إثارات العلمانيين الغربيين حول الإسلام

كثيراً ما تثار من قبل العلمانية الغربية شبهات حول الشريعة الإسلامية أو ضد كل الشرائع الدينية ، و تكون هذه الشبهات عادتها التشكيك في أصول الدين؛ لتنال غاياتها المجهولة المرام، و تحريف البشرية عن جادة العدل الإلهي .

بعد ضعف الجانب المسيحي في الدول الغربية و استفحال الجانب العلماني بسبب انحياز و انجرار بعض رجالات الكنائس إلى الجهات الحاكمة و الإقطاعية الظالمة الغاصبة لحقوق الإنسان ظهرت في هذه الحقبة مدارس العلمانية التي روجت فكرها عن طريق استعمال كلمة الحرية و السيطرة على عقول الناس بالأفكار الضالة المشككة في مبادئ الشرائع ، و من هذة الشبهات التي ظهرت في الوقت الحاضر هي :

أوّلاً : شبهة أنّ النبوة نوع من النبوغ البشري.

ثانياً : شبهة أنّ النبي لا يملك الحقيقة.

ثالثاً : شبهة أنّ توقف النبوة تعني نضوج البشرية واستغناءها عن السماء.

في البدء نودّ أن نذكر أنّ الدين الإسلامي أقوى من هذه الإثارات والإشكالات ، وأنّه لا يزداد إلاّ قوّة ونصاعة وثباتاً بعد هذه الرياح التي تهب عليه من هنا أو هناك ...

البعض ينظر إلى الدين على أنّه أسطورة ليس إلاّ ، والبعض يرتاح إلى الدين  ليس إيماناً منه بأنّه منزل من عند الله ، ولكن لأنّ الدين يحارب الجريمة ، وينظّم المجتمع .

و حاول الغربيون أن يوجّهوا العديد من الإشكالات على الدين الإسلامي ، وعلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ؛ لأنّه المذهب الأكثر تمسّكاً بالحجج المنطقية ، وتطابق العلوم الدينية مع العقل والمنطق .

وسنطرح الإثارات ، ونردّ عليها حسب مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، وأمّا حسب باقي المذاهب الإسلامية فالرّد عليها ممتنع ؛ بل إنّهم يتبنّون نفس المباني التي يثيرها العلمانيون الغربيون ، ويكررها العلمانيون من المسلمين والعرب ؛ لأنّ هؤلاء يطرحون ما يطرحه الغربيون وترجع أساساً إلى المدارس التي نشأت بعد ضعف الديانة المسيحية و سيطرة الجهات العلمانية ، فتكونت ثلاث مدارس هي المدرسةالعلمانية  (السكولارزم) تعني فصل الدين عن السياسة ، و المدرسة المتعددة للإدراك (البلوري ألسم) وهي مدرسة تعتمد أساس المنطقية ، و المدرسة (الهرمونيطيقية) وهي مدرسة أدبية و تعتمد على علوم اللغة و الألسن .

ومن الإثارات المطروحة هي أنّ الباري -سبحانه وتعالى- ذاتٌ أزلية غير محدودة في اعتقاد الموحّدين الذين يعتقدون بالألوهية ، فذات الباري غير متناهية ، ولا يشك أحدٌ في ذلك من أصحاب الديانات السماوية ، بل وحتّى المشركين يعدّون من الملل الإلهية ؛ لأنّهم يقولون بوجود الإله ، وهم لم يبنوا فكرهم على الوثنية إلاّ لأنّهم يقرّبونهم إلى الله زلفى ، وأمّا الملحدون الذين يؤمنون بالمادة فكلّ البشر يذعنون بفطرتهم أنَّ هناك حقيقة غير متناهية في الوجود وإن اختلفوا في تسميتها ، والإثارة المطروحة هي :

كيف يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإحاطة بكلّ الحقائق ، وهو مخلوق ولا يحيط بالحقائق كلّها ، وأنّنا إذا سلّمنا بكلّ ما قاله محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ العقل البشري سيصيبه الجمود وتتعطّل عجلة الفكر الإنساني.

وهم يعبّرون عن النبوة بأنّها نوعٌ من التجربة البشرية شبيهة برياضة المرتاضين والمتصوّفة ، وأنّ النبوة نوعٌ من أنواع النبوغ البشري ، إذاً فمصدر عظمة الأنبياء هو العقل أو الروح.

والمذاهب الإسلامية الأخرى غير مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يقولون بأنّ النبي علومه محدودة في إطار التشريع ، وهذا ما يرويه مسلم بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقوم يلقّحون، فقال "لولم تفعلوا لصلح" قال فخرج شيصاً فمرّ بهم فقال: "ما لنخلكم؟ "  قالوا: قلت كذا وكذا ، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم(1) .

وهم يقولون في مواضع عديدة بأنّ النبي اجتهد فأخطأ(2) ، وفي كتب أصول الفقه عندهم يذكرون موارد اجتهاد النبي ثم تخطئته(3) ، ويذكرون أنّ القرآن نزل موافقاً لرأي الصحابة ومخطئاً لرأي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(4) .

ولو حوّلنا جملة "أنتم أعلم بأمر دنياكم" التي ينسبونها إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التعبير اللاتيني لأصبحت (سكولار) فصل الدين عن الحياة العامة ، أو كما يقال : ما لله لله وما لقيصر لقيصر ، إذاً هذا الطرح موجود في المذاهب الإسلامية الأخرى غير مذهب أهل البيت(عليهم السلام) .

ونستطيع أن نقول إنّ المذاهب الإسلامية الأخرى تمثّل العلمانية القديمة في محتواها وفي معناها ، وهذه ليست مجرد روايات مذكورة ، وإنّما هم يتبنّونها ويبنون عليها آثاراً كثيرة .

وفي ذيل هذه الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(5) .

يرون أنّ النبي قد تسلط الشيطان على قلبه وروحه ، ثم حكى آيات ليست من عند الله ، وتسمى هذه القضية قضية (الغرانيق )، "أفرأيتم اللاّت والعُزّى ومناة الثالثة الأُخرى وإنهنّ من الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهم لترتجى"(6) . وأنّ قريش قد استبشرت بمداهنة الرسول لها ، فنزل جبرئيل وسدّد النبي ، وقال له : إنّ تلك الآيات آيات شيطانية وليست آيات رحمانية ، القضية ليست مذكورة في كتب الحديث فحسب ، بل توجد في كتب الأصول والتفسير والكلام .

والنص في كتاب البخاري لا يذكر لفظ (الغرانيق) ، وإنّما يذكر أنّ الشيطان يلقي في قراءة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(7) ، وإن اختلف النص إلاّ أنّ المعنى واحد ، والإيمان بهذه الأُمور في حق النبي يعني فيما يعني الإيمان ب(البلوري ألسم) وتعدّد الإدراك ، وأنّ كلام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، قد يصيب وقد يخطىء ، وأنّ النبي لا يدرك كلّ الحقيقة ، وليس له أن يفنّد رأي الآخرين ، وهذا ينتج منه عدم صحة القول بخلود الشريعة الإسلامية ، وكيف تخلد وهي لا تمتلك الحقيقة؟!

ومن ثم يظهر لنا مصطلح عقلنة الخطاب الديني ، وهناك من يطرح نفس الطرح حتّى من وسطنا الداخلي ، ويقولُ : إنّه يحق للعقل أن ينتقد بعض خطوات الأنبياء من باب (البلوري ألسم) أو تعدّد الإدراك.

وهم يفسّرون (خاتم النبيين)(8) ، وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم ): "لا نبي بعدي"(9) أنَّ إرسال الرسل إلى الأُمم السابقة إنّما حدث بسبب عدم تأهّل تلك الأُمم ، وأنّها لم تبلغ سن الرشد ، فلذلك احتاجت إلى نبي يرشدها ، أمّا الأُمم من بعد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)فهي قد بلغت سن الرشد ، ولا تحتاج إلى قيمومة ووصاية السماء ، وهي قادرة بواسطة الحوار والمجتمع المدني والديمقراطية والتجارب العملية والانفتاح والحرية على الاستغناء عن السماء وشريعتها ، فيكون خاتم الأنبياء .

وهم يقولون : إنَّ الشريعة لا تعالج الأُمور المعاشية والمتعلّقة بالحياة العامة ، فأين قوانين النظم العسكرية ،والمصارف، والبنوك ،والاقتصاد، والإدارة، وغيرها؟

وهذا الإشكال وقعت فيه المذاهب الإسلامية الأُخرى وإن هم أنكروا على العلمانيين الغربيين والعلمانيين المسلمين ، بل كفّروهم أو حكموا بضلالهم ، ولكنّهم يتبنّون نفس المعنى وإن اختلف اللفظ ، فهم يتخبّطون في فهم قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)(10) بعد أن أقرّوا أنّ القرآن ليس تبياناً لكل شيء من أُمور الدنيا ، فبعضهم قال: إنّ القرآن ليس فيه تبيان لكل شيء من الدين والدنيا ، وإنّما فقط من الدين  مع أنّ بعض المفسّرين كالمفسّر الطنطاوي له تفسير يبيّن فيه المعجزات العلمية العديدة التي ذكرها القرآن ثمّ أثبتها العلم بعد عدّة قرون.

والذين قالوا : إنّ القرآن فيه كل شيء من الدين اصطدموا بأنّ القرآن ليس فيه كل شيء من الدين ، فيقول البعض متوسّلاً في الخروج من هذه المشكلة : إنّ السنّة النبوية داخلة في هذا النطاق ؛ لقوله تعالى: (مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(11) ، فتكون السنة النبوية داخلة في تبيان لكل شيء المذكور في الآية الكريمة ، وعندما رأوا أنّ السنة ليس فيها تبيان لكل شيء ضمّوا لهما الإجماع باعتبارها مصدراً من مصادر التشريع ، وأنّه حجّة ، ولكن هذا لم يحل المشكلة ، ثم ضمّوا القياس والظن والرأي(12) .

ومن هنا فإنّهم وقعوا في مشكلة أنّ القرآن والسنة ليس فيهما تبيان لكل أُمور الدين فضلاً عن الدنيا، ففتحوا باب العقول والتجارب البشرية ، وهذا عين ما يدعو إليه العلمانيون ، وهم كفّروا نصر حامد أبو زيد ، ونحن لسنا بصدد تصحيح مسلكه ، ولكن نقول: إنّ ما طرحه هوما تتبنّونه أنتم وإن اختلف اللفظ ، وحكمت المحكمة الشرعية ببينونة زوجته منه ، وهو يعيش الآن في الغرب .

وهنا نقاط لابدّ من ذكرها :

النقطة الأُولى: هي وجود الحقيقة ، ولابدّ من وجود الحقيقة سواءً كانت هذه الحقيقة هي حقيقة الحقائق ومحقّق الحقائق وموجد الحقائق ومقرّر الحقائق والمثبت للحقائق ، وهو الله -سبحانه وتعالى- على مبنى الموحّدين ، أو حتّى على مبنى الماديين الذين يؤمنون بأنّ المادة لها حقيقة أو الذي ولّد المادة له حقيقة ، وإلاّ لو لم تكن للمادة حقيقة فلِمَ هذه البحوث العلمية الكثيرة؟ ، هل هي بحث وراء سراب أو بحث وراء حقائق؟

طبعاً بحث وراء الحقائق .

إذاً البحث العلمي يجب أن يبحث عن الحقيقة .

النقطة الثانية : إنّ السير البشري في العلوم التجريبية وإن ازدادت وتيرته بصورة مضاعفة إلاّ أنّه لن يقف عند حدّ من الحدود وعند درجة من الدرجات .

والنتيجة أنّ البشر لن يصلوا إلى الكمال العلمي بحسب الواقع والحقيقة ؛ بل إنّ البشرية ستظلّ تبحث وتبحث عن الحقيقة ، وهذا دليل على النقص والعجز البشري في بلوغ الكمال ، والحاجة إلى الله -جلّ جلاله- ؛ لأنّه هو المحيط بكلّ الحقائق ومطلق الوجودات ، ويعلم بكلّ القوانين والمعادلات .

ومن خلال النقطتين السابقتين نستطيع أن نردّ بأنّ البشرية لم تصل إلى مرحلة النضج البشري ، وعدم الوصول هذا يدلّ على الجهل البشري ، والله يعلم إلى أيّة درجة سيكون الفارق بيننا وبين الأجيال القادمة في التقدّم العلمي وأساليب المعيشة .

إذاً البشر لم يصلوا إلى سنّ الرشد ، ولم يستغنوا عن وصاية السماء ؛ لأنّهم لا يزالون يعيشون المحدودية في التفكير ، ولا يستغنون عن العالم المطلق الذي يحيط بالأدوار الزمنية والعوالم المختلفة وأُصول الخلقة البشرية والموجودات الأُخرى وأسرارها وكيفية ارتباطها وتأثيرها على بعضها وتأثيرها على الإنسان ، والبشرية لن تصل في يوم من الأيام إلى اكتشاف كلّ أسرار الكون ، ومن هنا تأتي ضرورة النبوة؛  لأنّ البشرية غير كاملة ، ومن هنا تحتاج إلى حبل متصل بين الأرض والسماء الذي يحيط بكلّ الأُمور .

بحوث معاصرة في الساحة الدولية / محمد السند ... بتصرف .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- صحيح مسلم 4: 1464، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، الحديث 2363 .

2- عمدة القاري شرح صحيح البخاري 18: 61 ، كتاب المغاري ، باب 81 في حديث كعب ابن مالك .

3- الإحكام في أصول الأحكام 4: 221 فما بعدها ، الاجتهاد بالرأي في مدرسة الحجاز الفقهية: 112 فما بعدها .

4- صحيح البخاري 1: 308 ، كتاب الجنائز ، باب الكفن في القميص الذي يكف ، الحديث 1269 .

5- الحج (22): 52 .

6- مجمع الزوائد 6: 24 ، الحديث 9850 .

7- صحيح البخاري 3: 238 ، كتاب التفسير، سورة الحج .

8- الأحزاب (33): 40 .

9- مسند أحمد 3: 114 ، الحديث 1532 .

10- النحل (16) : 89 .

11- الحشر (59): 7 .

12- روح المعاني 7: 452 ، ذيل سورة النحل (16): 89 .