شموليّةُ الإسلامِ للعالَمِ ...

الحديث عن دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) متعدد الجوانب ، واسع الأبعاد ، بعيد الأغوار ، ورغم  سعة مجالات القول وجوانب البحث فيها  ؛ فإننا نحاول بهذه النظرة  الفاحصة أن نتحدث عن ناحية خاصة لدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي دعوة عالمية لا إقليمية ، وهي من أبرز الخطوط التي يستهدفها القرآن بشأن دعوته ورسالته.

نحن في رحاب القرآن الكريم ، نسمع نداءه العالمي ، وإن فصلتنا عنه حقب بعيدة من الزمان ، ونعي صراحته ومجاهرته بأنّ الإسلام عقيدة لا ينفرد بها شعب أو مجتمع بعينه ، ولا يختص ببلد ؛ بل هو دين ذو قوانين تسري على الأفراد على اختلافهم  في العنصر ، والوطن ، واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً  بين بني الإنسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية ، أو إقليمية.

فهذا تاريخ دعوته وسيرته في نشر دينه ، نتطلّع إليه بشوق ولهفة حيث يبدد الدياجير من أمام أبصارنا وبصيرتنا ، ويقرّب لنا الواقع دونما تكلّف أو اصطناع.

كانت دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدء أمرها تدور بين أهله وعشيرته ممتثلاً لما أمره الله سبحانه بذلك بقوله : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } ( الشعراء ـ 214 ) ، والسر في ذلك أنّ النفوذ في الآل والعشيرة ألزم وأسهل من الأجانب والأباعد.

مضى رسول الله في دعوته السرية ثلاث سنين ، وهو ينذر طيلة تلك المدة قومه وعشيرته ، ويستنتج أنّ دعوته وشريعته عالمية ، سوف تعم العالم كله ، ولا تحبس بإطار خاص.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطاب ألقاه في داره ، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ومن كانت له به صلة :

« والله الذي لا إله إلاّ هو ، أنّي رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة (1) والله لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، وأنّها الجنّة أبداً ، والنار أبداً » (2).

ثم إنّه كان ينتهز الفرص التي تسنح له للإجهار بدعوته إلى أن أمره تعالى بأن يصدع بما أمر به ، وأن ينادي الناس عامّة باتباع دينه وشريعته امتثالاً لما أمره سبحانه به ، بقوله :

{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ } ( الحجر ـ 94 ).

فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصفا وهو يهتف ويقول : واصباحاه ! فاجتمع الناس حوله ، فقال : إن أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ، فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً ، إنّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ، إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو ، فانطلق يريد أهله فخشى أن يسبقوه إلى أهله ، فجعل يقول : يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم (3).

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطو خطوات قصيرة ، يجابه ضوضاء الإلحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس ، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه ، غير أنّ الجو المفعم بالإحن والضغائن عرقل خطا دعوته ، وتفاقمت جرائم قريش نحوه ، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه ، بإنهاء حياته وإطفاء نوره ، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة ، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً ، ويسلّموا له سيفاً صارماً ، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد ، حتى يموت ، فيستريحوا منه ، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً ، ولا يقدر بنو هاشم على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم ، وصدّهم عن ذلك ، وخيّب حيلتهم ، وأخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المكيدة الداهمة ، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها ، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج ، وبايعوه ، ووعدوه بالنصر ، والمؤازرة والحراسة.

والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن غادر مكة ، وترك قومه ، إلاّ إنّ قومه لم يتركوه ، بل أجّجوا نار الشحناء عليه ، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية ، وحملات طاحنة ، وبذلت قريش آخر ما في وسعها ، ورمت كل ما في كنانتها ، وبالغت في تقويض الإسلام ، وهدم بنائه ، إلى أن دخل العام السادس من الهجرة ، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية انقلب إلى فتح مبين للإسلام ، فانتهز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الفرصة؛ لنشر دعوته في البلاد البعيدة ، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم ، وكسرى فارس ، وعظيم القبط ، وملك الحبشة ، والحارث بن أبي شمر الغساني (ملك تخوم الشام) ، وهوذة بن علي الحنفي (ملك اليمامة) ، بل إلى رؤساء العرب ، وشيوخ القبائل ، والأساقفة ، والمرازبة ، والعمال ، يدعوهم إلى دين الإسلام الذي هو دين السلام.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته عالمية لا تحدد بحد ؛ بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين ، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

1- كتب إلى كسرى ملك فارس : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس : سلام على من اتبع الهدى ... أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيّاً ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس » (4).

2- وكتب (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قيصر ملك الروم : « بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين » (5).

وما ذكرناه نماذج من رسائله ، وكتاباته الابلاغية ، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم ، وإلى الناس كلهم ، من غير فرق بين اللون والجنس ، والعنصر والوطن ، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة ، ووجود الإنسان ، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يكافح كل مبدأ يضاد دينه ، وكل رساله تغاير رسالته ، وقد جرى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه طيلة حياته الرسالية ، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد : « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من أرسلت إليهم ضرباً من الخرق ، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام »

فقد قال الله تعالى في سورة ص 87 ـ 88 : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ }.

وفي سورة يس 69 ـ 70 : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }.

وفي سورة الفرقان 1 : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }.

وقال سبحانه : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } سورة سبأ : 28.

وقال سبحانه : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }. سورة الأعراف 158.

وقال سبحانه : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ }. سورة آل عمران : 85.

وقال سبحانه : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }. [النساء : 125].

وقال سبحانه : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ }. [التوبة : 29 ـ 33 ] (6).

-تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط ؛ إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم ، فنبهتهم من رقدتهم ، وأنهضتهم من كبوتهم ، فأصبحوا متفكّرين من ملبٍّ لدعوته ، وخاضع لرسالته ، ومؤمن بما أتاه ، إلى معظّم لرسله ، ومجيز لهم ، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة ، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات ، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ : أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر ، وقال لأبي سفيان : إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي ، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس : يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس : إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي ؛ فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده ساحراً ضالاّ ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً أظهر فيه إسلامه ، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه ، فأبى فأمر بقتله ، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني  سلم لربّي أعظمي وبناني

 وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير ، وأساقفة نجران ، ولبّاه عمّال كسرى باليمن ، واقيال حضرموت ، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام ، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة ، كتابه المعروف ، وأظهر إسلامه إلى الحد الذي صلّى عليه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بلغه موته (7).

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لف لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان ، فأبى أن يكون تابعاً للعرب ، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى ، فمزّق كتاب الرسول ، وأرسل إلى باذان ، عامله باليمن ، وكتب إليه : « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به » (8).

هذه صورة إجمالية من بدء دعوته إلى ختامها ، أتينا بها بصورة مصغّرة ؛ ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص ، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة ، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الإقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في إطار رسالته العالمية الواسعة النطاق ، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصرّح بذلك في بدء دعوته ، وأثنائها ... ومختتم أمره.

-النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص ، أو أمّة معيّنة ، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الإطلاق ، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

الأوّل : إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية ، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً ، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين ، وأنّه بشير ونذير للناس كافة ، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه ، من غير فرق بين شخص وشخص ، أو عنصر وآخر ، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

1- { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } ( الأعراف ـ 158 ).

2- { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ( سبأ ـ 28 ).

3- { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا } ( النساء / 79 ).

4- { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء ـ 107 ).

5- { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } ( الفرقان ـ 1 ).

6- { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ... } ( الأنعام ـ 19 ).

ـأي كل من بلغه القرآن ، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض .

7- { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ 9 ).

8- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ... } ( النساء ـ 170 ).

9- { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } ( إبراهيم ـ 1 ).

10- { هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } ( آل عمران ـ 138 ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها  صريحة في أنّ هتاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يختص بأمّة دون أمّة ، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني : إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء ، وهذا دليل واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة ، ودونك نماذج من هذا القسم.

1- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة ـ 21 ).

2- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ( البقرة ـ 168 ) إلى غير ذلك ...

فترى أنّه يخاطب الناس ، ويقول : يا أيّها الناس ... تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم ، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً إقليمياً ، ورسالته طائفية ، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الإشكال ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة (9).

الثالث : إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه  من غير تقييد بلون ، أو عنصر ، أو شعب أرض خاصة ، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها ، وأنّ الرسالة التي ألقيت على عاتقه لا تحدد بحد ، ودونك نماذج من هذا القسم :

1- { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ( آل عمران ـ 97 ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه ، عرباً كانوا ، أم غير عرب ، فلم يقل : لله على الأمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

2- { وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ( الحج ـ 25 ).

3- { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ( لقمان ـ 6 ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة (10).

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع : يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص ؛ بل تعم كل من تظلّه السماء ، وتقلّه الأرض، ودونك بعضها :

1- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } ( النساء : 174 ).

2- { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ... } ( البقرة ـ 185 ).

3- { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ( الزمر : 27 ).

4- { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ( إبراهيم ـ 1 ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم  لا للعرب خاصة ، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة بأمّة دون أمّة ؟! ونجد سبحانه يقول : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ } ( الجمعة : 3 ) وما المراد من : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟ (11) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث ، وتهدف إلى أمر واحد : وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية ، غير محدودة بحد ، فلا يحدها قطر ، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد ، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ (12).

-البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام ، وبفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان ، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق في مختلف الأبواب والفصول لا تستهدف سوى تبنّي الواقع ، ولا تأخذ غيره دعامة ، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلاّ لنفس الأمر.

وإن شئت فقل : إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده إلاّ على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده في عامة أقطار الأرض جميعاً ، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو بشعب دون شعب. (13)

ولا يجد الباحث ـ مهما أوتي من مقدرة علمية كبيرة في ما جاء به نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)على سعة نطاقه  وبحثه في شتى الجهات ، ومختلف النقاط أي طابع إقليمي ، أو صبغة طائفية ، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة ، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية ، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد أخرى ، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليمياً خاصاً ، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وإمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية ، أو ظروف محلية ، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها ؛ لأصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وصار النافع منها ضاراً ، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الإمارات.

هلم معي نتحاسب على بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل ؛ فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع :

فقبل كل شيء  لاحظ كتاب الله العزيز ، ومعجزة الإسلام الخالدة ، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف ضاعت فيه كرامة الإنسان وحريته ، وساد العداء والتنازع بين الناس ، وكان نظام الغاب وحده مفزعاً للناس وملجأ لهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم ، ويعيد للإنسان كرامته ومكانته وحريته ، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية  سواء في ذلك إنسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه فهل نرى آية من آياته الباهرة ، أو قانوناً من قوانينه ، أو حكمة من حكمه ومعارفه ، أو سنة من سننه ، أو فريضة من فرائضه تنفع في مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة ، وتسف بجماعة أخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة ، أو فريته الشانئة : « الإسلام دين طائفي ، أو مبدأ إصلاح إقليمي ، لا يصلح لعامة المجتمعات ، ولا يصلح لعامة القارات ، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها »؟!

ليت شعري ماذا يريد منها ؟

أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته ، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية ، والكنوز العلمية ، التي لم تحم حولها فكرة إنسان قبله ، ولم توجد في زبر الأوّلين مثلها ، أو شبهها.

فلو أراد ذلك ، فتلك فرية بيّنة إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك ، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية ، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه ،وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك ، ومصائد الضلال ، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم ، أو حيوان لا يدفع عن نفسه ، أو إنسان محتاج مثله ، أو غيرها من الأرباب الكاذبة ، فأعاد للإنسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك إنسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد ، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟

فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره ، وبعبارة أخرى: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب ، فلا وجه لأن يختص بأمّة دون أمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق أخرى ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها قوانين إقليمية لا تصلح إلاّ لظروف خاصة ، ولا تفيد إلاّ في شبه الجزيرة العربية ، ولا يسعد بها إلاّ إنسانها ، دون أناس المناطق الأخرى ، إلاّ إنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو إمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج ، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض ، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا ، والإصلاح بين الناس ، وأداء الأمانة ، وحسن السلوك معهم ، والتعاون والاحسان ، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله ، أو تأسّست بعده ، فأمر بالصدق وأداء الأمانة ، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس ، والعفو والغفران والقرى والضيافة ، والتواضع ، والشكر والتوكل ، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به ، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال ، والبهتان والغضب ، والإثرة ، والحسد ، والغش والبغي والخمر والميسر ، والجبن والغيبة والكذب ، والاستكبار والرياء ، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و ... 

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة ، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب ، ودفع مفاسدها ، وقصرها على ما فيه من الخير للبشر ، وإيثار السلم على الحرب ، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات ، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة ، وأحلّ البيع وحرّم الربا ، ونهى عن الغش والتطفيف ، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة ، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة إقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها تجدها دواء المجتمع الإنساني في الأقطار كلها :

1- { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( النحل ـ 90 ). أليست هذه القوانين عماد الإصلاح ، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

2- هلاّ كان منه قوله سبحانه { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء ـ 58 ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الأميين يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم ، وقال : { وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ( آل عمران ـ 75 ).

وليس هذا إلاّ لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً ، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير ، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون أخرى ، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر ، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

3- أو ليس منه قوله سبحانه : { وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ } ( آل عمران ـ 104 ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه ، فليس معنى هذا أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع محصور في هذا النطاق إذ إنّ في كثير من الآيات التي لم نأتِ بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية ، والشخصية والاجتماعية من صدق ، وعدل ، وبر ، وأمانة ، وصلة رحم ، ولين جانب ، ووفاء عهد ، ووعد ، ورحمة للضعيف ، ومساعدة للمحتاج ، ونصرة للمظلوم ، وصبر ، ودعوة إلى الخير ، وتواصٍ بالحق ، وعدم اللجاج فيه ، والإنفاق لله ، والدعوة إلى الله بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والتعاون على البر والتقوى ، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من كذب ، وظلم ، وبغي ، وإثم ، وقتل نفس ، وارتكاب فاحشة ، وانتهاك عرض وإفك وزور ، وعربدة سكر ، وإسراف وتبذير ، وخيانة ونكث غدر ، وخديعة ، وقطع رحم ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وجبن ، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب ، وفظاظة خلق ، ورياء ومكابرة وانتقام باغ ، وتناقض بين القول والعمل وغرور ، وصد عن الحق ، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم » (14) ، « والمعجم المفهرس » (15) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الأمّة الإسلامية بل الإنسانية جمعاء (16) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة ، وفي حقب من الزمان والمكان ، فلو كانت مختصة بإقليم خاص؛ لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الأخر ، لا إلى الرقي والحضارة (17).

من كتاب : مفاهيم القرآن ، ج3 ، ص 39 – 54  / للمؤلف : آية الله جعفر السبحاني . 

بتصرّف.

_________________________

(1) أليس هذا تصريحاً بعمومية رسالته في بدء دعوته. (2) الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 41. (3) السيرة الحلبية ، ج 1 ، ص 321 المقصود : هوجمتم من قبل العدو. (4) تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 295 ، تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 61 وغيرهما. (5) السيرة الحلبية ، ج 2 ، ص 275 ، مسند أحمد ، ج 1 ، ص 263 وغيرهما. (6) الدعوة إلى الإسلام ، ص 34. (7) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كتاب « مكاتيب الرسول ». (8) الكامل ، ج 2 ، ص 81 ، السيرة الحلبية ، ج 3 ، ص 278 ، إلى غير ذلك. (9) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص 113. (10) راجع المكاسب ، ص 38 ، للشيخ الأعظم الأنصاري. (11) مجمع البيان ، ج 5 ، ص 284. (12) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب؛ فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته ، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والأصول ، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه ، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وإنذاره لا يختص بشعب خاص. (13) سنرجع إليه في ختام البحث ، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته. (14) تأليف المسيو جول لابوم ، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية ، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها ، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة ، حسب ما فهم منها ، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها ،فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها ، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول ، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده. (15) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري. (16) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه. (17) نعم كل أمّة ركنت إلى الدعة والراحة ، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة ، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها ، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الأمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة ، تأكلها حثالات الأرض.