قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]
جاءت هذه الآية الكريمة في آخر سورة آل عمران التي تضمّنت جملة كبيرة من التوجيهات والإرشادات و كذلك العظات الإلهية، لعباده المؤمنين، فبعد كل تلك الإرشادات والعظات يختم المولى بجملة من الأوامر المهمة في حياة وحركة كل مؤمن، آلى على نفسه السير في دروب الطاعة لمن له حقّ الطاعة الحَقَّة .
والحقيقة أنّ التدبّر في معاني مفردات هذه الآية الكريمة، وكذلك الترحال بين ما تضمّنته ألفاظها من مفاهيم ، ليدخل الفزع في قلب كلّ مؤمن عشق طريق الولاية، وليس من المبالغة في شيء، أن يقال بأنّ هذه الآية تختزل في مضمون ألفاظها، خلاصة المراحل التي يمرّ بها العبد، أثناء سيره في طريق الطاعة والعبودية لخالق الكون .
فالمولى تعالى يفتتح قوله بنداء تدلّل عليه أداة النداء الواقعة في مطلع الآية ، وذلك ليوقظ انتباه عباده المؤمنين به وبرسالته، لأهمية ما سيأتي بعد نداءه العظيم بعظمة ما يلي النداء من معاني وحقائق ، ثم بعد ذلك يُحدّد ويحصر المخاطبين الذين ستتوجه لهم أوامره، وستتعلّق بهم التكاليف الوجوبية التي تتضمنها الأوامر الإليهة المساقة في الآية، ولعل في حصر النداء بالمؤمنين إشارة لكون مثل هذه التكاليف، لا يمكن أن يطيقها إلا من استقرّ في قلبه الإيمان، ونمت في وجدانه براعمه .
وبعد مناداته تعالى لعبادة الذين آمنوا به وبرسالته، توجّه تعالى لهم بالقول اصبروا، أي عليكم يا من آمنتم بي وبمفردات رسالتي التي أنزلتها على نبيّكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن تتحلّوا بضبط النّفس والسيطرة على كل ردّات أفعالكم السلبية حينما تواجهون المصائب والبلاءات التي تحتويها حياتكم الدنيا، واالتي هي بلحاظ الواقع كثيرة.
وبمعنى آخر، أنّه عليكم أيّها المؤمنون، وعندما تلمّ بكم مظلمة أو مشكلة أو بلاء، يقتضي بطبعه ترتب الوجع والألم والتعب والأسى، عليكم في هذه اللّحظات التي تعايشون فيها الوجع والأسى المترتب على مواجهتكم لمشاكل الحياة، أن تتحملوا وجعكم وألمكم القابع في داخلكم، لأنّ ذلك هو الطريق لظبط النفس والسيطرة على ردّات أفعالكم السلبية ، وبالتالي تتمكّنوا من تحقيق الصبر الذي أمرتم أن تتحلوا به .
ثمّ لم يقف المولى تعالى عند الحث على التحلّي بالصبر، الذي يعني تحمل الوجع والألم لكبح جماح ردّات أفعال أنفسنا السلبية، حين حلول المصائب بسوح حياتنا، بل يتقدم المولى في خطابه خطوة إلى الأمام، وذلك لأنّه تعالى لا يخاطب عموم النّاس، بل لأنّه يخاطب فقط الذين استقرّ حقيقةً في داخلهم الإيمان ، فيأمر عباده المؤمنين بالإصطبار الذي هو مبالغة في التحلّي بالصبر .
وكأنّه تعالى يريد القول لعباده المؤمنين، نعم عليكم أن تتحمّلوا وجع بلاءات الدنيا التي تفرضها عليكم طبيعة حياتكم، لتتمكنوا بعد ذلك من ضبط ردّات أفعالكم القولية والسلوكية التي تترتب في معظمها نتيجة الإحساس بالوجع والأسى أو الألم والتعب، وذلك لتتمكنوا من معايشة حالة الصبر، ثمّ بعد كل هذا عليكم أن تصطبروا، بمعنى أن تثبتوا على صبركم، بل في الحقيقة على وجع صبركم، لأنّ لا وجع بعد الصبر إلاّ وجع الصبر نفسه ، والذي هو وفي وطأته على النفس أشدّ وأقسى من وطأة وجع البلاء نفسه .
وبعد الصبر والإصطبار، عليكم أيّها المؤمنون أن ترابطوا ، وهنا ومن خلال مفردة الرباط، يحدّد لنا المولى تعالى نوع البلاء الذي يجب عليا أن نصبر عليه وكذلك نصطبر، وهو البلاء الذي يقع على المؤمن نتيجة تمسّكه بالحق والحقيقة، لأنّه تعالى لا يمكن أن يحثنا أو يأمرنا بالثبات على ماهو خطأ أو باطل ، فالأمر بالرباط الذي هو في واقعه عين الثبات، يكشف لنا من خلال وحدة السياق أنّ الشيء الذي أمرنا أن نصبر ونصطبر ثمّ نرابط عليه هو القضايا المحقّة والعادلة .
فهو تعالى وبعد أن حثنا على الصبر ،ثمّ الثبات والصبر على ما يترتب على الصبر الأول، يترقى فيرشدنا إلى الرباط الذي هو الثبات على ما من أجله صبرنا واصطبرنا، وهذا في الحقيقة ترقي أكثر في التكليف، لأنّ العبد المؤمن قد يصبر على بلاءٍ ما، وقد أيضًا يتمكن من الثبات والصبر على ما يترتب على الصبر الأول من نتائج قد تكون وطأتها شديدة ومعذّبة للنّفس، ومحرقة أيضا للفؤاد، ولكن هذا العبد المؤمن بعد كل هذا قد لا يتمكن من الثبات على الأمر الذي لأجله صبر واصطبر ، ولأجل هذا، ترقى المولى تعالى في تكاليفه الإرشادية، فأمر بالرباط والثبات على الحق والحقيقة ، التي لأجلها وقع البلاء علينا، فتحملنا الأسى والتعب وصبرنا،ثم كذلك اصطبرنا .
وفي خطوة أخيرة ، يزداد المولى ترقيا بتكاليفه لعباده المؤمنين، ولعلّ هذا الترقي الذي قد يرى بعض العباد أنه ينطوي على شيء من الصعوبة والجُهد، هو لغاية السمو بالعبد المؤمن ليُبلِغَه في مرحلة متقدّمة لذلك الكمال الإيماني، الذي تستوي معه جميع ما تحتويه الدنيا من زخرف وزينة، وبالتالي تصير الدنيا بكلها لا تساوي عنده، مقدار جناح بعوضة.
ففي الخطوة الأخيرة، وبعد أن يُرشد المولى تعالى عبده المؤمن إلى الصبر والإصطبار وكذلك إلى ملازمة الثبات،يطلب منه أن يلتزم بتقوى الله أثناء حركته في مواجهة البلاء وما يترتب عليه من نتائج فعلية، قد تلمس حياته أوحياة أسرته وأحبّته وأقربائه وعشيرته .
وبمعنى آخر، وكأنّ المولى تعالى يريد القول لنا، يا عبادي المؤمنين، إذا ما حلّ بسوحكم أي نوع من البلاء، وفي حركتكم لمواجهة هذا البلاء، عليكم التحلّي بالصبر، الذي لا يمكنكم تحقيقه إلاّ من خلال تحمّل أسى وتعب البلاء ، لتتمكّنوا بعد ذلك من ضبط أنفسكم وردّات فعلها السلبية، ثمّ عليكم بالإصطبار الذي هو تحمّل وجع وألم وكل النتائج التي تترتب على صبركم الأول، وفي خطوة ثالثة عليكم أن ترابطوا وتثبتوا على الحق الذي لأجله صبرتم وجاهدتهم في الإصطبار عليه، وبعد كلّ هذا وفي خضم كل هذه المجاهدات والتقلبات النفسية والمعنوية الصعبة والشديدة ، نتيجة ما تعيشونه من مواجهات وصراعات جهادية مع النفس والشيطان من جهة، وظروف حياتكم ومن حولكم من بني جنسكم من جهة أخرى، لابد لكم من الالتزام بتقوى الله، التي لا تعني فقط الإلتزام بعدم تجاوز حدود الله، بل تعني أن تجعل بينك وبين حدود الله مسافة أمان ، بحيث تكون هذه المسافة واقٍ لك من الإقتراب من حدود الله .
وتقريبا لذلك بمثال: عليك أيّها العبد المؤمن، أو الأمة المؤمنة، وفي خضم صراعكم مع بلاء فقد الأحبة في سوح الجهاد ومقارعة المستكبر وما يترتب على ذلك من نتائج هي في غالبها صعبة وقاسية ، عليكم بالصبر على هذا الفقد وما يترتب عليه من نتائج ، وأيضًا عليكم بالإصطبار والثبات على صبركم وعلى ما سيترتب على صبركم الأول من وجع وآلام ونتائج قد تكون ضيق العيش، وقلّة الناصر والمعين، وأيضا عليكم أن ترابطوا في الثبات على موقف الجهاد ومواجهة الظالم ، وفوق كل ذلك وفي خضم مصارعة هذه الظروف، ومواجهة كل هذه المصاعب، عليكم أن لا تأتوا بأي فعل، أو تنطقوا بكلمة تتنافى مع تقوى الله، التي تفرض عليكم ليس فقط أن لا تقعوا في تجاوز حدود الله، بل تفرض عليكم أن لا تأتوا بأي فعل أو قول يساعد على الإقتراب من حدود الله التي نهيتم عن تجاوزها .
وفي آخر الآية، وبعد نداء المولى تعالى ليحرّك انتباه العباد المؤمنين، وبالتالي يوقظ ضمائرهم التي قد تغفل وتخمد، نتيجة انسياق صاحبها في معترك الحياة الدنيا، يكلف المولى تعالى عباده المؤمنين بالصبر والإصطبار والرباط والإلتزام بالتقوى، ثم ينبأهم بحقيقة قد تكون فيها مرارة للبعض .
وهي حقيقة أنّكم، حتى لو امتثلتم لكل هذه الأوامر الإرشادية، فالفلاح قد تبلغوه وقد لا تبلغوه ، بمعنى آخر أنّ إمتثال هذه الإرشادات لوحده لا يكفيكم لبلوغ الفلاح، فلا تتوهموا أنّ الفلاح هو نتيجة تحصلون عليها من خلال بذل الجهد في أن تكونوا من الصابرين في مواجهة البلاء، وكذلك الإصطبار والرباط والتزام التقوى.
ولعل قوله تعالى ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فيه إشارة ودلالة واضحة على أن الفلاح لا يتحقق بمجرد تحقيق العمل المطلوب من العبد ، بل هو يحتاج إلى عنصر آخر وهو معايشة الترقب، الذي يتولد من تمازج حالة الخوف والرجاء من الله ولله .
لأنّ معايشة الترقّب، هو من أهم العناصر المساعدة للعبد المؤمن على معايشة التسليم لله، وبالتالي يتقدّم خطوة نحو معايشة التوكل في أكمل مصاديقه.
وبناءًا على ما تقدّم، وعندما نعود مع التاريخ الإسلامي للخلف، للبحث عن حادثة أو عَبدٍ مؤمنٍ استطاع أن يترجم كل مفرادات الآية في موقف واحد ، بحيث أضحى مصداقًا حقيقيًا، لعبارة ﴿ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا ﴾ .
لا نجد إلاّ فاجعة كربلاء المؤلمة، ولا نجد إلاّ أب عبد الله الحسين (عليه السلام)، حيث استطاع أن يقف نحو تأدية ما كُلّف به من قِبَل خالقه، وصبر على ذلك أشد الصبر، ثمّ اصطبر على صبره وعلى ما ترتّب على صبره من أذية وأسى ، ثم أيضًا رابط وثبت رغم الحجم الكبير من المصائب التي حلت وستحلّ به إذا ما استمرّ على ثباته ورباطه لمقارعة الطغاة الظالمين، وفوق كل تلك الفجائع العظيمة فقد تمسّك بالتقوى كضابطة ومقياس لكل حركاته السلوكية والقولية مع أحبّته وأعدائه، وفي الأخير وبعد كل ما واجهه، وكل ما حلّ على قلبه وفؤاده الطاهر من ألام وأوجاع ومآسي وعذابات، وجدناه يعيش الترقب في أعلى درجاته، فقال مقولته الشهيرة، عندما نحر إبنه الرضيع وهو في أحضانه، والتي تعكس أرقى وأعلى درجة للترقب يمكن أن يتصورها عقل مؤمنٍ أو عاقل .
فقال وهو حاملا ابنه المنحور بيديه إلى السماء: أرضيت يارب، أرضيت ، خذ خذ حتى ترضى ، فالتوجّه لله عزّ وجل في مثل هذا الموقف، وبعد كل تلك المآسي التي مرت به (عليه السلام)، بخطاب كهذا الخطاب، فيه دلالة واضحة، على أن مايريد قوله الإمام (عليه السلام)، لخالقه هو؛ ها أنا يارب أقدّم لك هذا الرضيع الذي لم يبق بعده شيء أقدمه لك قربانا لنيل رضاك إلاّ نفسي ، ها أنا يارب رغم أنّي أقّدّم لك آخر الأحبة، مازلت مترقبًا ما يقضيه حكمك ويقدره علمك ، في خصوص ما يجب أن أقدمه لكي أظفر برضاك عني .
فهل هناك صورة للترقب أعظم، من أن يقدم العبد كل ما يحب لله، وبعد ذلك يتوجه له ويخاطبه بعبارة « خُذْ خُذْ حتى ترضى » .
وعليه، فعل كل من وفق في هذه السنّة أو السنوات القادمة للمسير مشيًا على الأقدام، نحو كعبة الأحرار، حيث يرقد سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، أن يستحضر أثناء مسيره حقيقة مايمثّله هذا الإمام العظيم، الذي شدّة له الرحال من جميع أسقاع الأرض .
الكاتب: حبيب المقدم التونسي
اترك تعليق