حرصت الشريعة الاسلامية الغراء على ارساء القيم والاخلاقيات في النفس البشرية؛ لتسمو وتحيا حياة كريمة, دل على ذلك الحديث النبوي المشهور: «بُعثتُ لأتمم مكارم الاَخلاق» , فالدين الاسلامي يحثُّ على الاَخلاق الحسنة ويقوم بتهذيب الطباع ويجعل ذلك تكليفاً في عنق الفرد المسلم فيُثاب على حسن خلقه ويُعاقَب على سوئه ، وجعل الاَخلاق نصف الدين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الخُلق الحسن نصف الدين، وقيل له: ما أفضل ما أعطى المرىء المسلم ؟ قال: الخُلق الحسن». فالدين اعتقاد وسلوك, والاَخلاق تمثل الجانب السلوكي للفرد.
فنجد في جانبٍ من جوانب تلك الاخلاقيات حثٌّ على التعارف والاتصال وإحياء الروابط الإنسانية من أجل زرع المحبة وتنميتها في النفوس التي تؤدي بدورها الى تقوية التعاون في إطار العلاقات الطيبة البناءة والتي من شأنها ان تخلق مجتمعات فاضلة متماسكة ومتمسكة بدينها وقيمها، تخلو من المنازعة والمشاجرة .
ولما كان الانسان مدنيا بالطبع فانه أحوج ما يكون الى معرفة سبل التعامل مع بني جنسه ليصل الى تحقيق اهدافه وغاياته , وعبارة كون الانسان مدنيا بالطبع هي كناية عن الاجتماع البشريّ، ومعنى هذا أنّ المنفرد من بني البشر لا يمكنه ان يحيا ويتمّ وجودُه إلّا مع أبناء جنسه، للعجز الذي يعتريه فيحول ذلك دون استكمال وجوده وحياته، فهو بأمس الحاجة إلى معونة الآخرين في جميع احتياجاته أبداً بطبعه، وهذه المعونة المجتمعية قد تذلل الصعاب أمام الفرد في تحقيق غاياته واهدافه, والتي لولاها لما استطاع ان يحرك ساكنا, ولإحراز واستحصال هذه المعونة لا بدّ للفرد من اتقان مهارة التفاوض والتعامل مع الآخرين بأسلوب يؤدي الى نتيجة جامعة بين قوة الترابط الاجتماعي وتحقيق الاهداف والغايات، فمن خلال قوة الترابط الاجتماعي يكون الفرد قادرا على التعامل مع الآخرين كاعتماد مبدأ الصفح في التعامل مع الناس فهو بحدِّ ذاته تأصيل للرحمة بين الناس، وإيجاد أسس قوية للتواصل بينهم, ومن أبرز سماتها: المودة، والتقارب، والألفة.
وربّما يفضي هذا التفاوض بالفرد إلى المنازعةِ والمشاجرةِ، فتنشأ المُنافَرة والمقاطعة، بدلا من استحصال المودة والالفة؛ وذلك لانعدام أو ضعف الترابط الاجتماعي بينه وبين الافراد الذين يتواجد بين ظهرانيهم, وهذا يؤدي الى انقطاع السبل بين الطرفين وحينها لا يمكن بأي شكل من الاشكال التعامل مع الآخرين, كأن يصدر من الفرد بحق الآخرين أسلوب الانتقام للذات الناشئ عن عدم الصفح والتسامح ، فهذه الآفة تقتل التواصل والتراحم وتؤصل للقطيعة الدائمة بين الفرد والمجتمع، والكراهية، والبغض، والحقد على الآخر.
وهنا تأتي أهمية الكلمات الثلاثة الواردة في القرآن الكريم في قوله سبحانه: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }؛ لتؤصل اسلوبا رصينا في التعامل مع الآخرين, وقد ذكر علماء الأخلاق والتفسير والفقه أنّ هذه الآية تعدّ من أمهات الآيات التي جمعت أُصول علم الأخلاق.
أولاً: قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ }, بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين , والأخذ بالشيء هو لزومه أو عدم تركه, فأخذ العفو هو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه ، والإغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض, وهذه المفردة فيها بيان أنّ أخلاق الناس وطبائعهم ليست واحدة ، بل هم متفاوتون في ذلك؛ لذا لا ينبغي على صاحب الخلق الحسن ان يأمل من كل من يلقاه أن يكون مثالياً في أخلاقه وفي تعامله ، لأن من النَّاس من هو سريع الغضب ، ومنهم من هو سريع الانفعال ، ومنهم من هو هادئ سمح, وإلى آخره ، فعليه ان يهيئ نفسه لملاقاة هذه الأنواع والأصناف المتباينة من الأخلاق ويأخذ ما سمحت به نفوس الناس منها.
وهنا قد تسأل وتقول: ما الفائدة التي تعود على من عفى واصفح ؟
قلت : ان أثر العفو والصفح عمن أساء ينعكس على سلوكه بشكل ايجابي, واليك آثار ذلك :
- انّ المسيء سيستشعر خطأه وإساءته ، فالعفو هو إعلان بإنهاء التنافر والتشاجر من قبل صاحب الحق ، فتتاح للمسيء فرصة معرفة أخطائه ، ويدرك مدى الاساءة التي وجهها الى من عفى عنه .
- انّ المسيء سيرى كيف أنه قوبل بالعفو بعد توجيه الاساءة الى من عفى عنه, وكيف انّ الأخير أغمض عن حق الانتقام لذاته، فحينها يثوب المسيء إلى رشده ويعود الى صوابه ، وسيشعر على الدوام بتأنيب الضمير والخجل من نفسه عندما يتذكر موقف إساءته أو يلتقي بمن أساء إليه.
- انّ المسيء عندما يُصفح عنه ستنطفئ من داخله كراهية المساء اليه ، وتذوب نزعته العدوانية .
- انّ المسيء بعد أنْ يُقابَل بالعفو والصفح عن إساءته فانه لا يملك إلا أن يكون كولي حميم مع من عفى عنه .
ثانياً: قوله تعالى: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ }, أي : ما تعرفه الفطرة البشرية ، أي : ما يعرفه العقل من الحسن والقبح ،; لأنّ الدين الإسلامي دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}, وبعبارة أخرى: تلقّى أخلاق الناس باللِّين ، واللطف ، والمسامحة ، وغض الطرف ، وحُسن التعامل, وكن ناصحاً موجهاً بالرفق واللين ، حريص على دلالة الناس وهدايتهم إلى كل فضيلة والى كل خير .
ثالثا: قوله سبحانه{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }, وهذا مطلب عظيم في باب الاخلاق, وهو أيضاً نوع من أنواع اللّين والرفق ، وفرق ما بين الإعراض عن الجاهل وبين العفو عنه ، لأنّك قد تعفو عن إنسان مّا ، ولكن يبقى في نفسك شيء تتذكّر به ذلك الفعل السيّء الذي فعله ذلك الجاهل ، والمقصود من الجاهل هو ذلك الشخص الذي يتعدّى الحدود ويظلم ، والجهل هنا مقابل العقل الذي يعني : التقيّد بالتعاليم الدينية ، وليس الجهل هنا في مقابل العلم ، لأنّ العلم قد يدعوك إلى التعقّل ، وقد يسيء الإنسان الاستفادة من العلم .
فالإعراض عن الجاهل بمعنى عدم الالتفات الى عباراته الجاهلة ، وألفاظه النّابية ، وكلماته السيئة ، ومعاملته الفظّة الغليظة ، وترويض النفس على ذلك ، أما إذا وقف الإنسان مع جهالة الجهَّال ورُعوناتهم وسوء تصرّفاتهم فإنه سيجد صعوبة في حياته ومعاناة شديدة ، فضلا عن تحوله إلى جاهل مثلهم يجهل عليهم بمثل جهلهم عليه.
إذن عندنا ثلاثة ركائز في باب التعامل مع الآخرين أرشد إليها القران الكريم:
الأوّل : هو العفو والصفح ، وهو أن تسامح من اعتدى عليك.
والثاني : الأمر بالعرف وهو ان تلقى أخلاق الناس باللِّين واللطف والمسامحة مع الحرص على دلالتهم وهدايتهم إلى كل فضيلة والى كل خير.
والثالث : الإعراض وهو أفضل من الاول والثاني، إذ هو نسيانك وغض الطرف عما صدر من المسيء وانك قد عفوت عنه .
وأختم كلامي بهذا القول النفيس للإمام الصادق(عليه السلام) إذ يقول فيما روي عنه : "أما علمت أنّ إمارة بني أُمية كانت بالسيف والعسف والجور ، وأنّ إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقيّة وحسن الخلطة والورع والاجتهاد...", والمنصف تكفيه الإشارة وغيره لا ينتفع ولو بألف عبارة.
الكاتب: السيد مهدي الجابري
اترك تعليق