تمرّ علينا ذكرى أليمة تُثير في النفسِ كوامن مِنَ الحُزن, ولواعِج تبعث في القلبِ الأسى ألا وهي ذكرى استشهاد الإمام محمد بن عليّ الجواد, تاسع أئمة أهل البيت الأطهار(صلوات الله عليهم اجمعين), إلّا أنّه يحزّ في نفسي أنّ بسط الكلام في ذكرِ سيرتهِ العطرة مِنْ مولده المبارك إلى يوم استشهاده, متعذّر في هذه العُجالة, وإنني لأشعر أنّ واجب المودة يتطلب مني أن أوغل وأفصّل في سيرته (عليه السلام), أكثر مما سأذكر، وأن أسجل ردوداً على بعضِ الشبهات التي أُثيرت حول إمامتهِ لحداثةِ سنه، لكن هذا لم يتأت لي في هذه العُجالة، إلّا إنّه لا يمنع أن أسهم بما أستطيعه اليوم وما يسعني , ومن الله استمد العون ..
ذَكَرَ المؤرخون أنّه لمّا استشهد الإمام الرضا (عليه السلام) , ومضى متأثراً بالسم الذي سقاه به المأمون وذلك في سنة اثنتين ومائتين, كان عمر الإمام الجواد(عليه السلام), آنذاك نحو سبع سنين .. قال الطبري في دلائل الامامة : "لمّا بلغ سنّه – الإمام الجواد- ست سنوات وبضعة شهور قتل المأمون أباه , فحار الشيعة , ووقع الخلاف بين الناس, واستصغروا سنّ أبي جعفر واحتارت الشيعة في البلاد" , فاختلفت الكلمة مِنَ الناس ببغداد وفي الأمصار, فاجتمع وجوه الشيعة وثقاتهم مِنْ أصحاب الإمام الرضا عليه السلام, منهم الريان بن الصلت, وصفوان بن يحيى, ومحمد بن حكيم, ويونس بن عبد الرحمن, وجماعة مِنَ الشيعة, في دار عبد الرحمن بن الحجاج, الواقعة في زَلْزَلْ, وهو مكان يقع في أطراف مدينة الكوفة, فلمّا اجتمعوا فيه أخذ ينظر أحدهم إلى وجه الآخر, وما أنْ ذَكَرَ أحدهم اسم الإمام الرضا عليه السلام, حتى أجهشوا جميعهم بالبكاء, من وقع المصيبة التي حلّتْ بهم, فبادرهم يونس بن عبد الرحمن قائلا : دعوا هذا البكاء, فالأهم مَنْ لِهذا الأمر؟ وإلى مَنْ يُقصد بالمسائل إلى أنْ يكبر هذا الصبي –يقصد الإمام الجواد عليه السلام- , فقام إليه الريان بن الصلت فوضع يده في حلقه, ولمْ يزل يلطمه ويقول: ... أنت تُظهر الإيمان لنا وتُبطن الشك والشرك, إنْ كان أمرهُ مِنَ الله تعالى, فلو إنّه ابن يومٍ واحد كان بمنزلة ابن مائة سنة , وإنْ لم يكنْ مِنْ عند الله فلو كان عمره الف سنة فهو كواحدٍ مِن الناس, هذا ما ينبغي أنْ يُفكّر فيه.. وأقبل الباقون على يونس بن عبد الرحمن يعذلونه ويلومونه على مقالته (الا أنّ بعض العلماء الأعلام قالوا: إنّ يونس بن عبد الرحمن كان بصدد اختبار الشيعة مِنْ حوله؛ لأنّه ورد في حقه عدّة توثيقات عن أئمة أهل البيت(ع) وكان يحضى بمكانة ومنزلة لا يستهان بها, وهو الأمر الذي دفع هؤلاء الأعلام لتوجيه اعتراضه على من بكى في ذلك المجلس وقال ما قاله) .
وعلى كلِّ حال, فقد اجتمعت الشيعة وأجروا عدّة لقاءات مع الإمام الجواد عليه السلام, تخللتها أسئلة لاختباره والتأكد من أنّه يتمتع بعلم الإمامة , وكلمّا أجاب الإمام(ع), على مسائلهم بإجابةٍ حاسمةٍ ومقنعة ازداد اطمئنانهم وهدأ بالهم .
وذكر المؤرخون أيضاً أنّه لمّا قرب موسم الحجّ, اجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم جمع غفير يربو عددهم على الثمانين رجلا , فقصدوا الديار المقدّسة والمدينة المنورة؛ لإداء فريضة الحجّ, وللقاء الإمام الجواد عليه السلام, فلمّا وافوا أتوا دار أبي عبد الله جعفر بن محمد, فدخلوها وأجلسوا , فخرج إليهم عبد الله بن موسى عمّ الإمام الجواد عليه السلام, فجلس في صدر المجلس, ونادى منادٍ: هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله, فسُئل عن أشياءٍ أجابَ عنها بغير الواجب .. فاضطرب الفقهاء للقيام والانصراف لِما وَردَ عليهم وحيرهم وزاد في غمهم من سماع الإجابات التي فاهَ بها عبد الله بن موسى , وبينما هم على هذه الحال, فُتح عليهم باب مِنْ صدر المجلس, ودخل "موفق" خادم الإمام, وقال : هذا أبو جعفر- أي الإمام الجواد عليه السلام- فقام إليه الفقهاء واستقبلوه وسلّموا عليه, فدخل عليه السلام وجلس وأمسك الناس كلهم, فبدأت مسائلهم تترى عليه وهو يردّها بجوابِ حقٍ لا مريّة فيه .. ومِنْ بينِ هؤلاء الفقهاء الذين حضروا بين يديّ الإمام الجواد عليه السلام, إسحاق بن إسماعيل الذي أعدّ في رقعةٍ عشر مسائل, حيث قال : فأعددتُ له – للإمام الجواد- في رقعةٍ عشر مسائل وكان لي حمل(أي أنّ امرأته حبلى), فقلتُ إنْ أجابني عن مسائلي سألته أنْ يدعوا الله أنْ يجعله ذكراً, فلمّا سألهُ الناس قمتُ والرقعة معي لأسأله, فلمّا نَظرَ إلي قال : " يا إسحاق سمه أحمد ", فولد لي ذكر فسميته أحمد .
حيث أفرز هذا اللقاء مع الإمام الجواد عليه السلام, وغيره مِنْ لقاءات مماثلة, عن اعتقاد الشيعة التام بإمامته, وانقشاع سحب الغموض والشك من سماء فكرهم, فأشرقت شمس الحقيقة وأضاءت لهم الطريق نحو الصراط المستقيم .. وفي الختام نبتهل الى الله عز وجل ونتوسل إليه بالإمام الجواد أنْ يُخرج لنا شمس الحقيقة من خلف السحاب ليملأ الأرض نورا و إشراقا .
الكاتب / السيد مهدي الجابري
اترك تعليق