ذكر الشيخ القمي أنه وقعت بيعة العقبة الثانية لأهل المدينة، و ذلك أنهم عاهدوا رسول الله (صلّى اللّه عليه و آله) أن يحفظوه و يحرسوه كما يحفظوا أنفسهم و أن يمنعوه ما يمنعوا أنفسهم، ثم ذهبوا إلى المدينة، فلمّا علم المشركون بهذا الأمر زاد حقدهم و غيظهم، فاجتمع أربعون نفراً من دهاتهم في دار الندوة للمشورة و ظهر لهم الشيطان على هيئة شيخ من أهل نجد، فصار رأيهم على أن يختاروا من كل قبيلة رجلاً و يسلّحوه حساماً عضباً ، فيهجموا عليه بغتة و يقتلوه، فيذهب دمه في قريش جميعاً، فلا يستطيع بنو هاشم و بنو عبد المطّلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم، فيتركوا الأمر إلى الدية.
فاجتمعوا في أول ليلة من شهر ربيع الأول حول دار النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ليهجموا عليه ويقتلوه في فراشه، فهبط عليه جبرئيل و أخبره بمكرهم و نزلت هذه الآية المباركة:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الأنفال: 30] .
فأمر أن يبيّت علياً (عليه السّلام)، مكانه و يخرج هو إلى المدينة، فقال (صلّى اللّه عليه و آله) لعلي (عليه السّلام): «انّ الروح هبط عليّ يخبرني أنّ قريشاً اجتمعت على قتلي و أمرني ربّي أن أهجر دار قومي، و أن أنطلق إلى غار ثور، و انّه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل و صانع؟» فقال عليّ (عليه السّلام): أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبيّ اللّه؟.
قال: نعم، فتبسّم علي (عليه السّلام) ضاحكاً و أهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً، فكان أول من سجد للّه شكراً، فلما رفع رأسه قال: امض لما أمرت، فداك نفسي، و مرني بما شئت أكن فيه بمشيّتك و ما توفيقي إلّا باللّه، ثم ضمّه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلى صدره و بكيا معاً، فأخذ جبرئيل يد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أخرجه من الدار و قرأ النبي (صلّى اللّه عليه و آله): {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } [يس: 9] .
ونثر التراب على وجوههم و قال: شاهت الوجوه، و ذهب اإى غار ثور، و في رواية أنّه ذهب إلى بيت أمّ هاني و في الصباح ذهب إلى الغار.
أما أمير المؤمنين (عليه السّلام) فإنّه بات تلك الليلة على فراش النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و تغشّى ببرده الأخضر الخضرمي، فأراد المشركون الهجوم في الليل، فمنعهم أبو لهب و قال: إنّ في البيت نساء و أطفالاً، فنحرسه الليلة و نهجم عليه صباحاً، فعندما أصبح الصباح دخلوا الدار، فوثب عليّ (عليه السّلام) في وجوههم، فقالوا له: أين محمّد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً، ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم، فنزلت هذه الآية في حق عليّ (عليه السّلام):
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].
ومكث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ثلاثة أيام في الغار، ثم خرج في اليوم الرابع إلى المدينة، فحلّ بها في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، في السنة الثالثة عشرة من البعثة، فصارت هذه الهجرة مبدأ تاريخ المسلمين.
وفي السنة الأولى من الهجرة آخى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بين المهاجرين و الأنصار، وجعل علياً (عليه السّلام) أخاه و كان زفاف عائشة في شهر شوال منها.
من كتاب: منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل / للمؤلف: الشيخ عباس القمي.
اترك تعليق