتمع لا يخلو من هذه الشريحة، فإنّ المهم هو الحجم الذي تمثله في مجتمعها، وأدوات التأثير التي تملكها. ومعيار كفايتها هو الوضعية الإجتماعية العامّة، فإذا وجدنا الأمور المشتركة بين الناس مخدومة بعناية، وإذا وجدنا الخطأ والإنحراف محاصرين على نحو جيِّد، فإنّ هذا يعني أنّ ما هو مطلوب موجود ومناسب. وإذا وجدنا أنّ المظلوم لا يجد ناصراً، والضعيف لا يجد معيناً، والمفسد لا يجد رادعاً، فإنّ هذا يعني أنّ كتلة أهل الخير غير كافية، ولا فعّالة، ومن ثمّ فإنّ ما نُسمِّيه مجتمعاً هو مجتمع ناقص ومهدَّد، وهو أقرب إلى أن يكون تجمُّعاً. وجود هذه الشريحة المباركة هو التعبير الحي عن وجود فائض اجتماعي، حيث توفّرت طاقات زائدة على ما تتطلّبه الحياة الفردية لبعض الناس. والسؤال الدائم والملح، كيف يمكن إيجاد هذه الطائفة؟ في قوله – جلّ وعلا – : (والذين يُمَسِّكونَ بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نُضِيعُ أجر المُصلحين) (الأعراف/ 170) إشارة إلى أنّ الذين يتمسّكون بالكتاب هم المصلحون، فالإصلاح يتأتّى من وراء الإلتزام بمضمون الكتاب وهذا ما تشهد به وقائع الحياة الملموسة.. فالذين يتبرّعون ويبنون الجمعيات الخيرية والمشافي المجانية وملاجئ الأيتام، هم في غالب الأمر من الملتزمين بالنهج الإسلامي القويم. وهذا يُعيدنا إلى حقيقة مسلَّمة، هي أنّ الفرد هو جوهر المجتمع، ولا نستطيع أن نحافظ على ترابط مجتمعاتنا ونقائها بغير إشاعة الإلتزام بين الأفراد، وتكثير سوادهم، وما قلَّ الملتزمون الصالحون في مجتمع إلا ضرب فيه النهب والفساد والإنحلال الخلقي أطنابه. وما أجمل قول الله – تعالى – : (وألَّوِ استَقاموا على الطريقة لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً) (الجن/ 16)، فالإستقامة شرط لإستفاضة الخير وتماسك المجتمع. 2- يستمد العامل الإصلاحي قوّته من الظروف المحيطة به: حين تنسد الآفاق أمام الناس، فإنّهم يبحثون عن مخرج، ويغلب عليهم الإدراك الأحادي للحلول، لأن تركيبتهم العقلية تميل إلى أن تكون بسيطة، ومن ثمّ فإنّ منهم مَن يعتقد أنّ شح المال وقلة الموارد يُمثِّل رأس المشكلة، فإذا ما توفر المال حُلت المشكلة، ومنهم مَن يرى أنّ فقد القيادات السياسية والإصلاحية الفذّة هو أساس المشكلة، ولذا فإنّ الخلاص منوط بوجود شخصية سياسية بارزة، وهو إلى جانب ذلك نوع من أنواع الهروب من المسؤولية، ومظهر من مظاهر العجز! ونحن لا ننكر – بداهةً – الأثر الذي قد يحدثه الفرد الفذ المتميِّز، والفرصة العالمية النادرة، والثروة المالية الطائلة.. من آثار وتغييرات في حياة الأمم والشعوب، لكن الوضعية العامّة للأمّة تظل أهم بكثير.. فإذا كانت مقلوبة ومنطوية على إمكانيات إيجابية، فإنّ أضعف العوامل شأناً يمكنه أن يدفعها إلى الأمام.. وإذا كانت على خلاف ذلك، فإنّ أقوى العوامل تأثيراً يفقد فاعليته، ويتلاشى تأثيره. هناك أحداث تعد تافهة جداً في الأحوال العادية، تكتسب أهمية استثنائية عند التقائها ببعض الظروف والأوضاع. إنّ زلة لسان، أو كبوة فرس، أو تأخر قائد في النوم، أو مرض عالم، إنّ هذه الأشياء الصغيرة قد تسبب نكبة لمجتمع، لا يستطيع الخلاص منها عبر عقود عديدة!! إنّ الذي أريده من وراء هذا الكلام هو أن نزيح عن طرق تفكيرنا العامل الوحيد والسبب الوحيد والطريقة الوحيدة، وأن ننزع من نفوسنا الرغبة الجامحة في الحلول الآنية الجزئية والسريعة، ونصير عوضاً عن ذلك إلى تشغيل كل فرد من أفراد الأمّة بشيء نافع، ولو كان صغيراً، فذلك هو الطريق الأقصر إلى تحسين الوضعية العامّة للأمّة، وذاك هو الذي يمنح التقدّم شيئاً من الإستقرار والثبات والتراكم، وآنذاك تتحوّل كل العوامل والمؤثرات المحدودة إلى عناصر إيجابية بنّاءة. 3- عند انتشار الظلم لا يبقى شيء مقدس: قد تعوّدنا أن ننظر بعين الإستغراب والإستهجان إلى تقاتل شقيقين على منصب، أو مبارزة ابن لأبيه على مغنم، أو استعداء بعض الناس لقبيلة أخرى على قبيلتهم لأي سبب كان، فهذا كله ليس مقبولاً ولا مسوَّغاً تحت أي ظرف من الظروف. أمّا اليوم، فقد تغيّرت أشياء كثيرة حيث حلَّ في موضع مفاهيم التاريخ القديم تاريخ كوني عام، وقيم ومطالب كونية، وثقافة جديدة سائدة، وأصبح من السهل تغيير اللغة، وتغيير الأحلاف والولاءات والإلتزامات إذا تبدّلت المصالح. ولم تعد تجد هذه الفئة أو تلك أي حرج في التعامل مع فريق أجنبي لضمان المصالح المادية. ويسهل مرّة أخرى تجاوز كل تقاليد الإحترام والتفاهم والولاء حين يشعر المرء بغبن فادح، حيث يصبح على استعداد لعمل أي شيء، إذ لم يبق هناك تصرفات لا تقبل التعليل والتسويغ، وعلى هذا فإنّ المجتمعات التي لا تستطيع إيقاف المتنفذين والمتغولين وأرباب الشهوات والمطامع عند حدودهم، مجتمعات تضع مصيرها في مهب الريح، فالوازع الداخلي لدى أكثر الناس قد ضعف، وصار معقد الإنتماء والولاء للجماعة يرتكز على مدى تأمينها لحقوق أفرادها، وعلى مدى حمايتها لهم، فإذا لم تستطع ذلك، فإنّه لا معنى للحفاظ عليها والدفاع عنها. وهذا هو العامل الحاسم في مظاهر التوحش والهمجية التي نجدها اليوم لدى كثير من المجتمعات. إنّ المنطق السائد والقناعات الراسخة اليوم تبيح لمن وقع عليه الحيف دون مناصرة المجتمع له أن يفعل ما يستطيعه لدفع ذلك الحيف، ولو كان التآمر، والتهديد للكيان كلّه! إنّ الظلم ظلمات في الدنيا ويوم القيامة، وعلى الذين لا يفكِّرون إلا في أنفسهم أن يستعدّوا لدفع أفدح الأثمان!! 4- التوازن الإجتماعي رهن بالتبادل: كلّ مَن يعيش في مجتمع يطمح إلى أن تكون علاقته مع أفراد مجتمعه علاقة (تبادلية) ذات اتجاهين. والواقع الإجتماعي هو دائ�
اترك تعليق