يرغب هذا المقال في إثارة تساؤلات لدى أهل الرأي والاختصاص في علم الطب الحديث على الخصوص عن الحكمة الطبية في دعوة القرآن للمسلمين لصيام تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما متواصلة كل سنة. إن الآيات القرآنية "183 ـ 184 ـ 185" من سورة البقرة تعرض على المسلمين ركن الصيام بروح تخلو تماماً من التهديد والوعيد والانفعال واللاواقعية والأسطورية. إن في الآيات أسلوباً متعقلاً وذا حوافز متعددة. ويمكن الحديث هنا عن ستة حوافز استعملتها الآيات الثلاث لإقناع المسلمين بإيجابيات صوم شهر كامل وبطريقة متواصلة: 1) تذكر (الآية 183) "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" بكل وضوح أن ديانات إلهية سابقة قد فرضت الصوم على أقوام أخرى. ففرض القرآن صيام شهر رمضان على المسلمين هو إذن امتداد لما دعت إليه الديانات السماوية التي جاءت قبل الإسلام. 2)"أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون". فجاءت بأسلوب تعبيري يجعل القيام بفريضة الصيام أكثر جاذبية للمسلمين. ـ إن التأمل في هذه الآية يلفت النظر إلى أمرين: أ ) ـ إن الآية لاتستعمل كلمة الشهر "29 ـ 30 يوما" في الحديث عن شهر رمضان ولكن تستعمل بدلاً عن ذلك عبارة "أياما معدودات" لتتحدث عن كامل الشهر. فواضح أن هناك لفتة أسلوبية في السياق القرآني، فالإشارة إلى رمضان على أنه مجرد "أيام معدودات" يجعله يبدو أقصر بالنسبة للمسلمين الصائمين. ب) ـ إن الأمر بصوم رمضان بعيد كل البعد عن أن يكون أمراً ضيق الرؤية ومتشنج الموقف، بل بالعكس. إن المسلمين دعوا إلى صيام رمضان لأن في ذلك خيرا كثيراً لهم. ومن ثم فهم غير مطالبين بأداء فريضة الصوم في وقتها إذا كانت حالتهم الصحية لا تسمح لهم بالقيام بفريضة الصوم، فالمرضى والمسافرون سفراً طويلاً وكبارالسن والنساء الحوامل... يجب عليهم عدم الصوم. 3) إن هذه الاستثناءات وشبيهاتها والتي يظهر القرآن الكريم تفهماً لها، لاتغير في شيء موقف القرآن من حكمة القيام بالصيام "وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" (البقرة/184( وبعبارة أخرى، هناك إيجابيات عديدة في أداء فريضة الصوم والتي يمكن ألا تدرك بسهولة من طرف الجاهلين بحقيقة الصيام، أو هؤلاء الذين لايبذلون الجهد لإدراك المعنى العميق لصيام شهر رمضان. فهؤلاء ينظرون إلى الصوم بنظرة سطحية فالصيام عندهم هو مجرد حرمان من الأكل والشرب والجنس. أي أن الصوم هو معاناة مؤلمة مدة شهر كامل. 4) فشهر رمضان في الرؤية القرآنية مؤهل لأن يصبح شهراً خاصاً بالنسبة للمسلمين، ألم ينزل القرآن على النبي في شهر رمضان؟ أليست قدسية القرآن تجعله يحتل المنزلة الأولى في قلوب المسلمين؟ إن الميزات التي يتصف بها شهر رمضان لابد أنها تشجع المسلمين على تلبية الدعوة الربانية للقيام بصوم رمضان وفقاً لشعائره الخاصة "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" (البقرة/185). 5) أما الجزء الثاني من هذه الآية (185) فيكرر أن المرضى والمسافرين يجب عليهم عدم الالتزام بالصوم إلا في وقت لاحق تسمح فيه الظروف بذلك. ويبدو أن تكرار وضع المرضى والمسافرين يهدف إلى إبراز نقطة مهمة: أن الصوم لايهدف إلى إلحاق الضرر بالصائمين، ومن ثم فيجب تحاشيه إن كان يضر بصحة الصائم. 6) "29 أو 30 يوما" "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" (البقرة/185). إن كل تلك الحوافز الإيجابية لصيام شهر رمضان هيأت الأمر لكي يطلب الله من المسلمين إكمال صوم شهر رمضان. الصوم كامل الشهر فالقرآن يلح على أن يصوم المسلمون، في الظروف العادية، كامل الشهر وليس جزءا منه أو بعض الأيام فقط. وهذا يثير بدوره أسئلة طبية لذوي الاختصاص. فلماذا حددت مدة الصوم بشهر واحد فقط ؟ هل يعني أن صوم 29 و30 يوماً من كل سنة هي المدة المثالية التي يتمكن فيها الجسم الإنساني من أخذ أقصى المنافع الصحية له؟ وهل الصيام 29 أو 30 يوماً بطريقة مستمرة تجلب مصالح صحية أكثر من صيام تلك الأيام في مناسبات مختلفة أثناء السنة؟ هذه بعض الأسئلة التي ينبغي ـ في رأينا ـ أن يطرحها الأطباء المسلمون خاصة الملتزمون بالرؤية الإسلامية. فلم يعد سرا اليوم أن هناك عدة أشكال من الصيام ينصح بالاستشفاء بها علم الطب الحديث لمعالجة عدة أمراض. ومع ذلك فأنماطها لاتكاد تتشابه مع نمط الصوم في رمضان الذي يمتنع فيه الصائم بالكامل عن الطعام والشرب والجنس "وهي مايسميها علماء النفس بالغرائز الثلاث الأولى" أثناء النهار كامل شهر رمضان. ولا يبدو أن هناك ديناً سماوياً أخذ مسألة الصيام بكل جدية كما فعل الإسلام. فبالرغم من انتشار أخلاقيات المادية الغربية في المجتمعات الإسلامية، فإن هناك مئات الملايين من المسلمين الذين يصومون رمضان كل عام. ويمكن القول إن ظاهرة الصيام الجماعية لمدة شهر كامل وفي قارات وأقطار مختلفة من المعمورة تمثل خاصية من خصائص الحضارة الإسلامية: فمن وجهة نظر علم الاجتماع يعزز هذا الصوم الجماعي من أواصر التضامن الاجتماعي داخل كل قطر مسلم وكذلك بين المجتمعات الإسلامية المتعددة والمترامية على الكرة الأرضية. الصوم والتضامن الاجتماعي طول مدة الصوم هو بالتأكيد عامل مهم بالنسبة لنوع التضامن الاجتماعي الذي يكون حصيلة للقيام بنفس الشيء "صوم رمضان" في نفس الوقت. فيمكن القول، إذن، إنه كلما اشترك الأفراد والمجموعات والجماعات في الصيام جماعياً لعدد أكبر من الأيام كان تضامنهم الاجتماعي أكثر صلابة. وهكذا فصوم شهر كامل يلعب دوراً إيجابياً أكبر بالنسبة لتحقيق تضامن جماعي أكبر بين الأفراد من صومهم لبعض الأيام فقط. وبالمثل، هل يمكن القول من وجهة نظر طبية، إن صوم بعض الأيام المحدودة في السنة يعد أمرا غير كاف بالنسبة لاكتساب الجسم البشري الفوائد الضرورية التي يجلبها إليه القيام بصيام شهر كامل وبطريقة مسترسلة؟ تلك هي بعض التأملات حول أثر الصيام لمدة قصيرة أو طويلة على الجسم الإنساني. إن الحاجة تدعو هنا إلى التدليل العلمي القوي من علم الطب الحديث. ونعتقد أن هذا الموضوع ذو أهمية كبرى بالنسبة لعلماء الطب والبيولوجيا، المسلمين على الخصوص.
اترك تعليق