طرحت وبُحِثَت مسألة " البناء على القبور " على مرّ العصور ، وعند المذاهب الإسلامية قاطبة ، في الفقه الإسلامي ، إلاّ أنّه وخلال القرنين الأخيرين ، ظهرت لنا فرقة مشبوهة المنشأ والطرح وهي « الوهابية السلفية » ، فعملت على تحويل ونقل هذه المسألة من المباحث الفقهية إلى المباحث العقائدية .
والسبب في ذلك ، هو لأجل إيجاد أكثر قدر ممكن من المبرّرات الدينية لتكفير الأمّة الإسلامية بجميع مذاهبها ، فهم وبما جاؤوا به من باطلٍ ومن مقولات مزيفة ، كانوا يحتاجون للمبرّر الديني الذي يساعدهم في إقناع النّاس البسطاء بأنّهم أهل إصلاح في هذه الأمّة .
فالحركة « الوهابية السلفية » وعند نشأتهم على يد المستعمر البريطاني ، ولتحقيق مشروعهم السياسي الشاذ ، والذي رسمه فتية المخابرات البريطانية في دولتهم الثانية المدعو " بيرسي زخريا كوكس " و" وليم شكسبير" و "جون بريدجر فيلبي " وقبلهم أخرین ، كانوا يحتاجون للمبرّرات الشرعية التي تبرّر لهم كل تلك الأفعال الإجرامية من قتلٍ وذبحٍ للمسلمين في الجزيرة العربية ، والتي يفرضها تحقيق مشروعهم في السيطرة على أقدس مكان للمسلمين وهو بيت الله الحرام ، وهذا ما حصل وما نراه يحصل اليوم من تقتيل وجرائم يندى لها جبين الإنسانية .
ومن جملة القضايا التي لأجلها ، كفّر " الوهابية السلفية " جميع أتباع المذاهب السنّية والشيعية ، بل حكموا عليهم بالشرك ، مسألة " البناء على القبور " .
ونحن هنا سوف ننقل حكم " البناء على القبور " عند علماء وأئمة المذاهب الإسلامية ، لنُبَيّن أنّ تكفير أفراد الأمّة الإسلامية لأجل بنائهم القباب والمقامات على قبور الأولياء والصلحاء ، هي بدعة وهابية سلفية ، لم يسبقهم لها أحد من المسلمين .
فبعد أن نعلم أنّ فقهاء وأئمة المذاهب الإسلامية ، يقصدون بعبارتهم " البناء على القبور " معنيان :
الأول : بناء القباب والمقامات والمساجد على القبر ، كما نراه اليوم في جملة من بلاد المسلمين .
الثاني : هو البناء على القبر بحيث يكون مرتفع عن الأرض قليلا ، بالحجارة أو الرخام أو الجص ، ويسمى تجصيص والتطيين .
نقول : أنّ مشهور أئمة و فقهاء المسلمين من السنّة والشيعة ، قد أجمعوا على كراهة البناء على القبور بالمعنى الأول ، أي بناء القباب والبيوت على القبر ، إلا أنّ بعضهم حرّم اتخاذ القبور مسجدا ، وكذلك استثنى بعضهم قبر الرسول الأكرم (ص) وأهل بيته (ع) ، والكرام من الصحابة والمؤمنين .
وكذلك اختلفوا في البناء عليه بالمعنى الثاني ، بين من قال بالكراهة ومن قال بالجواز والإستحباب ، ومن قال : بتقديم أحدهما على الآخر ، وفي مايلي نص فتواهم :
الشيعة الإمامية :
الشيخ الطوسي : قال ما نصّه : تجصيص القبور والبناء عليه في المواضع المباحة مكروه إجماعاً (المبسوط : ج 1 ص 187 ، في أحكام الجنائز ) .
ثمّ قال بعد عدّة أسطر : ويكره تجديد القبور بعد اندراسها ، ولابأس بتطيّنها ابتداء ، والأفضل أن يترك عليه شيء من الحصا (المبسوط : ج 1 ص 187 ، في أحكام الجنائز ) .
الشهيد الأول : قال ما نصّه : الأخبار الدّالة على تعظيم قبورهم (ع) وعمارتها وأفضليّة الصلاة عندها ، هي كثيرة ( الذكرى : ج 1ص 420 ،كتاب الصلاة ، المقام الخامس في أحكام الميت ، الحكم الخامس في الدفن ، المطلب الثالث في التوابع ، المبحث الأول في الأحكام ) .
الحنابلة :
ابن قدامة : قال مانصّه : ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنّما ، ويرش عليه الماء ،و لابأس بتطيينه ، ويكره تجصيصه والبناء والكتابة عليه والجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه (المقنع : ج 1 ص 285 ، كتاب الجنائز ، فصل في حمل الميت ودفنه ) .
المرداوي : قال ما نصّه : أمّا التجصيص : فمكروه بلا خلاف نعلمه ، وكذا الكتابة عليه ، وكذا تزويقه ، وتخليقه ، ونحوه ، وهو بدعة . أمّا البناء عليه : فمكروه على الصحيح من المذهب ، سواء لاصق البناء الأرض أم لا ، وعليه أكثر الأصحاب . قال في الفروع : أطلقه أحمد ، والأصحاب (الإنصاف : ج 2 ص549- 550 ، كتاب الجنائز ) .
ثمّ قال بعد ذلك مانصّه : وقال صاحب المستوعب ، المجد ، وابن تميم ، وغيرهم : لا بأس بقبة ، وبيت ، وحظيرة في ملكه (الإنصاف : ج 2 ص549- 550 ، كتاب الجنائز ) .
المالكية :
قال مالك : مانصّه : أكره تجصيص القبور والبناء عليها ، وهذه الحجارة التي يبنى عليها (المدونة الكبرى : ج 1 ص 189 ، كتاب الجنائز ، فصل تجصيص القبور ) .
وقال الدسوقي : ما نصّه : وقوله [يكره] دفنه بدار : إنّما كُره لأنّه لا يُؤمَن عليه أن يُنبَش مع
انتقال المُلك ( حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : ج 1 ص 424 ، فصل ذُكر فيه أحكام الجنائز ) .
الحنفية :
قال الكاساني : ما نصّه : ويكره تجصيص القبر وتطيينه ، وكره أبو حنيفة البناء على القبر ، وأن يُعلّم بعلامة ، وكره أبو يوسف [ هو القاضي يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، تلميذ أبو حنيفة ] الكتابة عليه ، ذكره الكرخي ، لما روي عن جابر بن عبد الله عن النبي أنّه قال : « لاَ تُجَصِّصُوا القُبُورَ وَلاَ تَبْنُوا عَلَيْهَا ولاَ تَقْعُدُوا ولاَ تَكْتُبُوا عَلَيْهَا » ، ولأن ذلك من الزينة ، ولا حاجة للميت إليها ، ولأنّه تضييع المال بلا فائدة ، فكان مكروهًا (بدائع الصانع في ترتيب الشرائع : ج 2 ص 359 ، كتاب الصلاة ، فصل في سنّة الدفن ) .
وفي موضع آخر قال : قال أبو حنيفة : ولابأس بزيارة القبور والدعاء للأموات إن كانوا مؤمنين ، من غير وطء القبور ، لقول النبي (ص) : إِنِّي كُنتُ نَهَيتُكُم عَن زِيَارَةِ القُبُورِ ، أَلاَ فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَة » ، ولعمل الأمّة من لَدُن رسول اللّه (ص) إلى يَومنَا هذا (بدائع الصانع في ترتيب الشرائع : ج 2 ص 359 ، كتاب الصلاة ، فصل في سنّة الدفن ) .
الشافعية :
قال الشافعي : مانصّه : وأكره أن يبنى على القبر مسجد ، وأن يسوى أو يُصلَى عليه وهو غير
مسوى ، أو يُصلَي إليه ، وإن صَلَى إليه أجزأه وقد أساء ( كتاب الأم للشافعي : ج 2 ص 632) .
وفي موضع آخر قال : فإن كانت القبور في الأرض يملكها الموتى في حياتهم أو ورثتهم بعدهم ، لم يهدم شيء أن يبنى منها ، وإنّما يُهدم إن هدم ، مالا يملكه أحد ، فهدمه لئلاّ يحجر على النّاس موضع القبر ، فلا يُدفن فيه أحد ، فيضيق ذلك بالنّاس (كتاب الأم للشافعي : ج 2 ص 631) .
فبعد كل هذه الفتاوي ، الكاشفة على عدم حرمة البناء على القبور ، يخرج علينا رويبضة مشايخ " الوهابية السلفية " ، ليكفروا ويرموا المسلمين بالشرك كذبا وزورًا وتحريفًا لما أجمعت عليه الأمّة بمختلف مذاهبها ، لا لشيء إلاّ لكونهم بَنو بُنيانًا على قبور أولياء وصلحاء هذه الأمّة .
وبعد كلّ هذا يخرج علينا " ابن عبد الوهاب " مدّعيا كذبًا أنّ أهل العلم أجمعوا على عدم جواز البناء على القبور ووضع الستور عليها .
وهذا نصّ ما نقله عنه تلميذه " عبد العزيز بن عبد الله الحصين " : قال : قال الشيخ : و وردت الأحاديث بحرمته ، وهو عمارة القبور ، وإلقاء الستور عليها ، وتسريجها ، وهذه كلّها كبائر كما قال : أهل العلم (الدرر السنية في الأجوبة النجدية : ج 2 ص 188 ) .
والحمد لله رب العالمين
الكاتب / السيد حبيب المقدم
اترك تعليق