الامام السجاد عليه السلام النهج العملي والنظرة الاستراتيجية

لحكمة الهية بالغة في بقاء الامام السجاد عليه السلام على قيد الحياة بعد واقعة كربلاء الدامية التي حلت ببيت النبوة والطهارة ، فكان الامام عليه السلام الشاب الوحيد الذي لم يتعرض للقتل ، حين عمد حكام بني امية على تحقيق ابادة كاملة لاهل البيت عليهم السلام. وان بقاءه ضمن الاستراتيجية الالهية لاستمرار ديمومة رسالة النبي محمد صلى الله عليه واله في دنيا الانسان ضمن استكمال الشوط الرسالي الذي بدأه الامام الحسين عليه السلام . فانه عليه السلام التزم منهجا ضمن نظرته الاستراتيجية لواقع الامة ، بعد ان تبنى منعطفا جديدا في حركة الاصلاح الاجتماعي والسياسي .

وابرز معالم تلك النظرة الاستراتيجية والنهج العملي :

اولا: احياء ذكرى الامام الحسين عليه السلام . اقام الامام السجاد عليه السلام مأتما دائما في داره لاعطاء الذكرى حرارة دائمة ، ولتبقى حية في ضمير الامة وتاريخها ، ولتفعل فعلها في تأجيج روح النقمة على الحكم الاموي .

فكان عليه السلام حيث اتباعه على احيائها ووعيه نفسيا ، فيقول :(ايما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خديه فيما مسنا من اذى من عدونا في الدنيا بوأه منزل صدق ، وايما مؤمن مسه اذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خديه من مضاضة ما اوذي فينا ، صرف الله عن وجه الاذى يوم القيامة من سخط النار ) . الامام زين العابدين : المقرم: ص٣٤٣.

فاحياء الذكرى تعني الامور الاتية :

١- فضح لبني امية وكشف ظلمهم .

٢- تعريف العالم بجنايتهم التاريخية بحق الرسالة والدعوة .

٣- فضح السياسية الطاغوتية لحكام بني امية .

هذه الذكرى تعتبر سلاحا قويا بيد المستضعفين بوجه المستكبرين والمنحرفين حتى الوقت الحاضر ، تبعث على التضحية والفداء في سبيل الاسلام العظيم .

ثانيا: الدعاء

استخدم الامام السجاد عليه السلام نمطا جديدا في تحريك الضمير الانساني بعد ان اماته حكام بني امية -الا وهو الدعاء - لما له من خصوصية روحية ، واثر عاطفي ونضوج فكري .

وكانت ادعيته ذات وجهين غاية في الارتباط والتكامل ، ووجها عباديا ، واخر اجتماعي يتسق مع مسار حركة الامام عليه السلام الاصلاحية ، ونظرته الاستراتيجية .

والدعاء وسيلة يتوسل بها العبد الى بلوغ مرضاة الله تبارك وتعالى ، فقد استطاع الامام السجاد عليه السلام ، ان يمنح ادعيته الى الجانب الروحي محتوى اجتماعي متعدد الجوانب ، لما يحمل من مفاهيم خصبة وافكار حية تنبض بها الروح الاجتماعية .

وتحتوي ادعية الامام السجاد عليه السلام على اهداف تغييرية واضحة المعالم التي منها :

١- التعامل مع الله سبحانه وتعالى .

٢- التعامل مع كل ركن من اركان الوجود من حوله وكل امر من شؤون الحياة .

٣- طريقة التعامل مع الكيانات السياسية والاجتماعية وانظمة الحكم .

لهذه الادعية التي جمعت في الصحيفة السجادية اهتم بها الأئمة عليهم السلام طوال حياتهم فيما لها من اثر فعال في بناء الروح وبناء المجتمع .

ثالثا: الاهتمام بالامة وتبني مشاكلها .

اهتم الامام السجاد عليه السلام ، كسواه من الأئمة عليهم السلام ، اهتماما متزايدا بالامة ، فرسخ علاقته بها وعمق تعامله مع اوسع قطاعاتها .

وقد انعكس هذا الاهتمام بالامة بالتزايد التفافها حول الامام عليه السلام ، وولائها المعمق لما وجدت فيه من كرم الاخلاق ورفعة السلوك .

وقد تجلى هذا الامر عند حضور هشام بن عبد الملك احد مواسم الحج ، ولم يتمكن من استلام الحجر ، لاداء مناسك الحج بعد عدة محاولات منه يائسة ، فامر مرافقيه وحاشيته من اهل الشام ان يحضروا لهم منبرا يجلس عليه حتى تحين الفرصة ليؤدي مناسكه ، وبينما كان جالسا وحشمه وخدمه محيطون به ، اذ اقبل الامام السجاد عليه السلام يسير على سكينة ووقار وهيبة تحف به ، فطاف حول البيت حتى بلغ الحجر ، افرج له الناس اجلالا واحتراما له ، فستلم الحجر وادى ما عليه من مناسك ، مما اذهل الشاميين واثار دهشتهم ، فالحوا في السؤال على هشام الاموي : من هذا الذي افرج له الناس اجلالا ؟

وابدى هشام عدم معرفته له حسدا منه وبغضا ، وحيناها كان الفرزدق الشاعر حاضرا فاجاب : لكني اعرفه ، فسألوه : من هذا ؟ فانشد قصيدته المعروفة والشهيرة التي جاء بها :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم .

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم .

اذا رأته قريش قال قائلها : ... الى مكارم هذا ينتهي الكرم .

هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله ... بجده انبياء الله قد ختموا .

وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من انكرت والعجم .

وبهذه الابيات الشعرية اقحم الفرزدق هشام الاموي وجعله في حيرة من امره امام حواشيه ومؤيده .

رابعا:

نشر المعارف الاسلامية .

شهدت الامة طوال خمسة وثلاثين عاما وهي فترة امامته نشاطا فكريا ، حيث استقطب عليه السلام خلال تلك الفترة طلاب المعرفة الاسلامية في جميع حقولها ، لا في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحدها ، وانما في الساحة الاسلامية بأكملها حتى استطاع ان يخلق نواة مدرسة فكرية لها طابعها ومعالمها المميزة ، وتخرج فيها علماء من اصحاب الفكر والمعرفة ورواة ومحدثون ، وفقهاء ونحو ذلك .

فاوجد الامام السجاد عليه السلام الهيكل العام لمدرسة اهل البيت عليهم السلام التي تمثل الاسلام الحقيقي ، والتي استكمل الامامان الباقر والصادق عليهما السلام بناءها وانضاجها على الوجه الاكمل والاشمل .

مارس الامام السجاد عليه السلام عبر مهمته التعليمية رواية الاحاديث الصحيحة عن جده رسول الله صل الله عليه واله عبر سلسلة نقية لا يرقى الى رواتها ادنى شك تبدأ بسيدي شباب اهل الجنة الحسن والحسين عليهما السلام ، وتمر بأمير المؤمنين عليه السلام ، وتنتهي برسول الله صل الله عليه واله فالوحي المقدس .

وان هذا السبيل الاقوم ذاته يرشد الى الفكر السليم والفقه الصحيح والسلوك الاقوم ويدل على مواقع الرشاد ويحذر من مزالق في الفكر والعمل .

وفي الختام نتبرك بهذا الحديث :

قال الامام الحسين عليه السلام دخلت على جدي رسول الله فاجلسني على فخذه وقال لي : ((انا الله اختار من صلبك يا حسين تسعة ، تاسعهم قائمهم ، كلهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء )) . ينابيع المودة : البلخي القندوزي : ج٢ ص١٠٥ .

الكاتب: السيد زكي الموسوي