مما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة : وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقنع بما شرعه لأمته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة. فنقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست على هذه السذاجة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تزوج - أول ما تزوج - بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصرا عليها نيفا و عشرين سنة وهي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب و منهن الشابة و منهن العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء و الولوع بهن و الوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك. على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن و الخلاء بهن و الصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب ونضارة السن و طراوة الخلقة، و هذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه بنى بالثيب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة و هي مسنة، وبنى بزينب بنت جحش و سنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و أم حبيبة وهكذا. وقد خير (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كن يردن الدنيا وزينتها و بين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمل إن كن يردن الله و رسوله والدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا و إن كنتن تردن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما: - الأحزاب 29، و هذا المعنى أيضا - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن. فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بين أول أمره و آخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره و الشبق و التلهي. فقد تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة و ازديادا للعضد والعشيرة، وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقيا من بعض الشرور، وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة والضيعة، وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه عملا لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد، وقد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني وكانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل فيها الآيات. وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والإكراه على الكفر. وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد وكانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها. و تزوج بأم سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة النبي و أخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و تزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر وقتل أبوها مع بني قريظة، وكانت في سبي خيبر فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها فوقاها بذلك من الذل ووصل سببه ببني إسرائيل. وتزوج بجويرية واسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق وقد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء والذراري، فتزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك، ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جما غفيرا وأثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب. وتزوج بميمونة واسمها برة بنت الحارث الهلالية وهي التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تزوج بها وقد نزل فيها القرآن. وتزوج بأم حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان وكانت زوجة عبيد الله بن جحش وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحصنها. و تزوج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر. فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعه (صلى الله عليه وآله وسلم) في النساء، و إحياء ما كانت قرون الجاهلية و أعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة، و أخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو توصيتهن لجامعة الرجال قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "الصلاة الصلاة، و ما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم" الحديث. و كانت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهن و رعاية جانبهن مما يختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به. المصدر : تفسير الميزان – للسيد الطباطبائي / ج 4 / 38 .
اترك تعليق