البداء لغة : هو الظهور بعد الخفاء قال تعالى: (( وَبَدَا لَهمْ منَ اللَّه مَا لَمْ يَكونوا يَحْتَسبونَ, وَبَدَا لَهمْ سَيّئَات مَا كَسَبوا )) والبداء بهذا المعنى لا يطلق على الله سبحانه وتعالى بتاتاً لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به وهو محال في حقه وسيأتي توضيحه.
والبداء اصطلاحاً : تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة، وتأثيرها فيما قدّر الله تعالى من التقدير المشترط، قال تعالى: (( ثمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مسَمّىً عنْدَه )) فبيَّن أن الآجال على ضربين، وضرب منهما مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان وقال أيضاً: (( وَمَا يعَمَّر منْ معَمَّر وَلا ينْقَص منْ عمره الاّ في كتَاب )).
اعتقاد الإمامية تبعاً لنصوص الكتاب والسنة على أنه سبحانه عالم بالأشياء والحوادث كلها غابرها وحاضرها ومستقبلها، كليها وجزئيّها وقد أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) أمر البداء بقوله: (فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل) (بحار الأنوار ج4/121).
ما هي المناسبة التي تصحح إطلاق لفظ البداء على تغيير المقدّر؟
إن هذا الإطلاق هو من باب المشاكلة في التسمية، فإن الله سبحانه يعبّر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبّر به الناس عن فعل أنفسهم لأجل المشاكلة الظاهرية، فترى القرآن ينسب إلى الله تعالى (المكر والكيد) و(الخديعة) و(النسيان) و(الآسف). إذ يقول (( إنَّهمْ يَكيدونَ كَيْداً * وَأَكيد كَيْداً )) (الطارق:15-16) (( وَمَكَروا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً )) (النمل:50) (( إنَّ الْمنَافقينَ يخَادعونَ اللَّهَ وَهوَ خَادعهمْ )) (النساء:142) (( نَسوا اللَّهَ فَنَسيَهمْ )) (( فَلَمَّا آسَفونَا انْتَقَمْنَا منْهمْ فَأَغْرَقْنَاهمْ أَجْمَعينَ )) (الزخرف:55) إلى غير ذلك من الآيات والموارد.
قال السيد الداماد في (نبراس الضياء): ((البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية نسخ فهو في الأمر التكويني والمكونات الزمانية بداء، فالنسخ كأنه بداء تشريعي و البداء كأنه نسخ تكويني)).
وذكر السيد محمد حسين الطباطبائي في (هامش أصول الكافي) : ((البداء من الأوصاف التي ربما تتصف بها أفعالنا الاختيارية من حيث صدورها عنا بالعلم والاختيار، فإنا لا نريد شيئاً من أفعالنا الاختيارية إلاّ بمصلحة داعية إلى ذلك تعلق بها علمنا، وربما تعلق العلم بمصلحة فقصدنا الفعل ثم تعلق العلم بمصلحة أخرى توجب خلاف المصلحة الأولى، فحينئذ نريد خلاف ما كنا نريده قبل، وهو الذي نقول: بدا لنا أن نفعل كذا، أي ظهر لنا بعدما كان خفياً عنا، فالبداء: ظهور ما كان خفياً من الفعل لظهور ما كان خفياً من العلم بالمصلحة، ثم توسع في الاستعمال، فأطلقنا البداء على ظهور كل فعل كان الظاهر خلافه.
وبطبيعة الحال فإن هذا المعنى من البداء الذي يجوز أن تتصف به أفعالنا لا يمكن أن ينطبق مع أفعاله سبحانه، لأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فليس معنى البداء هنا ظهور أمر كان خفياً عنه، لأن ذلك يلزم عنه الجهل تعالى عن ذلك، ومن هنا فقد أنكر بعض المسلمين البداء وشنعوا على شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وسبب هذا الإنكار عدم معرفتهم بما يقصده الشيعة بالبداء، فيحسبون أن معنى البداء هو المعنى المتعارف في رتبة المخلوق، وهو المعنى الذي نقلناه من قول السيد الطباطبائي، وله ذيل لا يمكن أن يفهمه إلاّ من كان له حظ من المعرفة بأصول الفلسفة الإسلامية، ولذلك اقتبسنا منه ما يتعلق بالمخلوق، أمّا ما يرتبط بالخالق فإن السيد قد قدّم بعض المقدمات الفلسفية لأجل فهمه.
فالبداء إذا تصورناه في رتبة المخلوق، فهو العدول عما أريد من أمر سابق إلى غيره، وهذا لا يكون إلاّ عن جهل، وذلك مما يستحيل على الله سبحانه.
والحقيقة أن أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم تبعاً لهم كغيرهم من المسلمين في الاعتقاد باستحالة البداء بهذا المعنى على الله عز وجل، وتكفير من يذهب إليه، والأحاديث في ذلك كثيرة، ولكنهم مع ذلك يقولون بالبداء، فكيف يمكن أن نفهم ذلك؟ إن أساس الخطأ لدى مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) في هذه المسألة هو: قياس فعل الخالق على المخلوق، فما يلزم منه الجهل أو الندامة من البداء إنما هو بداء الفاعل بمباشرة كالإنسان، لا الفاعل بما خَلـَقَ من الأسباب أو الفاعل بالقوانين الطبيعية المخلوقة كما هو بالنسبة إلى الله سبحانه.
إن الله تعالى خلق العالم محكوماً بقوانين تمثل في وجودها وآثارها إرادته ولما كان من جملة هذه القوانين ما هو مقتضي لوجود الأثر ومنها ما هو مانع عن تحقق الأثر، ولما كانت المقتضيات والموانع مترابطة ومتفاعلة، فإنه من الطبيعي أن يحدث من خلال ذلك المحو والإثبات دائماً، فإذا علمنا عن طريق الأخبار الصادقة لأهل البيت(عليهم السلام) مثلاً أن هنالك تقديراً سيقع فربما كان ذلك العلم مبنياً على معرفتنا بمقتضاياته أي أسبابه المؤثرة فقط، فإذا وقع ذلك التقدير طبقاً لما علمناه، فإن معنى ذلك عدم تأثير موانع هذا التقدير ـ والتي لم نعلمها ـ والتي قد أثرت وحالت دون وجوده فنقول بأن هذا بداء، وإنّما ننسبه إلى الله تعالى لأن جميع الأسباب وآثارها سواء كانت مقتضيات أو موانع هي من خلقه وتمثل إرادته، أي أن البداء هو نفس ما جاء في قوله تعالى (( يَمْحوا اللَّه مَا يَشَاء وَيثْبت وَعنْدَه أمّ الْكتَاب )) وقد سمى أهل البيت (عليهم السلام) الإخبار بما وجدت مقتضياته مع إمكان وجود موانعه بالعلم الموقوف القابل للمحو، أمّا ما كانت مقتضياته ثابته فهو المحتوم)).
قال السيد الخوئي في (البيان): ((إن القضاء الحتمي المعبّر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء، وكيف يتصور فيه البداء وإن الله سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء)).
روى الصدوق في (إكمال الدين) بإسناده عن أبي بصير وسماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شيء اليوم لم يعلمه أمس فابرؤوا منه). إلى أن يقول والبداء: إنما يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه وليس في هذا الإلتزام ما ينافي عظمته وجلاله.
فالقول بالبداء : هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه، وإن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً... والقول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهماته، وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية، فإن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة ـ دون استثناء ـ يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه، فإن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبداً، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرع، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه، حيث لا فائدة في ذلك، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين (عليهم السلام) أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد. وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) من الاهتمام بشأن البداء، فقد روى الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ( ما عبد الله عز وجل بشيء أفضل من البداء )... والسر في هذا الاهتمام أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه)).
اترك تعليق