إن الله تبارك وتعالى لما كان غنياً كريماً مطلقاً، والكريم الغني يحب دوماً أن يعطي ويتفضل على الغير، لأن ذلك من طبع صفاته الذاتية، فلما كان كذلك خلق خلقاً أحب أن يوصلهم إلى السعادة الأبدية والدولة السرمدية إلى الجنة، ولكن لما كان حكيماً والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها، أراد أن يخرج عمله وإدخاله إياهم إلى الجنة عن العبث ألقى عليهم التكاليف والأحكام، فالذي يمتثل أوامره وينتهي عن نواهيه يدخله الجنة، والذي يتمرد ويعصي يدخله النار، حتى يكون سبباً لاستحقاق النعيم أو الجحيم.
ولما كان الخلق متفاوتين في القوة والضعف والقرب والبعد من الحق تعالى، بحيث أن بعض خلقه لا يمكن لهم تلقي التكاليف منه تعالى مباشرة إلا عبر واسطة وقناة عن طريقها يمكن الإمتثال والطاعة أو المعصية. فوجب عليه تعالى من باب اللطف أن يختار من خلقه من له الأهلية والقدرة لهذا الأمر أمر الرسالة، قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} .
فانتخب واختار الأنبياء والأوصياء ليؤدوا إلى الناس أحكامهم ووظائفهم الدينية والدنيوية.
وأيضاً لما كان إيجاد الخلائق يحصل في أوقات متعددة متعاقبة اقتضت الحكمة أن لا تخلو الأرض من حجة، لذا وجد الحجة قبل المحجوج على وجه الأرض وهو نبي الله آدم على نبينا وآله وعليه السلام لئلا يكون على الناس حجة بعد الرسل والأنبياء. قال تعالى: { وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ }حتى انتهت النبوة إلى نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله فهو خاتم الأنبياء والمرسلين.
ولما كانت النبوة من مقتضيات العدل، وجب أن تكون على أكمل وجه لتحصل فائدة البعثة، وهو أنه لا بد وأن يظهر الله سبحانه على يد من بعثه الله نبياً أمراً معجزاً لا يقع من أبناء جنسه مثله، خارقاً للعادة، مطابقاً لدعواه، يكون من الله عز وجل تصديقاً لدعواه، وأن يكون صحيح النسب طاهر المولد مستقيم الخلقة مطهراً من جميع الأحوال التي تنفر القلوب منها، في خَلقه وخُلقه بحيث لا يطعن عليه أهل زمانه بشيء، وأن يكون صادق القول لم يعهد منه كذب ولا خيانة ولا طمع في شيء من حطام الدنيا، وأن يكون أعلم أهل زمانه وأتقاهم وأزهدهم وأعملهم، بما يأمر وأنهاهم عما ينهي، مطهراً من جميع الرذائل، والنقائص الظاهرة والباطنة، بحيث يعرفه أهل زمانه الذين أرسل إليهم أنه لا يكون فيهم له نظير في كل صفة كمال، وأن يكون معصوماً من جميع الذنوب الصغائر والكبائر قبل البعثة وبعدها، من أول عمره إلى آخره، ومن السهو والنسيان، ومن كل شيء يتعلل به الرعية من قبول أمره ونهيه، أو يحصل به الشك فيه أو التوقف في نبوته، لأن حجة الله بالغة، والنبوة حجة الله على عباده، ولو جاز أن يكون أحد من المكلفين يجد خدشاً في النبوة، لما قامت حجة الله عليه، وأن يكون مسدداً من الله موفقاً للصواب في الإعتقاد والعلم والقول والعمل لأن الله سبحانه يتولاه بألطافه وإلهامه الحق، ويوصي إليه بذلك على حسب مقامه عند الله، ويقدر له ملكاً يسدده، وكل ذلك إرادة منه تعالى، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، لأن النبي هو الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة من البشر، ولا يكون حجة الله حتى يثبت عند المكلف أن قوله قول الله، وأمره أمر الله، ونهيه نهي الله، والله قادر على فعل ما تقوم به الحجة على خلقه، وبذلك يتحقق لطفه بخلقه الذي يتوقف صلاحهم عليه في الدنيا والآخرة، فيجب عليه فعله في الحكمة، وهو تعالى لا يخل بواجب، لأن الإخلال به قبيح، وهو لا يفعل القبيح لأنه غني مطلق لا يحتاج إلى شيء.
في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله:إن نبي هذه الأمة، هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن نزار بن معد بن عدنان صلى الله عليه وآله الطاهرين، لأنه ادعى النبوة وأظهر المعجزة على يديه، وكل من ادعى النبوة وأظهر المعجز المطابق على يديه فهو نبي، وقد تواتر بين المسلمين وغيرهم من جميع أهل الدنيا، أنه قد ظهر رجل في مكة المشرفة اسمه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله، ادعى النبوة وأظهر الله المعجز على يديه المطابق لدعواه، المقرون بالتحدي، فيكون نبياً حقاً، وهذا التواتر موجب للقطع إلا لمن سبقت له شبهة.
إنه قد تقرر في محله بأن الخبر ينقسم إلى قسمين متواتر وآحاد، وذكروا شروطاً لكليهما، فمن شرائط صحة العلم بالتواتر عدم حصول شبهة أو تقليد عند السامع خلاف نص أو مضمون التواتر. وهذا أمر متواتر بين جميع أهل الأرض، لأنه صلى الله عليه وآله خاتم النبيين فلا يكون نبي بعده ولا معه، فيجب أن يكون نبياً مرسلاً إلى الناس كافة، لأنهم مكلفون ولا يصح تكليفهم بغير حجة، ولا تثبت لله حجة على خلقه إلا على النحو المذكور، فتثبت نبوته بالتواتر عند جميع المكلفين، وأما من سبقت له شبهة فكذلك، وإن كانت نفسه قد تعودت على الإنكار، لأن الله سبحانه يقول: { وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ }. وذلك مثال اليهود والنصارى المنكرين لخاتمية ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا النواصب المنكرين ولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين عليهم السلام بالخلافة. فعلماء اليهود والنصارى نصبوا شبهات لأتباعهم على عدم نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وعلى أثر ذلك قلد العوام من الناس علماءهم في ذلك وكذا بعض المسلمين المنكرين ولاية أمير المؤمنين - عليه السلام - نصبوا شبهات إلى أتباعهم ومقلديهم بأن المراد من الولي في قوله تعالى : {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}. وقوله صلى الله عليه وآله ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) كونه ابن عمه أو أنه يحبه أو غير ذلك من التدليسات الصارفة للمعنى الحقيقي الذي يقتضيه المقام من أن المراد من الولي هي الولاية الثابتة لله ولرسوله، فكما أنه تعالى ولي على جميع خلقه كذلك رسوله ووصيه أمير المؤمنين سلام الله عليهما، بأنهما أولى بالمؤمنين من أنفسهم فإذا حصل للسامع هذه الشبهة لا يكون الخبر المتواتر مفيداً للقطع بالنسبة إليه إلا أن يتخلى عما في ذهنه من شبهات وتخيلات المخالفة للواقع.
(( وأول من أعتبر هذا الشرط هو علم الهدى ( رحمه الله ) وتبعه على ذلك المحققون، وهو شرط متين، وبه يندفع احتجاج المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم على انتفاء معجزات الرسول صلى الله عليه وآله كانشقاق القمر وحنين الجذع وتسبيح الحصا، واحتجاج مخالفينا في المذهب على انتفاء النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - بالإمامة )). فشرط عدم وجود شبهة عند السامع في غاية الأهمية، وكيف لا يكون كذلك وبه تثبت الولاية لأمير المؤمنين - عليه السلام.
الكاتب / الأستاذ حسن هادي.
اترك تعليق