يقول النبيُ (صلى الله عليه وآله) "ما أوذي نبيٌ كما أوذيت". ولكن إذا قارنّا الأذى الذي تعرض له النبيُ (صلى الله عليه وآله) بالأذى الذي لحق ببعض الأنبياء الآخرين لما وجدنا وجهاً للقياس. فالنبيُ نوحٌ (عليه السلام) لبِث في قومِه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً لقيَ فيها صنوفَ الاستهزاءِ وبذل جهوداً لا تطاق، والنتيجةٌ أنْ ما آمن معه إلا قليل.
والنبيُ إبراهيمُ (عليه السلام) يُلقى به في النار ثم يؤمر بأن يذبحَ ابنَه بنفسِه غيرَ ما لقي من أذى قومِه وهجرتِه إلى الشامِ ثم تركه زوجتَه وطفلَه الرضيعَ بوادٍ غيرِ ذي زرع. والنبيُ أيوب (عليه السلام) يجردُه البلاءُ من مالِه وصحةِ بدنِه وزوجِه غيرَ ما لقي من أذى قومه. وموسى (عليه السلام) عاش الأذى وهو في بطنِ أمِه وتنقّل من بلاءٍ إلى بلاءٍ حتى لقي ربَّه. وعيسى (عليه السلام) لم يكن أقل بلاءً من سواه من النبيين ولم يتورع بنو إسرائيل والحاكمُ الرومانيُ عن إلحاقِ الأذى به ومطاردتِه ولم يكفّوا عنه إلا بعدَ أنْ رفعه اللهُ إليه وظنوا أنهم صلبوه وقتلوه.
فما الذي يجعلُ نبيَنا (صلى الله عليه وآله) أكثرَ من أوذي من النبيين وهو لم يجرِ عليه مثلُ ما جرى على كثيرٍ غيرِه؟
لا شك أن النبيَ (صلى الله عليه وآله) وأهلَ بيتِه الأطهارَ المعصومين (عليه السلام)، وإن كانوا كسائرِ البشرِ يتألمون ويحزنون ويتحسرون إلا أن آلامَهم وأحزانَهم وحسراتِهم لا تكونُ إلا في الله. وهم لا يترددون في التخلي عن كل ملذاتِ الحياةِ، بل عن الحياةِ نفسِها إذا وجدوا في ذلك التخلي مرضاةً لله وخدمةً في سبيلِه. وكذلك لا يفرحون إلا في مرضاةِ الله وفي سبيلِه. ولكونِهم المكلفين بحمل الرسالةِ السماويةِ وتبليغِها للبشرِ فإن أفراحَهم وأحزانَهم تدورُ حول هذه الرسالة. يفرحون مادامت الرسالةُ بخيرٍ والناسُ على هدى. ويحزنون إذا أعرض الناسُ عن الرسالةِ وانصرفوا إلى الدنيا.
من هنا تأتي مظلوميةُ أهلِ البيتِ (عليه السلام). إنها، باختصار، إحساسُهم بتفريطِ الناسِ بتضحياتِهم وإضاعتِهم لتراثِهم السماوي واتّباعِهم الشهواتِ الأرضية. إن إحساسَ النبيِ (صلى الله عليه وآله) بأنه أكثرُ من أوذي من النبيين نابعٌ من كونِه حمل إلى الناسِ أفضلَ الرسالات ليخرجهم من الظلماتِ إلى النورِ وتحمّل من أجلِها ومن أجلِهم صنوفَ الأذى ثم علم بأنه لن يستقيمَ منهم بعد وفاته أربعون يدافعون عن تراثِه الذي فيه صلاح دينِهم ودنياهم!
وكذلك الزهراءُ (عليه السلام)، لا يمكنُ اختزالُ مظلوميتِها بالهجومِ الغادرِ على دارِها وعصرِها بين البابِ والجدار وإسقاطِ جنينِها وغصبِ فدك منها. ولا شك في أنها حتى لم تتأوه من أجل هذه الأحداثِ مجتمعة. بل تألمت حتى ماتت لكون تلك الأحداثِ حلقاتٍ في انقلابٍ مدبّرٍ على دين أبيها ورسالتِه. والذي آلمها أكثر، حتى قتلها، أن الانقلابَ قام على أبيها باسم أبيها.
والإمامُ عليٌ (عليه السلام) مظلوميتُه أشهرُ وأوضحُ من مظالمِ غيرِه. فبعد أن قام الإسلامُ بسيفِه إذا به وبسيفِه مُغمدان ينظران إلى دولةِ العدلِ المحمدي تتناهبُها الأهواءُ والاجتهاداتُ ويتلاعبُ بمقدراتِها أولادُ الطلقاء والمنافقون. والوجهُ الآخرُ لمظلوميتِه (عليه السلام) تمثل في اضطرارِه لمقاتلةِ من شهدوا معه الشهادتين وغزواتِ رسولِ اللهِ ورؤيتِه لدماءِ المسلمين تُسفك بأيدي المسلمين.
وهذا ينطبق أيضاً على الإمام الحسنِ (عليه السلام). فما السمُّ الذي دسه له معاويةُ إلا النهايةُ الدنيويةُ لمظلوميتِه. أما مظلوميتُه الحقيقيةُ فتتمثل في انحيازِ الناسِ إلى الباطلِ وتركِهم الحقَ الواضحَ غريباً تحملُه ثلةٌ من المؤمنين كجمرةٍ من نار.
وإذا كانت المنابرُ وبعضُ كتبِ التاريخِ تركّزُ، لسببٍ أو لآخر، على الجانب المأساوي من ثورة الحسين (عليه السلام) على يزيد فإن ذلك اختزالٌ ذميمٌ لحركةٍ واعيةٍ مدروسةٍ قادها إمامٌ معصوم لإنقاذِ ما أمكن إنقاذُه في أمةِ جده. من أجل ذلك قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) "حسينٌ مني وأنا من حسين".
إن مظلوميةَ الحسين (عليه السلام) لا علاقةَ لها بشخصِ الحسين (عليه السلام) جسداً كما أن مظلوميةَ جدِّه (صلى الله عليه وآله) لا تخص جسدَه وشخصَه وكذلك مظلوميةُ الزهراءِ (عليه السلام) والإمامِ عليٍ (عليه السلام) والحسنِ (عليه السلام) وسائرِ الأئمةِ المعصومين (عليهم السلام). إنها جميعاً تتمحورُ حولَ قطبٍ واحدٍ هو دينُ الله الذي جاء به رسولُ الله (صلى الله عليه وآله). أما ما عدا ذلك فمجردُ تجسيداتٍ دنيويةٍ تُتم الحجةَ على فاعليها، الظالمين. وإلا فإن المعصومين (عليهم السلام) أسمى وأجلّ من أن يعتبروا القتلَ والعطشَ والتشريدَ وغيرَها مظلومية. من أجل ذلك وصف الإمامُ زينُ العابدين (عليه السلام) القتلَ الذي يجري عليهم بالعادة. ولو وجد كلمةً أبسطَ منها لوصفَ مَقاتلِهم بها. وأكثر من ذلك، هو يعتبرها كرامة من الله.
والحمد لله الأول والآخر.
الكاتب / كاظم الجابري
اترك تعليق