ولد النبي صلى الله عليه وآله يتيماً فاقداً لحنان والده وعطفه، وذلك بعد أن توفى والده قبل ولادته بأشهر، ليتولى كفالته وتربيته جده عبد المطلب، ويعوضه عطف والده وحنانه، ولكن استمرت معاناة النبي صلى الله عليه وآله، وذلك بعد أن تُوفيت والدته آمنة بنت وهب ليعيش صلوات الله عليه يتيم الوالدين وهو في السادسة من عمره الشريف، ولم تتوقف هذه المعاناة بفقد النبي صلى الله عليه وآله لوالديه، بل جاء الموت هذه المرة ليخطف جده عبد المطلب رضوان الله عليه وهو في الثامنة من عمره الشريف، ليتولى كفالته وتربيته بعد ذلك عمه أبو طالب، وذلك بعد أن أوصاه عبد المطلب بذلك دون أبنائه الآخرين، وهذه وصية عبد المطلب له : " يا أبا طالب إن لهذا الغلام لشأناً عظيما فأحفظه واستمسك به فإنه فرد وحيد وكن له كالأم، لا يصل إليه بشيء يكرهه ... يا أبا طالب انظر أن تكون حافظا لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ولاذاق شفقة امه، انظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك فإني قد تركت بني كلهم واوصيتك به لانك من ام أبيه، يا أبا طالب إن أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس و أعلم الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل وانصره بلسانك ويدك ومالك فإنه و الله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي، يا أبا طالب ما أعلم أحدا من ابائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا امه على حال امه فاحفظه لوحدته".[1] وهكذا نشأ النبي صلى الله عليه وآله في كنف عمه أبي طالب سيد البطحاء وكبير بني هاشم، والذي كان له كالأب الحقيقي يقدم له كل الحب والحنان والعطف، يحاول تعويضه عما فقده من حب وحنان من والديه، حتى وصل الأمر عند أبي طالب لتقدميه على أولاده، لما عرفه وسمعه عن النبي صلى الله عليه وآله سواء من أبيه عبد المطلب أو من أمه آمنة وما لاحظته عند ولادته، أو من مرضعته حليمة السعدية التي رأت كل البركة منذ قدوم النبي صلى الله عليه وآله إلى بيتها للرضاعة، وكذلك كان أبو طالب يلاحظه تلك البركة التي كانت تصاحب النبي صلى الله عليه وآله أينما حل . ومما زاد من خوف أبي طالب على النبي صلى الله عليه وآله ما سمعه من الراهب بحيرى من تحذير له من اليهود، بأنهم يشكلون خطراً كبيراً على النبي إذا علموا بولادته، وذلك حين اصطحب أبو طالب النبي صلى الله عليه وآله معه إلى الشام، والتقوا في الطريق بالراهب بحيرى الذي تعرف على النبي صلى الله عليه وآله من خلال خصائصه وصفاته المذكورة عنده في الكتب، فقام وطلب من أبي طالب الحذر من اليهود ونصحه بالعودة به إلى مكة بقوله : "ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت منه ليبغيّنة شرّاً، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلده" . وكان أبو طالب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله من الموحدين، فقد كان يتّبع ملّة إبراهيم الخليل عليه السلام، وبعد البعثة كان من السابقين الأولين الداخلين في الإسلام، لكنه يخفي ايمانه عن قريش ليوفر الحماية الكافية للنبي صلى الله عليه وآله مستقلاً ما يتمتع به من منزلة رفيعة بين كفار قريش، فكانوا لا يتعرضون للنبي صلى الله عليه وآله خوف من ابي طالب وبني هاشم. وكذلك كان دور السيدة فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب التي قدمت للنبي صلى الله عليه وآله كل الرعاية، فقد كانت شريكة لأبي طالب في رعاية النبي صلى الله عليه وآله والعطف عليه، فقد كانت تعتني برسول الله صلى الله عليه وآله فتجوع وتشبعه وتكسيه وتعوضه عطف وحنان الأم الذي فقده رسول الله صلى الله عليه وآله. وكانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإيمان وكانت بمنزلة الام من النبي صلى الله عليه واله، فلما ماتت كفنها النبي صلى الله عليه واله بقميصه وأمر اسامة بن زيد وأبا أيوب الانصاري وعمر وغلاما أسود فحفروا قبرها، فلما بلغوا لحدها حفره النبي صلى الله عليه واله بيده وأخرج ترابه، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه واله اضطجع فيه وقال : (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لامي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك محمد والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين) فقيل: يا رسول الله رأيناك صنعت شيئا لم تكن تصنعه بأحد قبلها، فقال صلى الله عليه واله: ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها ليخفف .. [2] ـــــــــــــــــــــــــــ [1]- كمال الدين وتمام النعمة - للشيخ الصدوق / ص 170. [2]- ينظر : بحار الأنوار - العلامة المجلسي /ج 35 / ص 179 .
اترك تعليق