التوحيد توحيدان: الأول: أن توحيد الحق للحق هو توحيده سبحانه ذاته المقدسة بذاته المقدسة، وشهادته بالوحدانية لنفسه بنفسه، وشهادته سبحانه بها لنفسه عين ذاته وعين نفسه، وهو معنى قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. وهذا مخصوص به سبحانه، لا يدانيه فيه أحد سواه، ولا يشاركه أحد غيره، لأن ما سواه سبحانه في الإمكان وهو تعالى في أزل الأزال, (الطريق إليه مسدود والطلب مردود، دليله آياته ووجوده إثباته). فإذاً لا يبلغ أحد من الموجودات مطلقاً كنه ذاته المقدسة قطعاً، إمكانية كانت أو كونية، لأن ما عداه سبحانه ممتنع الذكر والوجود هناك (في الأزل). فلا يكون إذاً لأحد في هذا التوحيد نصيب، فإن الممكن لا يصل إلى القديم بحال من الأحوال، وهو لم يهبط إليه. والشيء لا يدرك ما وراء مبدأه، لأن الإدراك فرع الوجود، فإذا انقطع الوجود انقطع الإدراك، قال عليه السلام: (كان الله ولم يكن معه شيء، وهو الآن على ما كان). وقال بعض العارفين ونعم ما قال:
لو أقسم المرء بالرحمن خالقه ... بأن كل الورى لا شيء ما حنثا
فالتوحيد والموحِد (بالكسر) والموحَد (بالفتح) شيء واحد، لا تعدد ولا تكثر فيه بوجهٍ ولا مغايرة لا حقيقة ولا اعتبار، لا في الواقع ولا في نفس الأمر. ولا كيف لذلك؛ لأنه هو، وهو سبحانه لا كيف له، لأنه مكيِّف الكيف, ولا يجري عليه ما هو أجراه، ولا يعود إليه ما هو أبداه. والحاصل: أن الإدراك الأزلي الذاتي متعذر على من سواه من جميع الوجود، لأنه مما سدّه الغني المطلق عن كل مبرءو ومذروء.
والثاني: توحيد الخلق للخالق، فلما كانت المعرفة بحقيقة ذات الخالق تبارك وتعالى صعبة المنال وعين المحال خلق الله الخلق لأجل معرفته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليعرفون، وقال في الحديث القدسي: (كنت كنزاً مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف) .فتجلى بفعله من وراء حجب الأسماء والصفات وظهر بتجليه في مظاهر الجمال والجلال فظهر سبحانه بصفاته لخلقه فعرفوه وأدركوه بصفاته، فلما تجلى ظهر بكل تجل من تجلياته الفعلية إسم .وبكل ظهور إشراق فتجلى لكل نفس من الأنفاس بظهور خاص على حسب ما أثر فيهما اسمه سبحانه لأن الأسماء هي المربيات للأنفاس بقدر قابليتها واستعدادها ولذا كانت الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ففي كل مظهر ظهر بطور وفي كل قابلية تجلى بظهور.
لأجل ذلك تعددت مراتب التوحيد باختلاف مراتب الموحدين وكلها صفات تعرف الحق للخلق بالخلق، ولذلك قال بعض أهل المعرفة. توحيد الحق للحق بالحق حق وتوحيد الخلق للحق بالحق خلق فكل من كان في سلسلة الوجود إلى الحق أقرب كان توحيده أشرف وان كان القرب والبعد بالنسبة إليه سبحانه منتفيا لأنه تعالى استوى برحمانيته على عرشه فاعطى كل شيء حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه، فلا شيء أبعد إليه من شيء ولا شيء أقرب إليه من شيء لعدم تناهيه سبحانه، والقرب والبعد من صفة المتناهي، وهو تعالى وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى، لكن يتحقق القرب والبعد للخلق بالنسبة إليه لأجل التوجه إليه وعدم التوجه، وتنزلات وجود البعض من البعض في سلسلة الطول والعرض لكن لكل سلسلة من سلاسل الوجود يجب توحيده سبحانه بما ظهر بمظاهرها ولعرفه كمالاً لأن فعله سبحانه مجمع جميع الصفات الكمالية من الجمالية والجلالية.
فينبغي لكل سلسلة من سلاسل الوجود ان كلما تعرفه كمالا يتثبت له سبحانه بنحو أشرف وأبسط من الكمالات الظاهرية والباطنية، ولابد أن تعتقد بان الكمالات التي أدركتها وأثبتها له سبحانه هي في حقه نقص لكنه عفى بذلك التوحيد إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وهو تعالى منزه عنها حتى أن النملة تزعم أن لله زبانيتين لأنها عرفتهما كمالا وأثبتتهما له، وهذا في رتبتها توحيد حق صريح، لكن بالنسبة إلى الحق في حد ذاته شرك محض .
ثم ينبغي أن تعرف ان مراتب التوحيد أربعة:1_ توحيد الذات 2_توحيد الصفات3_ وتوحيد الأفعال4_ وتوحيد العبادة. فتوحيد الذات: ما اشار الله تعالى إليه، قال: (لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ). وتوحيد الصفات أشار إليه بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وتوحيد الافعال يدل عليه قوله سبحانه: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) فليس له شريك في فعله؛ فكلما ترى من افعال خلقه فهي افعاله بهم كما قال علي عليه السلام: (فألقى في هويتها مثاله فاظهر عنها افعاله) وقال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى). وأخيرا توحيد العبادة حيث وردت الإشارة إليه بقوله عز وجل: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
ملخص عقيدة الشيعة الاثني عشرية بالتوحيد: ان الله سبحانه واحد في ذاته يعني ليس له شريك في القدم ولا في الوجوب ولا في الوجود، وتوحيده الذاتي عين ذاته سبحانه. وهو تعالى واحد في صفاته بمعني انه لا شريك له في صفة من صفاته: في علمه و في قدرته و في حياته و في سمعه و في بصره و سائر صفاته الذاتية، وهذه الصفات هي عين ذاته بلا فرق بحال من الاحوال، فعلمه ذاته وقدرته ذاته وسمعه وبصره ذاته وحياته ذاته، بلا فرق لا في المعنى ولا في المفهوم ولا في المصداق، وهو احدي المعنى لا كثرة في ذاته ولا في صفاته يعلم بما يسمع به ويسمع بما يبصر به ويبصر بما يقدر عليه من غير اختلاف جهة وجهة وكيف وكيف وحيث وحيث.
المصدر / مركز الابحاث العقائدية.
اترك تعليق