خصائصُ صفاتِ الإمامِ الحسينِ (عليهِ السّلامُ) وأخلاقُهُ وعبادتُهُ يومَ عاشوراءَ

لهذه الخصائص ميزة ظهرت في صفاته وعبادته يوم عاشوراء بالخصوص وهي منشأ جميع الخصائص ألا وهي امتثاله لخطاب خاص به من الله تعالى إذ امتثل بعبادة خاصة به في يوم واحد، وتحققت بالنسبة إليه ألطاف خاصة في مقابل أجزاء تلك العبادة .

وهي عبادة لم تتحقق من أحد قبله، ولا تحصل لأحد بعده، وهي عبادة جامعة لما يتصور من العبادات البدنية الواجبة والمندوبة، ظواهرها وبواطنها، روحها وصورتها، حيث أتى بأكمل أفراد كل واحدة منها.

فعبد الله تعالى بجميع مفردات تلك الكلمة وتراكيبها، وجمعها في ظرف يوم واحد، وأظهر مع ذلك فيه جميع مكارم الأخلاق والصفات الحسنة، متلائمها ومتضادها بأكمل أفرادها، وأضاف إلى ذلك تحمل أعظم الشدائد والابتلاء الحاصل لكل مبتلى، والصبر عليها بأكمل أنواعه، بل الشكر عليها بأكمل وجوهه، وحازت هذه العبادات من كل مزية موجبة للفضيلة على أزكاها وأسناها، وزادت على ذلك كل خصوصية للعبادة في الشدة التي هي من خصوصيات بعض الأنبياء ( عليهم السلام) والذين باهى الله تعالى بهم ملائكته.

؛لذلك حصلت له من جميع ذلك خصوصية عبادة لم يكن له شريك فيها، وبسببها اختص بنداء خاص : " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية"، واختص برضاه عن ربه تعالى ورضا الرب عنه "راضية مرضية "، واختص بعبودية  وجنة منسوبة إلى الله تعالى (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).

لنشرع في تفصيل هذه العبادة :

فنقول: اعلم أن الله جل جلاله كلّف عباده بحسب مراتبهم، ودرجاتهم، ومصالحهم، فجعل لكل نبي شرعة ومنهاجاً له ولأمته، ولكل منهم خصائص كما جعل الله تعالى الملة الحنيفية السمحة السهلة لنبينا محمد المصطفى (صلوات الله عليه وآله وسلم)  ولكن جعل له خصائص كثيرة تبلغ إحدى وعشرين أو أكثر وجعل لأوصيائه (عليه السلام) فيما يتعلق بالإمامة والدعوة  إلى الدين أحكاماً خاصة مثبتة (في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة) فجعل لكل واحد في ذلك تكليفاً خاصاً بيّنه لهم في صحيفة مختومة باثنتي عشر خاتماً من ذهب لم تمسه النار حيث جاء بها جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قبل وفاته.

وقال: يا محمد!

هذه وصيتك إلى النخبة من أهل بيتك، قال (صلى الله عليه وآله): ومن النخبة؟ قال (عليه السلام): علي بن أبي طالب وولده، فدفعها النبي (صلى الله عليه وآله) إلى سيد الوصيين علي (عليه السلام) وأمره أن يفك خاتماً منها، ويعمل بما فيه، ثم دفعها إلى ابنه الحسن (عليه السلام) ففك خاتماً فعمل بما فيه، ثم دفعها إلى أخيه الحسين (عليه السلام) ففك خاتماً فوجد فيه: أن اخرج بقوم للشهادة، لا شهادة لهم إلا معك، واشرِ نفسك لله تعالى. أي بمعنى: بع نفسك لله، ثم دفعها إلى علي بن الحسين صلوات الله عليهما ففك خاتماً فوجد فيه: اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.

ولما كان من التكليف المختص بالحسين (عليه السلام) " بع نفسك" والمراد به في خصوص يوم القتال، فلا بد أن يجمع في ذلك اليوم بين كل عبادة بدنية وقلبية وفعلية وتركية، واجبة، ومستحبة بأنواعها وأقسامها وأصنافها، وأشخاصها، المشتركة بينه وبين غيره، والمختصة به (عليه السلام)، فاستحق المعاملة الكلية مع الله تعالى، وأن يعطيه كل ما يمكن أن يعطيه المخلوق، وقد فعل ذلك.

وحصلت له بإزاء ذلك ألطاف خاصة جليلة وخفية، وتفصيل هذه المعاملة وبيان هذه العبادة إنما يتحقق بأن نعنون للعبادات والأخلاق على نحو ما في كتب الفقه، ثم نذكر كيفية تأديته لها .

كتاب العبادات البدنية الواجبة

وفيه أبواب:

الأول: باب الطهارة الظاهرية العامة:

فقد اغتسل ليلة شهادته بماء أتى به ولده علي مع علمه بأنهم يضطرون إليه، وهذا من خصائصه فاختص بالجمع بين أقسام الطهارات، ثم تطّهر بطهور خاص: هو دم قلبه فتوضأ منه بغسل الوجه، ثم اغتسل غسل ترتيب بدمائه، فغسل بها رأسه ثم بدنه ثم  غسل بها غسل ارتماس تارة أخرى.

وأما الباطنية الخاصة: فقد توضأ في يوم العاشر بوضوء خاص، فملأ كفه من بعض دمائه وغسل بها وجهه وخضبه، ثم تيمم صعيداً طيباً مباركاً فمسح به وجهه واضعاً عليه جبهته حينما تهيأ لتسليم ما باعه لله تعالى.

الثاني باب الصلاة:

في الزيارة الجامعة ورد: وأقمتم الصلاة، وفي زيارة الحسين (عليه السلام) بالخصوص: وأقمت الصلاة، فله إقامة الصلاة المختصة به، فقد صلى في ذلك اليوم بأربعة أقسام من الصلوات.

القسم الأول: الوداع لصلاة الليل، وهي التي لها استمهل القوم ليلة عاشوراء.

القسم الثاني: صلاة الظهر في ذلك اليوم على طريقة صلاة الخوف بنحو خاص به غير صلاة عسفان وذات الرقاع وبطن النخل وعسفان موضع بين مكة والمدينة، وذات الرقاع: مخازن بنجد كانت تمسك الماء لبني كلاب، وبطن النخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة.

القسم الثالث: روح الصلاة من أسرار أفعالها وأقوالها وكيفيتها على ما هو مذكور في كتاب الصلاة.

القسم الرابع: صلى صلاة خاصة به بتكبير خاص وقراءة خاصة وقيام خاص وركوع خاص وسجود وتشهد وتسليم، أحرم لها حين نزل من الفرس وقام حين وقف راجل، وركع حين كان ينوء أي: ينهض ويقوم، ويكبو أي: يسقط، وقنت بقوله:

"اللهم متعال المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادرعلى ما أردت، ومدرك ما طلبت، شكور إذا شكرت، وذكورإذا ذكرت، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً وأتوكل عليك كافياً، احكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرّونا، وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا، وقتلونا ونحن عترة نبيك، وولد حبيبك (صلى الله عليه وآله) الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً، برحمتك يا أرحم الراحمين "

ثالثاً: باب الصوم:

قد وقع التكليف به مختلفاً، وهو اثنا عشر قسماً ذكرتها في فصل مستقل، وأعلاها صوم الحسين (عليه السلام)، فقد أتى بصوم أمسك فيه عن الطعام وشرب الماء.

وأضاف إليهما الإمساك عن جميع علائق القلوب والأبدان ؛ ولذا جعل الله تعالى لصومه إفطاراً خاصاً أهداه إليه على يد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)  وهو منتظر لوقت الإفطار، كما أخبره به ولده علي الأكبر( عليه السلام) وقال: هذا جدي بيده كأس مذخورة لك.

رابعاً: باب الجنائز:

يجب تجهيز الأموات وتغسيلهم وتكفينهم وتحنيطهم والصلاة عليهم إلا الشهيد في المعركة، فيجب الصلاة عليه ودفنه بثيابه، ويستحب التشييع لجنائزهم وحملها، والتربيع في حملها، وغير ذلك، إلا الحسين (عليه السلام)  ، وأما الدفن فروي أنه (عليه السلام) حفر لرضيعه بسيفه فدفنه لأسباب:

الأول: التمكن منه وحده

الثاني: أن لا يقطع رأسه

الثالث: أن لا يبقى مطروحاً ثلاثة

الرابع: أن لا يرض بحوافر الخيول

الخامس: عدم القدرة على النظر إليه

ولا ننسى أنه روي أن أكثر من رضيع للحسين قتل يوم الطف، نعم قد فعل ما تمكن منه من حمل الأجساد وجمعها ووضع بعضها على بعض، فإذا وجد من يحمل الجنازة معه فعل، ومع عدم الوجدان كان (عليه السلام) يحمل بنفسه ويشيع ويربع.

خامساً: باب الزكاة والصدقات:

فقد أدى زكاة البدن، وزكاة المال لا العشر وربع العشر بل جميعه حتى الثوب العتيق الذي لا قيمة له، ودفع ليلة عاشوراء أثواباً قيمتها ألف دينار لفك الرقاب كما ورد في اللهوف لابن طاووس (41).

سادساً: باب الحج:

قد امتاز حجه من عباداته بخصوصيات، سنذكرها في عنوان ما يتعلق منه ببيت الله- إن شاء الله تعالى-.

سابعاً: باب الجهاد:

في زيارة الجامعة، وجاهدتم في الله حق جهاده، وفي زيارة الحسين (عليه السلام) بالخصوص: أشهد أنك قد جاهدت في الله حق جهاده، نعم له خصوصية (عليه السلام) في الجهاد فأمر بجهاد خاص في أحكامه لم يؤمر به أحد قبله.

وذلك من وجوه:

الأول: إن من شرائط الجهاد في أول الأول أن يكون الواحد بعشرة لا أكثر، فيلزم ثبات كل واحد في مقابل عشرة من الكفار، ثم خفف الله تعالى عنهم، وعلم أن فيهم ضعفاً فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين، فلم يوجب الجهاد إذا كان عدد العدو عشرة أضعاف المجاهدين، ولكن قد كتب عليه (عليه السلام)  القتال وحده في مقابل ثلاثين ألفاً أو أكثر.

الثاني: أنه لا جهاد على الصبيان ولا على الهرم وهو الشيخ الكبير، وقد شرع الجهاد في واقعته على الصبيان مثل القاسم (عليه السلام) ، بل على مثل عبدالله بن الحسن (عليه السلام) وعلى الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر (سلام الله عليه).

الثالث: أن لا يظن الهلاك، ولكنه (عليه السلام) قد علم بأنه يقتل، فقال لأصحابه: أشهد أنكم تقتلون جميعاً ولا ينجو أحد منكم إلا ولدي علي.

ثم إن أعداءه خالفوا في سلوكهم معه حتى الأحكام التي جعلها الله تعالى للقتال مع الكفار وهي كثيرة منها:

عدم القتال في الشهر الحرام، ولكنهم قاتلوه فيه.

ومنها: أن لا يقتل صبي ولا امراة من الكفار، ولكنهم قتلوا منه صبيان بل رضعاً، فرضيع حين أراد تقبيله ورضيع حين أراد منهم أن يسقوه.

ومنها : أن لا يحرق زرعهم، وقد أحرقوا بعض خيامه أثناء حياته، وأرادوا حرقها مع من فيها فخاب كيدهم ولكنهم أحرقوا بعضها الآخر بعد قتله.

ومنها أن لا يهجموا دفعةً واحدة  إذ الشرط هو الوحدة في المبارزة ولو مع الكفار.

ومنها: أن لا يبدأوا في الهجوم قبل الظهر بل العصر حتى لا تطول المقاتلة، ويحول الليل بينهم لئلا يستأصلوا.

ومنها: أن لا ينقل رأس من المعركة كما جاء في كتاب المبسوط للشيخ السيوطي 2:33، وقيل إنه يكره نقل رؤوس الكفار إلا مع نكاية بهم، فأصل قطع رأس الكافر جائز ونقله في أرض المعركة جائز، ولكن لا يجوز أن ينقل من الميدان ومحل الحرب إلى مكان آخر.

ومنها: أن لا يسلب كبير الكفار إلا إذا قتل.

حتى إن علياً (عليه السلام) لما قتل عمروبن ود وهو الكفر كله لم يسلب منه حتى درعه الذي لم يكن له نظير في ذلك الزمان على ما قيل ولم يكن من لباسه وقد سئل (عليه السلام) عن ذلك فقال: إنه كبير قوم ولا أحب هتك حرمته.

وذلك حينما قال المصطفى (صلى الله عليه وآله) فيه : برز الإيمان كله إلى الشرك كله، وبذلك فرحت أخته لما رأت أخاها غير مسلوب، وعلمت أن قاتله علي (عليه السلام) ؛ فكان فرحها لشيئين:

أحدهما: أن قاتله كفء كريم، وشخص جليل ؛ لذا قالت:

لو أن قاتل عمر غير قاتله ... لكنت أبكي عليه آخر الأبد

ثانيهما: أنه (عليه السلام) قد تركه ولم يسلب درعه؛ لذا قالت: " لا رقأت دمعتي ان اهرقتها "، تعني إن سروري باحترام قاتلك لك قد أنساني مصيبة قتلك فلا أبكيك، بل يقال إنها هلهلت فرحاً، وقالت: يا أخي عشت طويلاً جليلاً مكرماً، وقتلت بيد جليلٍ محترماً، ثم أنشدت:

لكن قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديماً بيضة البلد

فما أدري لو كان قاتل أخيها ابن راعية معزى، أبقع أبرص من أرذل الناس، فما كانت تصنع؟!

ومنها: أن لا يمّثل بقتيل من الكفار حتى إن أمير المؤمنين (عليه السلام) نهى عن المثلة بأشقى الأشقياء من الأولين والآخرين، وهو ابن ملجم، فقال (عليه السلام) :

إذا متُ فلا تمثلوا به بعدي وهذا الحكم ثابت عند الكفار، وعبدة الأصنام أيضاً في الجاهلية حتى بالنسبة إلى المسلمين الذين قُتِلُوا فإن أبا سفيان لما وقف يوم أحد على الشهداء بعد فرار المسلمين في الأطراف ورأى جسد الحمزة جاء إليه ووضع الرمح على فمه وضعاً وشمت بقتله.

وقال: ذق يا شاق يا عاق.

لكن لما رأى المثلة في أصابعه وبطنه وإخراج كبده صاح بأعلى صوته: يا أتباع محمد إن قتلانا في قتلاكم مثلة، والله ما أمرت بهذا ولا رضيت به.

ولكن قد أمر بأعظم المثلة دعيُّ أبي سفيان، فكتب إلى ابن سعد: " إذا قتلت حسيناً اركب الخيل ظهره وصدره.!

ولست أرى أن هذا يضر بعد الموت شيئاً  لكن على قول قد قلته: لو قتلته لفعلت هذا به.

ومنها: ألا يُمرَّ بنساء الكفار إذا أُسِرْنَ على رجالهن القتلى، ولذا عاتب المصطفى (صلى الله عليه وآله) بلالاً حين مر بصفية أسيرة على قتلى اليهود، حتى ارتجف وارتعدت فرائصه، ولكن عظمة المصيبة بالنسبة إلى سبايا آل محمد (صلى الله عليه وآله) ليست في مجرد المرور بهن على قتلاهن مضرجين بالدماء بل في اصطحابهن لقتلاهن أياماً كثيرة، تزيد على الشهر، وكون رؤوس القتلى بمنظرهن.

ومنها: أن النساء من الكفار إذا أُسِرْنَ واسترققن وكنّ من بنات السلاطين فلا يعرضن للبيع في الأسواق، ولا يوقفن في المجالس، ولا تكشف وجوههن كسائر نساء الكفار، ولكن روي عن الباقر (عليه السلام)أنه جيء بسبايانا إلى الشام مكشفات الوجوه؛ فقال أهل الشام ما رأينا سبايا أحسن وجوهاً من هذه السبايا ومع ذلك فقول الشامي ليزيد: هب لي هذه الجارية، يقرع الكبد أكثر من العرض للبيع.

ثامناً: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: له (عليه السلام) من ذلك قسم لم يكلف به غيره حتى إنه تبسم في وجه قاتله ووعظه لما أراد قتله، ووعظ رأسُه الشريف الراهبَ ودعاه إلى الحق فأسلم على يديه.

من كتاب: الخصائص الحسينية للمؤلف : آية الله الشيخ جعفر التستري .

المرفقات